•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الثلاثاء، 31 مارس 2009

The Elephant Man

كتب : عماد العذري

بطولة : جون هيرت , أنتوني هوبكنز
إخراج : ديفيد لينش

الفيلم الثالث لديفيد لينش يحكي قصة جون ميريك شاب بريطاني في القرن التاسع عشر عاش حياةً فريدةً من نوعها بسبب الجسد المشوه الذي ولد به و الذي تركه أسيراً للعبودية بفعل جشع الإنسان الذي إستخدمه وسيلة لعرضه في السيرك , قبل أن يلتقطه الدكتور فريدريك تريفيز المولع بدراسة الظواهر الطبية الغريبة و ينقله من حياته الخاوية نحو صفوة المجتمع البريطاني , المجتمع الذي على الرغم من إعترافه به كجنتلمان حقيقي و كإنسان مرهف الحس و الذوق إلا أنه إستمر في التعامل معه كشخص غريب و كأنما قدر للشاب الذي توفي في السابعة و العشرين من عمره أن يعيش كل سنوات عمره أسيراً و سجيناً في قوقعة جسمه المشوه .

يستمر ديفيد لينش في طرق الصورة الكابوسية التي إستلهمها في معظم أفلامه للأهواء و النزعات البشرية , من خلال تمكنه الدائم إستكشاف كل ماهو مروع و شنيع و باعث على الأسى و الرثاء في الصور الحياتية اليومية , و هو إن كان حقق إنطلاقته المبشرة عام 1977 في فيلمه الشهير Eraserhead إلا أن هذا الفيلم الذي رشح لثمان جوائز أوسكار عام 1980 هو ما جلب الشهرة الحقيقية لديفيد لينش , الشهرة التي جعلت أفلامه دوماً محط أنظار المترقبين و المعجبين على مدى أربعة عقودٍ لاحقاً جعلته سيداً لهذه النوعية من الأعمال .

على الرغم من إقراري بأهمية فيلمٍ كهذا و بالعديد و العديد من النقاط الإيجابية التي إمتلأ بها سواءً على الصعيد الإخراجي أو على الصعيد الفني و الفكري , إلا أن هذا الفيلم يُفتتح بصورة سيئة و عديمة المعنى يحاول من خلالها ديفيد لينش أن يضع بصمةً مبكرة له كسبيل نحو ربط أعماله طوال مسيرته القادمة ببعضها البعض , يستلهم في إفتتاحيته الصور المثيرة للوليد المسخ في فيلمه السابق من خلال صورة كابوسية شنيعة ( وعديمة المذاق ) لفيلة تركض و إمرأةٍ تغتصب كمحاولة لخلق مقاربة سوداوية ممهدة للصورة الشنيعة التي سنرى عليها بطل فيلمنا هذا , و مع تقديري لما قدمه لينش في فيلمه هذا – الذي يبدو أكثر أفلامه رقةً و حساسية – إلا أنه لا يمت للرقة و الحساسية بأي صلة في المشهد عديم المغزى الذي يفتتح به فيلمه .

مبكراً جداً يخبرنا ديفيد لينش بالملامح الواضحة لفيلمه , من خلال الصورة الغرائبية التي يقودنا بها للقاء بطله , إحتفالات في المدينة مع أجواء هزلية تبدو غير منطقية و أقرب إلى صورة حلم , عروض مجنونة هنا و هناك , و بين كل هذا نجد عرضاً خاصاً للرجل الفيل , شاب يخضع لسيطرة تاجر جشع يعرضه في السوق للمشاهدة مقابل المال , ربما تمهيد يبدو كافياً حتى و إن كان يتخذ فقط صورة المراقب لما يحدث , نحن لا نقترب من بطلنا إطلاقاً في الفترة التي كان فيها مجرد عرض في سيرك , نحنا حتى لا نرى وجهه المشوه , لينش و كأنما يحاول أن يجعله غامضاً بالنسبة لنا كما كان غامضاً للجميع خلال تلك الفترة , و عندما نبدأ بالتقرب منه و فهم دواخله كان هذا لأنه بدأ بالإندماج في المجتمع البريطاني , نحن نعايش من خلال هذا العمل ذات الصورة التي رسمت للشاب المشوه في تلك الحقبة الفيكتورية , لا نعرف عنه أكثر مما عرفه عنه الناس , و لا نقترب لفهمه إلا عندما يتيح هو نفسه الفرصة لنا بالإقتراب , هذه الصورة التي تراقب و لا تغوص خدمها بشكل واضح – خصوصاً خلال المراحل المبكرة من الفيلم – تقديم العمل باللونين الأبيض و الأسود و طريقة القطع بين المشاهد من خلال التلاشي أو الذوبان إضافةً إلى موسيقى تصويرية تكاد تكون معدومةً في الفيلم , جزئيات توحدت لتخلق صورة تأملية حقيقية لا توجه المشاهد نحو شيء , هي تعرض له و تترك له حرية تشكيل المشاعر التي يفضلها نحو مايشاهده , خالقةً إيقاعاً هادئاً للغاية (و ليس رتيباً) تدعمه بقوة الترقبية التي يصنعها وجود هذه الشخصية الغريبة .

و عقب مشهد الظهور الأول لجون ميرك الذي يبدو مثيراً و محفزاً يحاول ديفيد لينش ألا يبقي صورة ميرك المشوهة هدفاً لمشاهده لذلك نجده يتعمد ألا يظهر وجه ميرك في الكثير من المشاهد , و كأنما الرجل لا يحاول أن يستغل ذلك الوجه كنوع من الحافز لدى مشاهده للإهتمام و المتابعة , يبدو لينش و كأنما يقول بأن المهم هو ليس نظرتنا لوجه المسخ بل غوصنا في جوهره و حقيقته , و هو من خلال طريقة السرد ذاتها التي ينهجها في فيلمه يحاول خلق نوعٍ من (اللاغرابة) في قصة شديدة الغرابة , و في اللحظة التي تفزع فيها ممرضة الإطعام من رؤية وجه ميرك يرينا ديفيد لينش وجهه بطريقة مطولةٍ هذه المرة , و كأنما يحض مشاهده على التمعن فيه و تشكيل صورة منطقية لمقدار الرفض الذي يمكن أن يلقاه رجل بهذه الصورة الممسوخة من قبل المجتمع , لينش يجاري ما يحدث لبطله بطريقة تستحق الإحترام , يبقيه غامضاً في الفترة التي كان فيها غامضاً للجميع , و يصبح مثيراً للإهتمام عندما نبدأ بالإهتمام بحالته , يجعله مرعباً عندما كان بالفعل مرعباً للمحيطين به , و يخلق فيه رقةً حقيقية عندما أسرت رقته و إحترامه صفوة المجتمع اللندني , و يخلق له صورةً كابوسية عندما يجبر على أن يعيش كابوساً حقيقياً عندما إستغله أحد موظفي المشفى للترويج لدى رفاقه في الحانة لقضاء سهرةٍ مجنونةٍ مع ميرك , ديفيد لينش يحاول بطريقةٍ يستحق الثناء عليها خلق نوع من التواصل الحقيقي و التعايش بين مشاهده و شخصيته بطريقة تجعل هذا التواصل هو الحافز الوحيد ربما لإستمرارية الإهتمام خصوصاً مع قصة لا تبحث عن نقطة نهاية حقيقية .

عندما يبدأ الفيلم في الغوص عميقاً يكون ذلك من خلال الطريقة التي تغيرت بها بيئة جون ميرك , الصراع الذي يتأجج بين مستخدم ميرك السابق صاحب السيرك المستغل , و الطبيب فريدريك تريفيز الذي يرعاه الآن , المواجهة بين طريقتي التعامل المختلفتين في ظاهرهما مع شخص غريب مثل جون ميرك , يقول تريفرز لصاحب السيرك (أنت تجني مالاً من شقاء هذا الرجل) فيرد صاحب السيرك (وهل تعتقد بأنك تختلف عني ؟!) , و هي محاولة جيدة من النص لرسم التناقض الأخلاقي الموجود لدى الدكتور تريفرز , ولاءه للحياة العلمية التي عاشها , و للنهج العلمي الذي وحد طريقة تعامله مع جميع الحالات التي صادفها في حياته , يبدو الرجل واقعاً تحت وطأة كون الحالة الجديدة التي يتعامل معها حالةً شديدة الجاذبية بالنسبة للمجتمع , و محاولته ترويض جون ميرك لا تبدو بعيدةً كثيراً عن محاولة تقديمه للمجتمع بصورةٍ أفضل , ربما يبدو الإصرار على إندماج ميرك الكامل مع المجتمع الذي يحيط به نوعاً من العبث , و هي جزئية يدركها تريفرز و يتعايش معها , هو لا يقدم ميرك لمجتمع الصفوة , بل يأتي بمجتمع الصفوة إليه , و هو في الخلاصة لا يرى بأنه يختلف كثيراً عن صاحب السيرك , غيّر فقط الشكليات : طريقة العيش و الملبس و المظهر و المكان , لكن ميرك أصبح في الختام وسيلةً مهمة لجني الأرباح بالنسبة للمستشفى , تريفرز يدرك جيداً بأن مافعله على الرغم من كونه جيداً لجون ميرك إلا أن الرجل سيبقى حتى بالنسبة لأولئك الأشخاص الذين إستلطفوه مجرد شخصٍ مسخ , هم لا يهتمون فعلاً لأمره لكنهم يحاولون التأثير على أصدقاءهم بعبارات من قبيل (لقد شاهدته) (لقد شربت الشاي معه) (لقد قرأ لي مقطعاً من شكسبير) , أهم ما أعجبني في هذا النص هو أنه رغم تطرقه لهذه الجزئية بقوة إلا أنه لا يمنحها - ضمن البنية الدرامية للفيلم - أكثر مما تستحقه , يحاول قدر المستطاع ألا ينساق وراء تحري التناقض الأخلاقي في تعامل الأشخاص المحيطين بجون ميرك معه و ينسى بالمقابل جون ميرك نفسه , هو يوازن بين الجزئيتين بطريقة ذكية و متقنة و تحسب له .

و رغم ذلك إلا أن الفيلم يطرح بالمقابل سؤالاً صارخاً لدى مشاهده : ما هو الغرض الذي يهدف له لينش من تقديم جون ميرك ؟ تساؤل راودني أكثر من مرة أثناء المشاهدة , هل هي حبكة (الجميلة و الوحش) التقليدية عن الشخص المسخ الذي يخفي داخله قلباً من ذهب ؟! , ربما يبدو هذا متناسباً مع قصة رومانسية أو أسطورية يعود فيها المسخ إلى هيئته الحقيقية في الختام , لكن قصة جون ميرك لا تبدو كذلك , و لا أبالغ إذا قلت بأن تقديمها يبدو بدون هدف , و العبرة التي يريد منا النص إستخلاصها عن الشجاعة و العزيمة و التصميم و البحث عن المكانة لا تبدو منطقية , جون ميرك لم يتعامل في حياته مع (خيارات) , خيارات يمكن أن تجعل سرد قصته ملهماً للكثيرين , جون ميرك لم يكن لديه أي خيار , كان لديه سبيل واحد فقط , شخص ولد مشوهاً للغاية و عليه أن يعيش هكذا , جون ميرك أضطر للتعامل مع وضعه و كان مسيّراً طوال مراحل حياته , لا تستطيع أن تستخلص عبرةً حقيقية مكتملةً من تقديم حياته بالمعنى التقليدي للعبر المستقاة من تقديم مآسٍ كهذه , حتى على صعيد محاولات الرجل أن يكيف حياته مع وضعه الصحي , الفيلم لا يصور الرجل و كأنما يكافح ليصل للصورة الحسنة التي تركها لدى مجتمع الصفوة البريطاني , بل ينهج نهجاً يبدو مستدراً للعاطفة في محاولةٍ للتأثير في مشاهديه , لك أن تتأمل أن جون ميرك القادم لتوه من بيئةٍ لم يتحدث فيها حرفاً واحداً و عاش كل حياته الماضية (21 عاماً) كحيوان , أصبح فجأةً يتكلم و يقرأ و يحفظ الأشعار و يتعامل برقي مع من يحيطون به , قفزةٌ تبدو مفتعلة (رغم إمكانية حدوثها) , و سبب هذه الإفتعالية هو تجاهل النص لتبرير إمكانيتها , و إصراره على عدم تقديم جون ميرك كشخص يجد صعوبة ذاتية (وليست خارجية) في الإندماج في المجتمع , يقدم ميرك كشخص إعتيادي مشكلته الحقيقية هي رفض المجتمع له بسبب شكله الغريب , و هي جزئية لا تبدو منطقية مع شخص وجد نفسه فجأةً في مجتمع و بيئةٍ غريبين عنه .

بالمجمل هو فيلمٌ مهم و مختلف , عابه في مجمله قصور في تعامل نصه مع شخصية جون ميرك و دواخلها و إصراره على تقديمها إنطلاقاً من الخارج , عابه بعض التشويش المونتاجي لإنسيابيته بفعل تعمده القطع المبكر (الذي يبدو مبتوراً) في ختام كل مشهد , لكنه قدم قصة عاطفية مؤثرة عن إنسانٍ حكمت عليه ظروفه أن يعيش في مجتمع لا يتقبله و يرفض أن ينظر إلى داخله عوضاً عن الإهتمام بخارجه , مخدوماً بأداءٍ مرهف الحس و مؤثر و قادر بسهولة على الوصول و الإختراق من السير جون هيرت لشخصية جون ميرك رغم أنك لا تشاهد وجهه و ردود فعله المعبرة في أي مشهد من المشاهد , و أداء متفهم و مدروس من السير أنتوني هوبكنز لشخصية الدكتور فريدريك تريفيز , و الكثير و الكثير من الحنكة الإخراجية التي اعتدناها دائماً من واحدٍ من أفضل أبناء جيله من المخرجين .

التقييم من 10 : 8.5


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters