•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الجمعة، 15 مارس 2013

A Beautiful Mind

كتب : عماد العذري

بطولة : راسل كرو ، جينيفر كونيللي ، إد هاريس
إخراج : رون هوارد

هناك نوعيةٌ معينةٌ من الأعمال لا يجيدها سوى مخرجين مثل رون هوارد ، هذا الرجل استطاع في معظم ما قدّم منذ تحوله للإخراج قبل ثلاثة عقودٍ من الزمان أن يعثر على التوليفة الناجحة لخلق معادلةٍ دقيقةٍ بين الأحداث الحقيقية و الإثارة التي يمكن استنباطها من تلك الأحداث ، لم يعد الأمر مصادفةً بالنسبة له بعد النجاح الملفت الذي حققه عام 1995 في Apollo 13 و العملين الممتازين اللذين قدمهما في Cinderella Man عام 2004 و في Frost/Nixon عام 2008 و بالتأكيد نجاحه الأكبر عام 2001 في A Beautiful Mind .

في فيلمه الفائز بأوسكار أفضل فيلم و مخرج يحكي علينا رون هوارد و السيناريست أكيفا غولدزمان عن كتابٍ لسيلفيا ناسار حمل الإسم ذاته قصة جون ناش طالب و مدرس الرياضيات ذو الذهن الألمعي الذي أشاد به أساتذته و الذي يبدو مستقبله مشرقاً خصوصاً عقب زواجه بالحسناء أليشيا و التطور الكبير الذي حققه في مسيرته من خلال ما أسمي بـ (نظرية اللعبة) و من خلال أثر أبحاثه في ميكانيك الكم و في النظريات الإقتصادية العالمية ، كل ذلك يهتز مع انغماسه في عمله لصالح جهاز فك الشفرات التابع للـ CIA عندما يبدأ الشك يراود الجميع في السلامة العقلية لجون ناش و ملامح الفصام الإضطهادي التي بدأت تتضح فيه ، مرحلةٌ كادت تدمره لولا الوقوف و التفاني الذي أظهرته زوجته أليشيا و الكفاح العظيم الذي قدمته من أجل اعادته لحياته الطبيعية ، قبل أن يمنح الرجل جائزة نوبل في العلوم الإقتصادية عام 1994 .

بالنسبة لي أعاني من تفصيلٍ صغير مع أفلام رون هوارد تكمن في العلاقة التي تبدو مطبوعةً و مقولبةً بين نوعية النصوص التي يختارها رون هوارد و الإخراج الذي يقدمه لها ، رون هوارد مخرج يخرج وفق كتاب الإخراج ، كأنما هو تلميذٌ ممتازٌ في معهد الإخراج نال الترتيب الأول في دفعته و مضى يشق مسيرته ، هو حرفيٌ جداً في جميع النصوص التي يتصدى لإخراجها بل أكاد أجزم بأنه يختارها عامداً بحيث تحقق هذه الجزئية ، نصوص أفلام رون هوارد جميعها تقريباً سهلة و واضحةٌ و مفهومة ، سهلة التفسير و سهلة التلقي ، صحيح أن السهولة بحد ذاتها ليست عيباً بل هي ميزةٌ في أغلب الأحيان خصوصاً مع رون هوارد على اعتبار أنها لا تأتي هشةً أو سطحية إطلاقاً ، لكن تلك الحرفية التي ينتهجها الرجل في تقديمها دائماً تبدو و كأنما تعيقه – راضياً – عن التعبير عن لغته الخاصة ، هي  نصوصٌ جميلةٌ لقصصٍ رائعة و الرجل يسردها على المشاهد بإتقانٍ و بإمتيازٍ لا تخطئه العين ، لكنه لا يمنح المشاهد الإحساس أبداً بلغةٍ إخراجيةٍ خاصةٍ يمتلكها ، و هذا التفصيل البسيط هو ما يجعل ستيفن سبيلبيرغ مخرجاً عظيماً بالنسبة لي على مستوى المخرجين الذين يقدمون الحكاية /  الإثارة ، رون هوارد برأيي هو مثالٌ واضحٌ جداً على السهل الممتنع في الإخراج السينمائي ، يكتفي دائماً بقصةٍ براقة و مؤثرة و مكتوبةٍ بشكلٍ ممتازٍ و مؤداةٍ بشكلٍ بارع ، و يحقق من خلالها الأثر المطلوب في المشاهد ، دون أن يشعره بأن هناك شيئاً خارقاً أو مختلفاً قد حدث ، الرجل يجيد ذلك في جميع أعماله التي شاهدتها له و ربما هو يصنع بصمته الإخراجية الخاصة من خلال ذلك إذا ما قلنا بأنه لم يصنعها من خلال اللغة الإخراجية المميزة ، فعل ذلك في Apollo 13 و كرره مجدداً في A Beautiful Mind و Cinderella Man و Frost/Nixon ، جميعها قصص مثيرةٌ و مؤثرةٌ مستمدةٌ من الواقع ، و جميعها تشعر بشعورٍ عظيمٍ بعد مشاهدتك لها ، دون أن تستنبط لغةً إخراجيةً خاصةً بالرجل الذي يقف ورائها .

هذا النص لا ينهج في الواقع النهج التقليدي في تقديم السيرة الذاتية بالرغم من ولائه الواضح لمعظم طقوسها ، بنيته أقرب لأعمال الإثارة التي تبنى بالصورة التقليدية للحركات الثلاث التي لا تبدو اعتياديةً في فيلم السيرة الذاتية عموماً ، هو يبدأ في الحركة الأولى بالتقديم و التمهيد للشخصية و يضعنا في أقرب صورةٍ ممكنةٍ منها ، ثم يحقق إنقلابه في الحركة الثانية نحو عمل إثارةٍ تقليدي يستلهم احدى المراحل المؤثرة في مسيرة جون ناش أثناء عمله مع الإستخبارات الأمريكية و يبيّن حجم الأثر الكبير الذي أحدثته هذه الفترة على المسيرة العلمية العظيمة التي كان الرجل على وشك تحقيقها و كيف انعكس ذلك سلباً على كل شيءٍ في حياته بما في ذلك علاقته بزوجته المخلصة ، ثم يحقق حركته الثالثة من خلال نتيجة حركته الثانية و كيف عاد الرجل ليحاول لملمة حياته و السير بها بأقل الأضرار الممكنة تسانده في ذلك زوجته أيضاً ، غاية هذه البنية هو تجسيد عظمة العاطفة و الحب في حياة من قد يبدو أبعد الناس عنها : عالم رياضياتٍ عبقريٍ فاشل الى أقصى الحدود اجتماعياً !!، هو من هذا المنظور يبدو و كأنما يقدّم قصةً عالميةً تتجاوز المجال الضيق لفيلم السيرة الذاتية ، و جون ناش يمكن استبداله هنا باي شخصيةٍ اخرى دون أن يهتز ايقاع العمل ، هذا أقدّره كثيراً في نص أكيفا غولدزمان ، لكن مشكلته برأيي أنه لا يتخلى أساساً عن الكثير من طقوس فيلم السيرة الذاتية ، و طالما هو لا يفعل يبدو التخفيف الشديد الذي يمارسه تجاه السوء الواضح الذي امتلكته شخصية جون ناش عاملاً سلبياً يقلل من قيمة العمل و يمارس دوراً تلميعياً للشخصية دون مبرر واضح ، أتذكر كل ما سمعته عن جون ناش بعد فوز هذا الفيلم بالأوسكار : تخليه عن إبنٍ له و تخليه عن والدته ، شذوذه الجنسي الذي اقصاه من وظيفته ، سلوكه الإجتماعي المكروه جداً و تصرفاته التي لا تطاق مع زملائه و أساتذته ، رغبته التخلي عن مواطنته الأمريكية ، و المرحلة التي ادعى فيها بأنه يتلقى خطاباتٍ من مخلوقاتٍ سماوية ، ثم طلاقه من زوجته أليشيا قبل أن يعيد الزواج منها لاحقاً ، في الواقع لم أعر تلك الجزئيات اهتماماً في حينها و نظرت لها من باب أنني أشاهد عملاً سينمائياً و ربما لا يكون في الأمر ازعاجٌ لغالبية المشاهدين ، لكنني شعرت لاحقاً بأن نهجاً تلميعياً كهذا هو نقيصةٌ حقيقيةٌ في فيلم السيرة الذاتية يخفف أثره قليلاً هنا بسبب عدم معرفتنا اساساً بأي شيءٍ عن جون ناش ، و هو نهجٌ ستعلق له المشانق عندما يتناول شخصيةٌ من تلك التي نعرف الكثير عنها و نشاهدها كل يومٍ على شاشة التلفاز ، صحيح أن مسئولية النص تكمن في التكثيف خصوصاً عند تقديم عملٍ هو في الأساس سيرةٌ ذاتيةٌ لشخصيةٍ لامعة ، لكن ما يفعله غولدزمان هنا يتجاوز مستوى التكثيف ، هو يلمّع الشخصية بشكلٍ صارخٍ قياساً لما كانت عليه في الحقيقة ، يزيل كل السلبيات التي طبعتها و أثرت بها على غيرها ، و يقدمها أقرب الى الضحية ، و المثير أكثر بالنسبة لي أن ما يتم ازالته من قصة جون ناش ( و هو كثيرٌ فعلاً ) كان يمكن أن يجعل من هذه القصة أعقد و أكثر عمقاً و قيمةً و ربما كان أحال الفيلم - فيما لو تحقق بالصورة المطلوبة - الى معالجةٍ سيكولوجيةٍ عظيمةٍ في هذا الصنف تناطح أعظم انجازاته مثل Raging Bull و Ed Wood و غيرها ، و هنا بالذات يتضح ما أردت قوله عن رون هوارد الذي يعشق التعامل مع قصصٍ بهذا المستوى من السهولة بالرغم من جماليتها و عمقها الواضحين .

أذكى ما في النص أنه لا يفرّق كثيراً بين العمل الذي يقوم به ناش و افكاره الرياضية من جهة ، و بين الشخصيات الوهمية التي ابتكرها عقله من جهةٍ أخرى ، و بالتالي هو يخلق نوعاً مسلياً من الإثارة دون أن يبدو متصنعاً فيما يفعل ، هو لا يفرّق كثيراً في تقديم الطرفين و يجعلهما يتداخلان بشكلٍ واضحٍ على خلفية يوميات ناش ، لذلك لا تشعر معه بأن ناش يتوهم إلا عندما يبدأ هو ذاته بالشعور بذلك ، و تقر مع ذلك بأن النص لا يحتال عليك لتمرير هذا ، مشكلته الوحيدة على هذا المستوى أننا لا نرى الكثير من عبقرية الرجل الرياضية أثناء كل هذا ، و هو أمرٌ يبدو مهماً لتقدير قصة الكفاح ككل ، هو يقدمها لنا كمسلّمة لكنه لا يجعلنا نعيشها سوى في موضعٍ أو اثنين ، لا نخرج على الأقل بصورةٍ مبسطةٍ ملموسةٍ للأثر الذي أحدثته أبحاث الرجل في نظريات الإقتصاد العالمي بالرغم من أن غولدزمان كان موفقاً في المناسبات النادرة التي استعرض فيها الألمعية الرياضية له ، و لا أعتقد أن المشاهد سيتذكر في الواقع شيئاً عن جمال و ألمعية العقل الذي يحمل الفيلم اسمه ، كانت الملاكمة كتكتنيك حاضرةً بقوة في Cinderella Man و كانت عبقرية التشكيل موجودةً و تكاد تصرخ في Pollock ، لكن لا وجود للكثير من التجسيد لقيمة العقل الجميل و العبقرية الرياضية التي كانها جون ناش و غيّر من خلالها وجه الاقتصاد العالمي .

مع ذلك أقدّر في نص غولدزمان كثيراً ما يفعله على مستوى البنية العامة للحدث ، يستخلص في بطله القيمة البسيطة و الأساسية لكفاحه ضد الكثير من المسلمات ، سواءً كانت المسلّمات العلمية في اعمال نظرائه من العباقرة ، أو المسلمّات الإجتماعية التي جعلته كائناً منفّراً في المجتمع بسبب إصراره المجنون على كسرها و الضرب بها عرض الحائط ، وحدها مسلّمة الحب كانت أعقد و أكبر منه و ووقف عاجزاً عن رفضاً و ضئيلاً أمام حل لغزها ، علاوةً على ذلك هو يبرع في تقديم المرض العقلي في مكانه تماماً على خلاف كثيرٍ من الأفلام التي تناولته ، في هذا الفيلم لا ينحرف المرض العقلي في الإتجاه المأساوي الإنفعالي الجنوني الذي اعتدنا مشاهدته في السينما ، و لا يكون أيضاً مبهجاً و مرحاً بحثاً عن دفعة تفاؤل قد لا تبدو منطقية بشانه ، هو يجعله يبدو كما يفترض تماماً أن يكون و ينحت في إثارته وفقاً لذلك بحيث تبدو نابعةً من صميم تطوره و ليست شيئاً دخيلاً عليه ، مشكلته الوحيدة في هذا الخصوص لا تكون في تقديم المرض ذاته و إنما في وصوله بإثارته التي يصنعها كنتيجةٍ لذلك المرض الى الزوايا التي تجعلها تكاد لا تصدق أو تكاد تقلب الفيلم كله الى عمل إثارةٍ محض ، صحيح أن هذا الشعور يراود المشاهد لبضع الوقت ، لكن رون هوارد يعرف بالنتيجة كيف يعيد إيقاع فيلمه الى جادة الصواب .

على مستوى التكنيك يبدو رجل رون هوارد الأول هو دون شك مدير التصوير العظيم روجر ديكنز الذي نال ترشيحاً للأوسكار ذلك العام عن فيلمٍ آخر حققه مع الكوينز ، في هذا الفيلم يقدم كعادته تصويراً أنيقاً و جذاباً و خالياً من البهرجة يبدو مختلفاً قليلاً عما اعتدناه منه ربما بسبب خصوصية العمل ، حركة الكاميرا في مساحات الجامعة مريحةٌ جداً للبصر و التصوير بالإضاءة الطبيعية سواءً من ضوء الشمس أو من ضوء المصابيح في مكتبات الجامعة و ممراتها يعطي إحساساً عالياً بطبيعية المناخ المحيط بناش ، ثم يتقدم تصوير ديكنز تدريجياً نحو الطقوس النوارية مع تقدم الفيلم في إثارته ليخلق عالماً وهمياً مختلفاً و فريداً عن الصورة الكلية ، و إن كان لم يرقني في حركات الكاميرا الإلتفافية حول جون ناش في أكثر من موضع و التي تبدو غريبة و بدائيةً في آن ، مع ذلك هي لا تقلل من قيمة الصورة الممتازة التي يقدمها لنا هنا ، بالمقابل يقدم مونتيرا الفيلم دانيال هنلي و مايك هيل إمتيازاً على مستوى التوليف و الإيقاع بالرغم من أنهما يتراوحان بين القوة و الضعف في التنويع الذي يطرقونه تقنياً بين القفز و الذوبان و القطع العادي بطريقةٍ لا تبدو مبررةً أو ذات معنى بالرغم من جودة الإيقاع الذي يحققونه ، وراء الجميع تنسل موسيقى جيمس هورنر الحنونة أحياناً المجنونة أحياناً اخرى لتغني المعنى و تدعمه دون أن تطغى أو تأخذ ماهو أكبر من حيزها المعتاد .

مع ذلك فجزء كبيرٌ من قيمة الفيلم تأتي من أداءاته ، راسل كرو يقدم واحداً من أكثر أداءاته تمكناً و إحكاماً ، يفني ذاته في الدور أكثر من أي دورٍ آخر لعبه بالرغم من أنني أحب أداءه في فيلم The Insider أكثر من أداءه هنا ، راسل لا يبهرج الدور بالرغم من قابليته الشديدة لذلك ، يتوحد مع دواخله و يبدو احياناً و كأنما يتصرف من صميم شخصيته و دون احساسٍ بوجود تصويرٍ او كواليس ، بالمقابل تشرق جينيفر كونيللي ( التي التقت هنا بزوجها لاحقاً بول بيتني ) ، جينيفر تقدّم واحداً من الأدوار النسائية المساندة المثالية للجوائز حيث المرأة المخلصة و الحنون و الداعمة لزوجها ، و هي تغني الشخصية كثيراً على هذا الصعيد في دورٍ يبدو مثالياً بالنسبة لها هي بالذات ، و تصوّر بدقة مع تقدم الشخصية إمرأةً منقسمةً بذكاءٍ بين حبها لرجلها و خوفها منه ، و هو تصويرٌ يستحق بجدارة جائزة الأوسكار التي نالتها ، و الى جوار كرو و كونيللي يقدّم الفيلم أداءات ثانويةً ممتازةً من إد هاريس و كريستوفر بلامر و بول بيتني .

فيلم A Beautiful Mind هو فيلمٌ عن إدراك الذات ، و عن حاجتنا أحياناً لمعرفة قيمتها الحقيقية كسبيلٍ فقط لإيقاف تدميرها ، فيلمٌ عن الضعف الإنساني بالرغم من قوة مادياته أمام الجانب الروحي المحض في الإنسان ، و عن تلك اللحظات الإنسانية الصعبة التي يحتاج فيها القسم الأيسر من الدماغ لكل ما يستصغره في القسم الأيمن منه .

التقييم من 10 : 8.5


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters