•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

السبت، 2 فبراير 2013

Beasts of the Southern Wild

كتب : عماد العذري

بطولة : كوفنزين واليس ، دوايت هنري
إخراج : بن زايتلن

من حينٍ لآخر يحلو لبعض صناع السينما محاولة تكرار بعض المعالجات السينمائية و وضعها في قالبٍ مختلف و جوٍ مختلف و محاولة استغلال ذلك في صناعة ما يفترض أن يكون عملاً أصيلاً ، يروق هذا للبعض و يلتمسون فيه فعلاً ذلك الحس من الأصالة ، لكنني أعتقد بأن المسألة أعقد من ذلك ، و محاولة صنع عملٍ أصيل أو مختلف يحتاج لما هو أكثر من بيئةٍ مختلفة و حبكةٍ لا تدري هدفاً واضحاً لها .

بالنسبة لي أصبحت المسألة سهلةً و مكرورة : اعطني نصاً مختلفاً يتناول ميلودراما عن فتاةٍ تضطرها ظروفها لمواجهة قسوة الحياة مبكراً و الإستعداد للنضوج في مجتمع و بيئةٍ غير اعتياديين و جذابين لنا كمشاهدين ، تختبر فيهما تلك الفتاة رغبة المضي قدماً نحو حياةٍ أفضل بالرغم من قسوة ما تتعرض له في ذلك المجتمع خصوصاً من أقرب المقربين لها ، امنحني ذلك النص و سأضمن لك أن تنال ترشيحاً لأوسكار أفضل سيناريو ، و تمنح ترشيحاً لأوسكار أفضل فيلم ، و تكرّم ممثلة الدور الرئيسي بترشيحٍ لأوسكار أفضل ممثلة ، الأمر أصبح عادة ، فعلتها هوليوود مع Precious عام 2009 ، ثم مع Winter’s Bone عام 2010 ، و الآن مع فيلم بن زايتلن هذا .

في الواقع هذا بحد ذاته ليس عيباً بنظري ، لكن المضحك أن يتم استغلال تلك الصورة مجدداً بذات الطريقة و ذات النهج ، محاولة جذب المشاهد من خلال البيئة الغريبة و المجتمع غير المعتاد الذي تعيش فيه البطلة ، محاولة استبكائنا من خلال ذلك ، و الأخطر محاولة جعل الصورة تبدو أكبر مما هي عليه ، مع أن بساطتها بحد ذاتها قد تكون كافيةً لتجعل منها شيئاً مهماً .

قصة الفيلم تحكي لنا في نصٍ كتبه بن زايتلن و لوسي أليبار ( عن احدى مسرحياتها ) قصة هاشبوبي ابنة السادسة التي تعيش في مجتمعٍ بدائيٍ يدعى (باثتوب) يقطن دلتا مائية منعزلة في لويزيانا ، هاشبوبي تعيش مع والدٍ قاسٍ يدعى وينك بعدما رحلت والدتها من مجتمعهم ذات يوم ، تحاول هاشبوبي المضي قدماً في الحياة القاسية التي يعدها والدها لمواجهتها تحسباً لرحيله المفاجئ تحت وطأة المرض .

باكورة أعمال ابن التاسعة و العشرين بن زايتلن و على الرغم من تقاطعه مع فيلمي ديبرا غرانيك و لي دانييلز الا أنه يبقى الأفضل بينها بالرغم من كم المشاكل التي يعاني منها ، في بنيته العامة يمتلك الكثير ليكون نصاً جيداً ، على الأقل و قياساً لكونه اقتباساً عن مسرحية فهو يتخلص تماماً من مسرحيته و هذا يحسب له ، هو ينجح تماماً في تصميم المجتمع بصرياً ، يرسم من خلال تلك اللوحة الواسعة الإطار صورةً للضياع الذي يمكن أن تواجهه فتاةُ في مثل هذا العمر في بيئةٍ بمثل تلك الفوضى و القسوة ، هنا مكمن قوة النص الحقيقية و هو يستغلها بشكلٍ جيد و ربما أكثر بكثير من فيلمي ديبرا غرانيك و لي دانييلز .

مشكلتي الأساسية مع هذا النص تكمن في أنه نصٌ طموحٌ اكثر مما ينبغي ، هو يحاول أن يقول الكثير دون أن يترجم ذلك إلى شيءٍ ملموسٍ و حقيقيٍ يصل للمشاهد ، نراه مثلاً يسهب في رسم الإطار العام للبيئة بحيث تبدو مؤثرةً و فعالةً لدى المشاهد ، هذا جميل ، لكنه لا يقترب من أي شيءٍ فيها ، لا البعد الفلكلوري للمجتمع ، و لا من رغبات هاشبوبي الحقيقية ضمن هذه البيئة ، و لا بالمبررات التي تجعل ذلك المجتمع يتمسك بحياته تلك أصلاً بالرغم من عدم وجود أي شيٍ مغرٍ فيها و بالرغم من محاولات اقحامه في المجتمع المدني ، النص يتوه في هذا الجانب ، في الواقع ما نشاهده في الصورة لا يتناسب وحجم الروح التي يفترض أن تربط السكان بالمكان ، لا نجد في ذروة العاصفة تمسكاً حقيقياً أو مبرراً حقيقياً لجعل تلك البيئة هدفاً لسكانها ، نرى مجموعةً من الناس يعانون الكثير لكنهم يقضون أوقاتهم في التندر و الشراب ، لا يوجد ما هو جذابٌ فعلاً فيهم ، و النص يستند في مسعاه هذا لتبرير ذلك الولع و التمسك بالمكان إلى تميزهم و اختلافهم الحضاري و الثقافي كمجتمعٍ من الأقليات المنعزلة ، لكننا لا نجد ذلك التميز فعلاً في الصورة ، لا الطقوس و لا اليوميات و لا المأكول و لا المشروب و لا أي بعدٍ فلكلوري حقيقي يلامسنا ، لذلك تبدو الخلفية البصرية للقصة غير مؤثرةٍ درامياً في الحبكة ذاتها ، نكتفي فقط بمشاهدة مجموعةٍ من الناس يقطنون منازل من الصفيح و الخشب ، متخلفون ، قذرون ، ثملون على الدوام ، و فاقدون لأي دافعٍ في الإستمرارية ، متعتهم و عالمهم ذاته لا يجذبنا ، حتى شخصياتهم و عمقهم الروحاني لا يلامسنا ، و النص يعاني في جعل تلك الخلفية البصرية و المكانية مؤثرةً فعلاً فيما يريد قوله .

حتى من منظور أن الفيلم يروى عن طريق هاشبوبي ، فإن النص أيضاً لا يخلق دوافع هاشبوبي ذاتها ، لا يجعلها واضحةً بالنسبة لنا ، رغبة الاستمرارية ، و الاستعداد للقادم ، امها ، قسوة والدها ، رابطها بالمكان ، مبرراتها في كل ذلك ، كيف ترى حياتها ، و إلى أين تريد أن تمضي بها ، كل هذا يكتفي الفيلم بسلوك الطريق الأقصر ( صوت الراوي ) دون أن يجعلنا نشعر فعلاً بأيٍ من ذلك ، هو يخفق برأيي في التفريق بين ترك المشاهد للمشاعر و الأحاسيس التي يشكل من خلال تصوره للحبكة التي أمامه ، و بين تجاوز حقيقة أنه نصٌ عن النوايا الحسنة إلى تجسيد ذلك فعلاً في منظومةٍ حقيقيةٍ مكتملة الملامح ترسم صورةً لتلك النوايا على الشاشة ، هو يقف على حاجز النوايا الحسنة و لا يتجاوزه ، و النوايا الحسنة لا تصنع نصاً جيداً لوحدها .

تلك النوايا الحسنة تتضخم في محاولة النص منح الحكاية حجماً أكبر لا يتناسب و بساطتها و كونها أساساً تجسيداً لرؤية فتاةٍ في السادسة من عمرها في مجتمعٍ شبه معزول ، النص يناقض نفسه على هذا الصعيد : لا هو يتركنا مع هاشبوبي تروي قصتها كما تراها و من عيني فتاةٍ في هذا السن ، و لا هو يقدّم رؤيته الخاصة لقصتها في محاولة لإعطاء تلك القصة معاني أكبر ، هو يتوه بين الخطين ، لذلك يبدو بالنسبة لي مجرد ثرثرةٍ بطاقةٍ وهميةٍ كبيرة سرعان ما تزول من الذاكرة بعد انتهاء المشاهدة ، عندما تحاول أن تسأل نفسك : عن أي شيءٍ تحديداً كان هذا الفيلم ؟ و هل كان كذلك فعلاً ؟

مشكلة النص الأخرى تكمن في الدافع ، في كل النصوص المتماسكة هناك محرك ، قد يكون محركاً لترقب المزيد في الحكاية المسرودة ، قد يكون محركاً لتأملها فقط ، قد يكون محركاً لإنغماسنا في الإحساس و التواصل معها ، هذا النص بدون محركٍ حقيقي ، لا تعلم تماماً و على وجه الدقة هل أنت تتأمل من خلاله ؟ ، هل أنت تترقب حدوث شيء ؟ هل يفترض أن تتواصل مع شخصياته و تصنع نوعاً من المشاعر تجاهها ؟ ، هذا المحرك مبهمٌ جداً ، تشعر فقط بأن عليك أن تجلس هناك و تتابع الفيلم حتى نهايته ، ثم تنهض و تمضي في طريقك ، الحبكة في جوهرها هي عن ابنةٍ تضطرها الظروف لمواجهة الحياة القاسية التي يعدها والدها لها ، في الواقع الحبكة قابلةٌ جداً لتمتلك ذلك المحرك ، لكن ما يقتل هذا هو محاولة النص التعامل مع حبكته البسيطة كشيءٍ اكبر مما هي عليه ، شيءٌ بمذاق أكثر ديمومةً و أكثر عالمية و شمولاً ، الأمر الذي يحوّله كما ذكرت الى مجرد ثرثرةٍ بطاقةٍ وهميةٍ منبعها صوت الراوي و الكلام الكبير الذي لا يجد له محركاً أو دافعاً أو تجسيداً من خلال الصورة ، سحرٌ هشٌ سرعان ما يتلاشى ، و ما يقدمه لنا النص في نتيجته الختامية هو مجموعةٌ من القطع المنفصلة (تأملٌ في بيئةٍ غريبةٍ و مجتمعٍ معزول ، قصة النضوج ، و ميلودراما الفتاة التي تضطر لمواجهة قسوة حياةٍ تفوق سنها ، بحثها عن والدتها التي فقدتها ، و فانتازية قصة الأوروكس اللذين خرجوا من تحت الجليد في اشارةٍ للفيضان القادم لتدمير بيئتها) ، النص لا يحاول تقديم تلك القصص المنفصلة موضوعةً ضمن ذات القالب ، لا يجعلها تسير في مسارٍ يستخلص قوتها و يكاملها ، بل يجعلها تبدو و كأنما تواجه بعضها البعض و تدمر بعضها البعض ، لا تدري أي جزءٍ من كل ذلك هو ما يهمك ، هو ما يلامسك ، هو ما يمنح الصورة الكلية قيمتها ، تعجز عن خلق تواصلٍ حقيقيٍ مبرر مع أي منها ، لأن النص اساساً ليس مشبعاً في أي منها ، هو أولاً لا يغوص بصدق في خصوصية و ارث البيئة التي يتناولها ، و أرى أنه كان ليكون أفضل لو تأمل في روحانية المكان و خصوصية البيئة بدلاً من منحها أي معانٍ أو اسقاطاتٍ أخرى على الحياة ككل ، لأن سحر النص الجوهري برأيي يكمن في خصوصية البيئة التي يقدمها ، و خطأه على هذا الصعيد هو في تحويل تلك الخصوصية الى عمومية ، كان ليكون رائعاً برأيي لو تخلى عن ذلك ، و هو ثانياً لا يجعل من صوت هاشبوبي تروي قصة نضوجها مرسوماً و مجسداً بشكلٍ حقيقيٍ أمامنا على الشاشة ، و هو ثالثاً لا يجعلنا نلامس بعداً ميلودرامياً حقيقياً في هاشبوبي ، حتى في علاقتها بوالدها تبدو تلك العلاقة حديةً أكثر مما ينبغي ، هي تنتقل دون ميزان من القسوة و العنف مطلع الفيلم الى حس التفاني و التضحية في نصفه الثاني و لا يخفف منها سوى ادائي كوفنزين واليس و دوايت هنري ، و هو رابعاً يعجز تماماً عن جعل رابطة هاشبوبي بوالدتها شيئاً مؤثراً و مهماً لنا ، نشعر بالقصة تندفع في وجوهنا فجأة عندما نشاهد هاشبوبي – التي أوصلت والدها المريض للتو الى المنزل – تخوض رحلةً بحريةً نحو الشاطيء الآخر لتذهب إلى مبغى باحثةً عن أمها ، صورةٌ منفعلةٌ جداً و عندما تحدث لا تلامسنا في شيء و ربما لو قمت ببترها فلن يحدث ذلك فارقاً ، ثم يستعمل - خامساً - قصص الجليد المتصدع و حيوانات الأوروكس المنبعثة من الجليد لإعطاء بيئته الواقعية و قصته البسيطة بعداً و حجماً لا تحتمله ، و صورة الإستعارة التي يقدمها لهم لا يحتاجها اساساً لأن الصورة الأساسية واضحةٌ و بسيطة لدى المشاهد ، لا تجعل لذلك البعد الخيالي أي قيمة حقيقية ضمن الواقع الذي يصنعه خصوصاً و أن هذا البعد الخيالي يكون مبتوراً و غير مكتمل ، و محاولة مزج النص قسوة الواقع و سحر اللاواقع من خلال هذا المنفذ القصصي غير موفقة ، تماماً كمن يحاول أن يمزج الزيت و الماء دون قطعة صابون ، لذلك تبدو هذه الجزئية أيضاً فائضةً و مقحمةُ بصورةٍ صارخة و لو حاولت ازالتها من النص كله فستكتشف أنك لم تخسر شيئاً ، بل أن وجودهم على العكس يمنح القصة منفذاً جديداً من منافذها غير المغلقة قد يصيب مشاهده بخيبة أمل عندما يفشل في اشباعه أو الذهاب به بعيداً .

النص يخسر الكثير بسبب (الكلام الكبير) الذي يحاول أن يقوله مستغلاً الحيلة الأضعف : صوت الراوي ، و مع أن صوت الراوي كتكنيك يبدو موفقاً خصوصاً مع صوت كوفنزين واليس الحميمي و القريب من القلب ، إلأ أن ذلك لا يكون كافياً لصناعة عملٍ مهم عندما لا يخدم النص ذلك الكلام الكبير الذي نسمعه ، التكنيك غير المشبع لا يتوقف عند صوت الراوي ، بن زايتلن يسرف في اختيار التصوير بالكاميرا المحمولة ، كاميرا بن ريتشاردسن ديكورية جداً ، هي توفق في مواضع معينة يحتاجها فيها النص مثل مشهد العاصفة مثلاً ، لكنها تبدو فائضةً جداً في الكثير من أرجاء الفيلم ، و متناقضةً إلى حدٍ بعيد مع شاعرية الفيلم المفترضة بالرغم من امتياز ريتشاردسن في اختيار كادراته و لقطاته .

ثقل العمل الحقيقي هي أداءات كوفنزين واليس و دوايت هنري ، كوفنزين ربما تمنح عمقاً لشخصية هاشبوبي أكثر بكثير مما يمنحها النص ، براءتها و واقعية ردود فعلها ، نظراتها الحانقة ، و ضآلتها في مواجهة العالم الكبير الذي يحيط بها ، احساسنا الداخلي بروحها التي تغذي روح هاشبوبي دون شك ، كل هذا يبقي الشخصية تحت أنظارنا أكثر مما تستحقه فعلاً ، أداءٌ ممتازٌ من طفلةٍ تخوض تجربتها الأدائية الأولى ، بالمقابل يخفف دوايت هنري كثيراً من حدية العلاقة بين وينك و هاشبوبي ، عندما يصرخ في وجهها أو يضربها ، نرى في ملامح وجهه وحدها أنه يحبها بالرغم ذلك ، أداء حقيقي و خالٍ من البهرجة خصوصاً و هو يأتي من خبازٍ بسيط لم يسبق أن قام بأي أداء تمثيلي و حصل على الدور بالصدفة أثناء تردد طاقم العمل على مخبزه في فترة الإعداد للفيلم ،  بالمجمل كان الكاستينغ المبتديء موفقاً جداً في العمل ككل .

بالمجمل أقول بأن حس الأصالة لا يكون بخلق بيئةٍ غير اعتيادية مصورةٍ بكاميرا محمولةٍ فائضةٍ جداً و عبر حبكةٍ لا تدري هدفاً واضحاً لها ، حس الأصالة يكمن في جعل احساسنا بتفاصيل تلك البيئة و بالحبكة التي ترحل بنا من خلالها مختلفاً و جديداً و مستفزاً ، و بن زايتلن في تجربته الإخراجية الأولى لم يلامسني فيما فعل ، ذات الشعور الذي وصلني من ديبرا غرانيك في Winter’s Bone قبل عامين ، و من لي دانييلز في Precious قبل ذلك بعام .

التقييم من 10 : 6.5




0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters