•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الأحد، 17 فبراير 2013

Rhino Season

كتب : عماد العذري

بطولة : بهروز وثوقي ، مونيكا بيلوتشي ، بيرين سات
إخراج : بهمان غوبادي

لكل نظامٍ سياسي ضحاياه ، يُرمون في السجون ، تسحقهم السنون ، تمضي بهم الى غير رجعة ، أحياناً بجرم فعلي من وجهة نظر ذلك النظام ، وأحياناً بجرمٍ لم يرتكب حتى لو تصالحنا مع فرضية كونه جرماً ! وعندما تكون جريمتك هي قصيدتك التي لم تكتبها ، تكون الحروف أبسط من تجسيد تلك الطعنة التي تصيب شاعراً وترميه وراء القضبان لثلث قرن ، ربما لم يكن لأداةٍ أن تجسد ألم شاعرٍ أكثر من قصيدة ، ولم يكن لوجدان شاعرٍ أن يُختزل على الشاشة سوى بصورةٍ لها كل هذه الشاعرية. هكذا تكلّم بهمان غوبادي !

قصةٌ طويلةٌ ومؤلمةٌ من المعاناة وصلت ببهمان غوبادي إلى هنا ، أحد أبرز الأسماء في الجيل الثاني من الموجة الإيرانية الجديدة يكاد لا يوازيه ذكراً وأهمية سوى أصغر فرهادي وبشكلٍ أقل رافي بيتس. رجل الوثائقيات الشهير في إيران عمل مخرجاً مساعداً لأشهر رموز الجيل الأول من الموجة الإيرانية عباس كيارستامي في فيلمه The Wind will Carry us عام 1996 وتحوّل للأعمال الروائية الطويلة عام 2000 عندما قدم من خلال باكورة أعماله A Time for Drunken Horses أول عملٍ سينمائيٍ طويل باللغة الكردية . يقدّم غوبادي هنا عمله الروائي السادس والأول خارج بلاده بعد معاناةٍ طويلة مع حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بدأت مع فيلمه الرابع Half Moon الذي أخرجه عام 2006 وقوبل بردة فعلٍ عنيفةٍ من قبل الحكومة الإيرانية منع على إثرها من ممارسة عمله في بلاده ، لكنه ضرب بقرار المنع عرض الحائط ومضى ليخرج فيلمه الخامس No One Knows about Persian Cats عام 2009 والذي خلق له مشكلةً كبيرةً مع نظام بلاده حوكمت على خلفيته صديقته الأمريكية روكسانا صابري بالسجن لثمانية أعوام قبل أن تخرج لاحقاً بعد قضائها ثلاثة أشهر ، يومها ذهب غوبادي بفيلمه إلى مهرجان كان ولم يعد بعدها !

عندما قرأت قصة غوبادي قبل عامين أحسست بكم يبدو الأمر قاسياً على الفنان عندما يضطر لمغادرة بلاده بسبب فنّه ، وأدركت حجم الأسى الذي تحمله كلمات الرجل الذي بدى حينها وكأنما يميل ليتخلى عن كل شيء لأنه يعيش في سجنٍ مهما اختلف مكان اقامته. ثم سعدت كثيراً عندما قرأت قبل عامٍ تقريباً حواراً له يتحدث فيه عن استقراره في تركيا ورغبته في العمل على مشروعٍ جديد يختزل معاناة ثلاثة أشخاص مع قسوة المنفى الروحي والجسدي بسبب فنهم. حقيقةً لم أهتم كثيراً بالتفاصيل حينها خصوصاً وأن الموضوع برمّته لم يكن سوى مجرد فكرةٍ في رأس صاحبها. ثم فوجئتُ في افتتاحية هذا الفيلم أن الرجل يستند إلى قصة رجلٍ واحد ، شاعرٌ كرديٌ تربطه علاقة صداقةٍ بعائلة غوبادي يدعى صادق كامنغار قضى 27 عاماً في سجون الحكومة الإيرانية بسبب تهمةٍ ملفقة ، في الواقع هناك شخصان آخران فعلاً يستلهم هذا النص معاناتهما .

الحكاية عن ساحل فرزان ، شاعر سنّي كردي من الشعراء الشباب لحقبة الشاه ، ومينا دراخشاني إبنة العائلة الشيعية النافذة في حكومة الشاه ، يقعان في الحب ويتزوجان. سائق مينا الذي يدعى أكبر واقعٌ في حبها أيضاً ، ومع قيام الثورة الإسلامية الإيرانية تتشابك علاقات أكبر مع النمو المضطرد للمد الثوري وينال مكانةً مهمةً ضمن القوى النافذة الجديدة في البلاد. وبتحريضٍ من أكبر يسجن ساحل بتهمة كتابة قصائد سياسية ضد حكومة الثورة ، يغيّب في السجن 30 عاماً وتُسجن زوجته مينا لعشر سنوات بتهمة التعاون مع زوجها. بعد خروجها تسأل عنه فتعلم أنه مات في سجنه ، تلملم جراحها وتتزوج أكبر الذي يبوح لها بمشاعره ويلح في ذلك ، ثم تغادر إيران مع زوجها وابنائها بإتجاه اسطنبول. بعد عشرين عاماً يطلق سراح ساحل ويبدأ رحلة بحثه في ماضيه .

في صورته البسيطة لا يمثّل هذا العمل بأي حالٍ من الأحوال فيلم سيرةٍ ذاتيةٍ لشاعرٍ مجهول قهره جحيم السجن لثلاثة عقود. هو في صورته البسيطة قصة حبٍ على خلفية التغيرات السياسية العميقة التي أحدثتها الثورة الإسلامية في إيران ، وفي صورته الأوسع هو نظرةُ شاعريةُ من عيني شاعر على المحنة العظيمة التي عاشها بين نزوة حقدٍ شخصية قلبت حياته رأساً على عقب و وضعٍ سياسي جديد قلب بلاده رأساً على عقب ، لكن بالطبع دون إغفال التعامل مع الهوية الكردية الذي كان ديدن بهمان غوبادي في سائر أفلامه الستة .

في هذا النص يقدم بهمان غوبادي رجلاً خسر كل شيءٍ في حياته ، بالمعنى الحرفي للكلمة. خرج من سجنه بعد ثلاثين عاماً ، دون مأوى ، دون عمل ، دون تاريخ ، دون مستقبل ، دون بلد ، دون عائلةٍ أو أصدقاء ، لكن رفقة شيءٍ واحدٍ فقط : الذاكرة ، وهي هنا ليست مجرّد ذاكرة ! إطلاق سراح شاعرٍ بكل ما يملكه الشاعر من حسٍ وذاكرة بعد ثلاثين عاماً من الظلم ربما هو أشد قسوةً من السجن ذاته. هل ينسى ؟ هل يتخلى عن ماضيه ؟ هل يعلم تماماً بحقيقة ما جرى له ؟ و هل يغفر لو علم ؟ تلتمس ذاكرة الشاعر ما نعجز نحن عن التماسه. تبقيه حياً برغم السنوات ووطأة الجرح. وذاكرته هذه تتوازى مع فضوله ، تماماً مثل Oldboy ، فضول تجاه اسئلةٍ كثيرةٍ بحاجةٍ لإجابات : ما الذي جرى في غيابه ؟ أين ذهبت مينا ؟ هل أنجب ؟ والأهم من كل ذلك : من كان وراء كل هذا ؟!

مع حكايةٍ كهذه يكون التجسيد الدرامي بحد ذاته مفجعاً ، لكن الترجمة البصرية التي ينتهجها غوبادي في فيلمه تخفف كثيراً من فجاجة ذلك التجسيد ، لكنها بطريقةٍ ما تزيده حرقةً وقسوة لأن شاعريتها وبطء إيقاعها تتيح للمتلقي الفرصة في تأمل الوجع بتأنٍ وهو يرسم على الشاشة ! النص بالرغم من تراجيدية تلك الحكاية لا يقدم نفسه كعملٍ عن الحبكة وإنما عن الطريقة التي ترى بها شخصية الفنان و رهافة حس الشاعر حجم المأساة التي تعرضت لها وهنا يكمن ربما اعجاب المتلقي بالعمل أو خيبة أمله تجاهه. كل لوحات الفيلم المرصوفة إلى جوار بعضها هي إنعكاسٌ للطريقة التي يتأمل بها ويتجول بها ساحل في دواخله. لا ينهج غوبادي نهجه الصامت في معظمه تجنباً لحوارٍ قد يفقده بعضاً من قيمته بقدر ما هو ينهج ذلك تماشياً مع القيمة الفنية للشعر كوسيلةٍ وكأدواتٍ تعبيريةٍ / بيانيةٍ / تصويريةٍ / رمزيةٍ / مؤثرة. معالجة غوبادي لمحنة ساحل فرزان فاتنةً للبصر ، حتى وهو يحقق إنتقامه يكون الفيلم شاعرياً في ذلك ! صحيح أن ذلك يكون مفرطاً في بعض المواضع التي تهز من قيمته بالذات عندما يتعامل مع الشخصيات الأخرى في الفيلم ، كما هو الحال في محاولة تجاوز الإبتذال في تشكّل العلاقة بين ساحل والمومسات والتي تبدو هشة التوليف مع الجرعة الشاعرية العالية في الفيلم بالرغم من أنها قابلةٌ للتصديق ، خصوصاً و أن لغة غوبادي البصرية لا تحاول أصلاً أن تتجاوز و لو قليلاً ذلك النفس الشاعري الصامت في تعامله مع الشخصيات الأخرى فيبدو حزنها بالنسبة لنا محمّلاً بذات العبق الشاعري لحزن ساحل وصمته بالرغم من التباين الشديد في التركيبة النفسية لشخوص الحكاية. مع ذلك فعظمة الصورة تخدمه كثيراً في الحفاظ على ايقاعه وربما في تخدير المشاهد تجاه ذلك التعامل الشاعري الفائض أحياناً ، وهذا في اعتقادي نابعٌ من حميمية الحكاية بالنسبة لغوبادي نفسه. الكثير من تأملات ساحل الشعرية هي إنعكاسٌ لغوبادي ذاته. يبدو في منفاه التركي و كأنما يستذكر بأسى – كما يستذكر ساحل – ماضيه و أعماله السينمائية. تلتقط كاميراه القطط في شوارع اسطنبول و كأنما يستذكر فيلمه الخامس No One Knows about Persian Cats ، نشاهد بطله يتأمل سلحفاةً تحاول استعادة وضعيتها في يومٍ ماطر و كأنما يستذكر فيلمه الثالث Turtles Can Fly ، ثم نشاهد حصاناً يدخل رأسه في سيارة ساحل وكأنما بغوبادي يتذكر فيلمه الأول A Time for Drunken Horse . بحث ساحل عن الإنعتاق في رحلته نحو إسطنبول هي إنعكاسٌ لرحلة غوبادي ذاته الذي أبعد – اختيارياً - من بلاده لجرمٍ لم يرتكبه قبل أن يستقر في تركيا التي أنتجت له فيلمه هذا. إحساسُ غوبادي بالحكاية عالٍ جداً ، يبدو أكبر بكثير من احساس سيناريست بقصةٍ حقيقيةٍ قرر تحويلها إلى فيلم ، و هذا لا يتوقف عند غوبادي ! هالني جداً - عندما حاولت أن أعرف القليل عن بطل الفيلم بهروز وثوقي - اكتشاف المسيرة العظيمة التي حققها الرجل في السينما الإيرانية قبل الموجة الجديدة والتي كان واحداً من أهم أساطيرها و حقق لها 90 فيلماً قبل أن يغادر البلاد مع الثورة الإسلامية الإيرانية ليكتفي بأدوار صغيرةٍ لا تليق بقيمته. هنا فقط أدركت ما الذي كان يعنيه بهمان غوبادي عندما قال أنه استلهم فيلمه هذا من محنة ثلاثة أشخاص ، واستلهام بهمان غوبادي لمحنة صادق كامنغار بكل ما فيها من تقاطعاتٍ مع محنته الذاتية وإسناد الدور بالذات لبهروز وثوقي هو ذروة ما يمكن أن يناله فيلمٌ كهذا من سطوةٍ وتأثيرٍ في المشاهد. الفيلم يقول الكثير دون أن يتكلم ! لا يحتاج لأي رسالةٍ سياسيةٍ ليهجو ما حصل لهذا المثلث ، ولا يحاول أن يقدم أي تعليقٍ على ما جرى. خلفية حكايته بحد ذاتها أبلغ من أي رسالة وأي تعليق ، وتأملنا لبهروز وثوقي بشعره الأبيض وصمته المطبق في الدور الرئيسي أبلغ من أي شيء. ساحل الذي نراه في بهروز وثوقي موجوعٌ حقاً ، مشوش ، كثير الشرود ، لكن رغبته تجاه ماضيه يقظة. حتى عندما يمضي بنا غوبادي تجاه النهاية التي تبدو إنتقامية – على خلاف ما يوجّهنا النفس الشاعري طوال الفيلم – يثبت لنا أنه لا يهتم برغبات رجلٍ قضى ثلاثة عقودٍ في السجن قدر اهتمامه بنظرة ذلك الرجل للعالم بعد كل تلك المدة ، وعلى هذا المستوى هو ينجح جداً في ذلك .

نجاح الفيلم الأهم برأيي هو تجسيد شاعرية النص الصارخة بصرياً . هنا بالذات يثبت بهمان غوبادي أكثر من أي مرةٍ سابقة أنه الأكثر شاعرية والأكثر خصوصيةً على الصعيد البصري بين كافة أبناء الجيل الثاني من الموجة الإيرانية أمثال ماني حقيقي و بابك بيامي و رافي بيتس و أصغر فرهادي حتى لو اختلفنا على مكانته بينهم. صورة الرجل لا تضاهى. سلاحه الأول في ذلك هي كاميرا تورجاي آصلاني التي تتفهم جداً شاعرية القصة وتختزل اللون بشدة وتوازن الظلال وضوء الشمس بطريقةٍ تعكس نظرةً شاعريةً حميميةً من عيني رجلٍ قضى ثلاثين عاماً بعيداً عن ضوء الشمس ! عندما تلتقط كاميرا آصلاني السجن تجعله جحيماً حقيقياً خارجاً من قصةٍ من قصص القرون الوسطى أو لوحةً من لوحات أمير بلاد فارس ، ثم لقطة وراء لقطة و كادراً إثر آخر ، وكأنما خرج ساحل فرزان من سجنه ليدعونا إلى معرضٍ تشكيليٍ يتناول صوراً من حياته ! لا تدرك بعد هذا العيد البصري كم لقطةً عظيمةً هنا ؟! كم كادراً لا ينسى ؟! الكثير و الكثير ! حتى عندما تشعر في بعض المواضع بأن العمل تحوّل بهدفه إلى درسٍ تصويريٍ في طرق الترجمة البصرية أو امتلاك اللقطة يبقى لديك الإحساس بعظمة ما تقدمه الصورة قوياً وغامراً مهما حدث ، واحدٌ من أفضل أعياد الصورة في عام 2012 .

فيلم بهمان غوبادي السادس هو عملٌ للذكرى. إفراطه الشاعري الذي يسلبه جزءاً من جمال معالجته يخفت أمام القيمة الجمالية الرفيعة لحكاية الماضي والذاكرة التي تغازل خيال شاعرٍ جريح خصوصاً مع أشعاره التي تتناثر علينا مضفيةً من خلال صوت الراوي قيمةً جماليةً مهمةً للفيلم. أدواته التقنية نصرٌ حقيقيٌ لسينما 2012. مشاهدة مونيكا بيلوتشي في أكثر أداءاتها نضجاً وأكثر ملامحها تعباً قيمة اخرى تضاف لها و له ، ومشاهدة اكثر أعمال بهمان غوبادي خصوصيةً في اكثر حالات فتنته البصرية سطوةً وتأثيراً هو أمرٌ يستحقٌ فعلاً. سينما !!

التقييم من 10 : 8


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters