•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الاثنين، 22 أكتوبر 2012

Cosmopolis

كتب : عماد العذري

بطولة : روبرت باتينسن ، جولييت بينوش ، سامانثا مورتون ، بول جياماتي
إخراج : ديفيد كرونينبيرغ

هناك مخرجون يجبرونك ما أن تنتهي من مشاهدة فيلمٍ لهم على التفكير ملياً فيما شاهدت ، تشعر أثناء مشاهدتك للفيلم بأن ما تراه أمرٌ لا يمكن التقاطه واستيعابه من مشاهدةٍ واحدة ، ثم تستمر صور الفيلم في مراودة مخيلتك من حينٍ لآخر ، وتذهب بعيداً وأنت تحاول حصر تلك المتعة الغامضة التي حصلت عليها من مشاهدته ، لتكتشف بعد فترة بأنك لم تحصل سوى على طاقةٍ سينمائيةٍ وهمية لا تلبث أن تتلاشي بعد بضع مشاهدات ، ديفيد كرونينبيرغ يبدو على النقيض من ذلك تماماً .

الكندي الكبير يعود هذا العام من خلال إقتباسٍ لروايةٍ صعبةٍ كتبها دون دي ليلو و لم تحقق النتائج المرجوة عند إطلاقها عام 2003. ربما الخطوط العريضة للعمل الأدبي (الذي لم أقرأه في الواقع) توحي إلى حدٍ بعيد بصعوبة اقتباسه أدبياً. تبدو ملامح الرواية مزيجاً معاصراً من ملحمة جيمس جويس (عوليس) ومسرحية صموئيل بيكيت (في إنتظار غودو) ، طبعاً بمواضيع مختلفة تتضمن الإنحطاط الروحاني والجمود العاطفي والمادية الفجة ضمن قالبٍ يضع مستقبل الرأسمالية ومستقبل الكوكب الخاضع لها محوراً له .

كرونينبيرغ في أولٍ نصٍ يكتبه لفيلم منذ eXistenZ عام 1999 يحكي قصة إيريك بيكر الملياردير الشاب وأحد أشهر رموز الرأسمالية الحديثة الذي يصر ذات يومٍ - يتكبّد فيه خسائر بالملايين كل دقيقة - على القيام برحلةٍ إلى الطرف الآخر من نيويورك من أجل حلاقة شعره لدى الحلاق المفضل لوالده. يستقل بيكر الليموزين الفخمة المصفحة التي يمتلكها والمجهزة بكافة وسائل الرفاهية وينطلق صوب النصف الآخر من المدينة العملاقة. لكن الرحلة ستطول ، حيث موكب الرئيس الأميركي سيغلق بعض الشوارع لبعض الوقت ، وبعض المحتجين الغاضبين سيجعلونه يخسر وقتاً إضافياً أيضاً ، قبل أن تُضيع الجنازة الفخمة لأحد أهم مغنيي الهيب هوب ما تبقى من يومه. بيكر لا ينزعج لكل ذلك التأخير ، هو يستطيع القيام بكل شيءٍ في سيارته الفخمة .

الشعور الذي راودني خلال الربع الاول من الفيلم كان شعوراً مشوشاً جداً. بالنسبة لي مشاهدة فيلمٍ جديدٍ لديفيد كرونينبيرغ يعد حدثاً أنتظره ، وأكاد أجزم بأن شعور التشويش الذي شعرت به كان شعوراً من المقت الشديد ربما لدى أي مشاهدٍ آخر ، ولا أستطيع ان أقول بأن شعوري تجاه الفيلم كله في الختام قد تطور كثيراً ، نعم تحسن ، لكنه صنع لدي قناعةً ما - أكثر من كونه شكل لدي رأياً - بأن رواية دون دي ليلو هذه ليست روايةً سينمائيةً بالمرة ! سمها ما شئت ، واستخدم الفن الذي تحب في اقتباسها ، لكن ابتعد بها قدر المستطاع عن السينما !

كرونينبيرغ يقتبس هنا رحلةً فريدةً من نوعها لرمزٍ من رموز الرأسمالية الحديثة ، الطفرات الاقتصادية الشابة التي تناثرت هنا وهناك وأمسكت بقوت الملايين و أرزاقهم في قبضتها. إيريك بيكر يقرر القيام برحلةٍ من أجل حلاقة شعره ! تبدو الفكرة ساذجةً إلى حدٍ ما ، لكن الأمور تختلف مع مرور الوقت. إيريك يُختزل من خلال عبارةٍ نسمعها عن (أسطورتهم) - في إشارةٍ له ولأمثاله - تقول (جميعنا شباب ، وأذكياء ، وربّتنا الذئاب). صورة مجردة للقالب الذي وُضع فيها إيريك وغيره من محركي الإقتصاد العالمي الصاعدين بسرعة الصاروخ والمتمددين مثل سيلٍ جارف. (الناس يأكلون ويشربون وينامون تحت ظلال ما نقوم به) كما يخبره صديقه. إيريك على النقيض مما يبدو شخصيةٌ تعاني الإفلاس ، ليس الإفلاس المادي الوشيك الذي ينتظره ، و إنما الإفلاس الروحي المرعب الذي نتأمله أثناء رحلتنا معه. وبالرغم من هذا الإفلاس الروحي إلا أننا نتابع معه هنا أحد أكثر أيامه روحانية : اليوم الذي يقرر بها بعث شيءٍ حميميٍ حقيقيٍ في حياته الجافة والذهاب إلى أقصى المدينة من أجل قصة شعرٍ لدى حلاق والده ، هو نفسه اليوم الذي يعاني فيه أيضاً من نزيفٍ ماديٍ ضخم ! معادلةٌ واضحة في صراع الروحانيات والماديات لدى الإنسان ، عندما يحصل الإنسان على أحدهما كثيراً يفقد الآخر بشدة. تيمةٌ أعتقد بأن كرونينبيرغ تأخر في الإشتباك معها بهذه المباشرة والتركيز بالرغم من أنه اقترب منها على مسافاتٍ مختلفة في الكثير من أفلامه. 

من خلال شخصية إيريك يحاول كرونينبيرغ قول الكثير عن الرأسمالية. نشاهد من خلال هذه الرحلة ثروة إيريك بيكر - المرتبطة بتغيرات اليوان الصيني - تُستنزف على مرّ الثانية في إشارة واضحةٍ للنفوذ الصيني على اقتصاد العالم اليوم. نتأمل هنا إيريك بيكر و هو يراقب تغيرات اليوان على أطراف أصابعه من مقعده المثير في سيارته الفخمة وكأنما يُلقي النص من خلال هذه الشخصية نظرةً تأمليةً على نهاية العالم ، أو على تلك الإرهاصات الموجودة قرب النهاية من خلال تيمات ديفيد كرونينبيرغ المفضلة حيث العلاقة - المترقية بطريقةٍ لا يمكن ردعها - بين الإنسان والتقنية ،  حيث دونية الإنسان ووضاعته تبلغ مداها ، وحيث تصل العلاقات البشرية المعتادة ذروة جمودها حتى على مستوى علاقة بيكر بزوجته التي لم يمضِ على زواجه منها بضعة اشهر والتي تبدو كأبرد علاقة زواجٍ يمكن أن تشاهدها في فيلم ! يتأمل النص بصورةٍ خاطفةٍ وهازلة الاحتجاجات التي تضرب العالم ويقف وراءها في الأساس رجالٌ (ربّتهم الذئاب) على شاكلة إيريك بيكر. السحق والتباين الإجتماعي والدمار الإقتصادي تطغى وتكتسح بينما أناسٌ هناك يراقبون المنظر من أماكنهم المحصنة أو من سياراتهم المصفحة. يختبر كرونينبيرغ المشاعر التي ولّدت هذه الفجوة الإنسانية غير المسبوقة في نمط العلاقات التي تحكم البشر في الألفية الجديدة : حب السلطة ، والرغبة بالأمان ، وإحتقار الأضعف ، والبقاء للأقوى ، والشعور بالخوف ، وسطوة الإعلام ، والمتع الجنسية الصرفة الخالية من أي عاطفة ، ورغبات الإنعتاق والشعور بالحرية. يبدو هذا الإقتباس متطرفاً جداً في محاولته تقديم كل ذلك من خلال رحلة رجلٍ ضمن سيارةٍ فارهةٍ على مدى ساعةٍ ونصف .

وعلى خلاف جميع ما قرأت عن الرواية طوال فترة انتظاري لعمل كرونينبيرغ لم يتطرق الفيلم لنهاية العالم المحتوم بالسيطرة الكاسحة للرأسمالية أو بإنهيارها من منظور تبعات الحادي عشر من سبتمبر. يبدو بأن كرونينبيرغ يلغي هذا الحاجز الزمني متناولاً حركات الإحتجاج التي ضربت العالم كله كرد فعلٍ أوضح وأعمق وأكثر حقيقية لتلك السيطرة. يجرّد كرونينبيرغ الرأسمالية من حتميتها و ينأى بها عن الظهور كنتيجةٍ مصيريةٍ ويصور ذروتها ونهايتها كردّ فعلٍ حدث نتيجة الشعور المتناقض بكل تلك المشاعر إلى الدرجة التي تصبح معها – و دون أن ندري – الدم الجاري في عروقنا مهما كان الصف الذي نقف فيه منها. هناك نوعٌ من الفوضى الخلاقة التي يسعى كرونينبيرغ لتجسيدها كصورةٍ تحاكي رد الفعل الذي تشكل تجاه بلوغ رأس المال وعبودية التقنية ذروة سيطرتهم و نفوذهم على جميع مفاصل حياتنا. موضوعٌ يعشقه الكندي ولطالما قاربه في الكثير من أعماله. يستخدم كرونينبيرغ أيضاً تيماته الأزلية : التحول ، والجنس ، وعلاقة التقنية بالجسد ، لعرض إختلال القوى العالمي ! ليست القوى التقليدية التي تحكم العالم بلغة السلاح والمصالح ، وإنما القوى الحقيقية التي تحكم كل شي : المشاعر. يعرض كرونينبيرغ ما يشبه نبوءةً فريدةً عن مصير الرأسمالية الوشيك الذي يجسده إيريك بيكر حيث المال (فقد جودته القصصية) كما تخبره مستشارته ، وهو مصير قادها إليه انعدام التوازن الذي ولّدته في كل شيء. نرى عدم التكافؤ العاطفي في حياة إيريك بيكر (في تأمل علاقاته الجنسية المتعددة بالمقارنة مع علاقته الجليدية بزوجته) ، وعدم التكافؤ الروحي وعدم تصالحه مع ذاته قبل كل شيء ، وعدم التكافؤ بين شعور الرعب الذي يولّده لدى الآخرين والشعور بالأمان الذي يولّده لذاته (والذي يتجلى في أكثر من موضع أهمها مواجهته مع محتجٍ يؤديه ماثيو أمالريك) ، دون أن ننسى رمزية الجسد المعتادة عند كرونينبيرغ حيث يشتكي إيريك أكثر من مرة من عدم تناظر خصيتيه !

على هذا المستوى يبدو نص كرونينبيرغ قيّماً بالفعل ، لكن مشكلته الرئيسية أنه يريد قول الكثير جداً في وقتٍ قصيرٍ جداً وضمن المدة الزمنية الحقيقية لرحلة السيارة ، لذلك هو يعتمد على الحوار كثيراً بطريقةٍ تُمسرح الحدث بل وتجرّده من أن يكون حدثاً فعلاً. يُنتج هذا التقييد فيلماً حوارياً بإسراف يصبح أكثر مباشرةً قرب الختام - لكن بما يتناسب مع هذه الحوارية - عندما يرسمُ صورةً بسيطةً ومباشرة للموت الذي تقود الرأسمالية نفسها إليه من خلال صراعها الذي لن يتوقف مع الطبقات التي صعدت على حسابها وكانت وقوداً لها. يعرض الفيلم صورةً مباشرةً لطريقة الموت التي يقود البشر انفسهم إليه - على الرغم من أنني لم أستوعب تماماً الطريقة التي وجد بها إيريك بيكر وبينو ليفين بعضيهما البعض قرب النهاية !! كل هذا من خلال رحلة ملحميةً بالفعل ، تستنزف كل البرود الممكن لدرجةٍ تبدو معها رحلةً ميثولوجيةً بلا بدايةٍ أو نهاية ، لكن هذا البرود كان أساسياً لها لفرض عمقٍ حقيقيٍ لكل ما تريد قوله ، و قليل من الدفء فحسب كان ليقضي عليها برأيي.

مع ذلك، لا يستغل كرونينبيرغ بعضاً من تيماته المهمة على النحو المطلوب. هو ينجح في تكثيفه على (جنون الوقت) ، حيث العالم المتسارع الذي وصلنا إليه ، وحيث الفتى الذي كبر قبل أوانه وصار مليارديراً قبل أن يكمل الثلاثين ، وحيث الثروات الضخمة تقف على حدود الزمن وتتهاوى في ثوانٍ قليلة ، وحيث وقفةٌ صغيرةٌ ضمن خطاب وزير الإقتصاد أثرّت في التعامل المادي في السوق في ذلك اليوم ، وحيث رحلة السيارة من أجل قصة الشعر تلك تبدو رتيبةً وطويلةً وكئيبةً في هذا العالم المتسارع. هنا ينجح كرونينبيرغ برأيي. لكنه لا يُوفّق تماماً في توظيف بعد (الجسد) الذي لطالما كان موضوعه المفضّل حتى وإن غازله في أكثر من مناسبة. تبدو اشاراته مجرد تذكاراتٍ من فيلمٍ يخرجه أستاذٌ رعب الجسد الأول ديفيد كرونينبيرغ : الندبة التي لا يدري لها إريك بيكر حلاً فيطلب منه طبيبه (تركها لتعبّر عن نفسها) ، خصيتاه غير المتناظرتين ، علاقة الإنسان بحاجاته الجسدية سواءاً من خلال الفحص اليومي الذي يجريه إريك أو من خلال علاقاته الجنسية ، كلها أمورٌ تدعم روح الفيلم و مناخه العام دون أن تضرب في صميمه كما فعلت في أفلام كرونينبيرغ من قبل .

كرونينبيرغ المخرج تفوق بوضوح على كرونينبيرغ الكاتب الذي وقع ضحية هذه الرواية اللاسينمائية فانساق وراء مسرحيتها الصارخة. الشعور الذي تخلقه صورة كرونينبيرغ في المشاهد يبدو كفيلاً إلى حدٍ ما بترميم خواء الحكاية أو بملء الفراغ التعبيري في لحظات النص الخالية من الحوار على قلتها ، والإحساس بأن الدنيا برمتها تتغير خلال رحلتنا من أجل قصة الشعر تلك هو احساسٌ يصل بقوة ويصعب الإلتفاف عليه أو تجاهله. يولد فينا كرونينبيرغ من خلاله صورته السريالية هذه شعوراً غريباً بأن العالم بأكمله يتحرك بحركة هذه السيارة ، وهذا امتيازٌ لمخرجٍ كبير بالفعل. النص مزدحمٌ جداً بسبب زخم الرواية ذاتها ربما ، لكن كرونينبيرغ يحاول جاهداً جعله ملائماً للمشاهد من خلال تصوير الحدث ضمن المدة الزمنية ذاتها لرحلة السيارة ، كما عمِل بوضوح على اعطاء نوعٍ من الرحابة الظاهرية للسيارة من الداخل لاعطاء دفعٍ مهم للصورة التي يود تقديمها عن (السيارة التي تختزل عالماً بأكمله)! جزئيةٌ خدمه فيها - كالعادة - مدير تصويره الأثير بيتر سوتشسكي الذي قام بتصوير أعمال كرونينبيرغ منذ Dead Ringers عام 1988. كاميرا سوتشسكي تتحرك بسيولةٍ لافتة داخل السيارة وخارجها ، وإضاءته تستحضر ما أحببناه في The Fly داخل السيارة ، و الكثير من Naked Lunch في مشهد المواجهة عند النهاية .

صحيح أن كرونينبيرغ يبتعد هنا عن إثارة الهلع لدى مشاهده وهي مهارةٌ لطالما برع فيها ، وصحيح أن برود الشخصيات يبدو قاتلاً بالرغم من كونه مقصوداً ، وصحيح أن أداء روبرت باتينسن يبلغ درجة التخشب في تصوير إفلاسه الروحي و لا مبالاته ، إلا أن هذه الأمور المنتقدة تصب - برأيي - في مصلحة العمل قبل كل شيء بالرغم من أنها تفقد جزءاً من تبريرها بفعل ثغرات النص الواضحة على مستوى برود الحبكة وتطور الحدث ، الأمر الذي يجعل من الفيلم في كثيرٍ من مراحله مضجراً ورتيباً ومشوشاً في ترابطه ، كما أن مسرحة كرونينبيرغ للعمل – المسرحي اساساً – على مستوى تأسيس وتقديم شخصياته – الهزلية نوعاً ما – منح الشخصيات عمقاً أكبر ومعانٍ أبعد مما تبدو عليه. مع ذلك يبدو كرونينبيرغ ضحيةً بالنتيجة لهذا العمل الادبي الذي هو اصعب بكثير من أن يتم اقتباسه سينمائياً. ومع أنني أرى أن ما قدمه كرونينبيرغ هنا هو أفضل صورةٍ ممكنةٍ لقصةٍ كهذه ، وأشعر بأن قيمة الفيلم ربما ستزداد مع مرور السنوات ، إلا أنني أعتقد بأن عشاق كرونينبيرغ وقلةٌ فقط من مريدي السينما فقط هم من سيتقبلون ما شاهدوه هنا .

التقييم من 10 : 6



0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters