•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الجمعة، 8 مارس 2013

Cloud Atlas

كتب : عماد العذري

بطولة : توم هانكس ، هالي بيري ، جيم برودبنت
إخراج : آندي و لانا واتشوفسكي ، توم تيكڤر

ربما لا يوجد فيلمٌ في عام 2012 ولّد لدي ذلك الكم من المشاعر المتضاربة تجاهه كهذا الفيلم. هو من جهة فيلمٌ ممتع قياساً لمدة عرضه البالغة 160 دقيقة ، وهو من جهة مقتبسٌ عن عملٍ أدبيٍ لم أقرأه و إن كان لا يصعب تمييز كم تبدو معقدةً فكرة اقتباسه ، وهو من جهة أخرى فيلمٌ لا يخلو من مشاكل تصيبه في الصميم وتتضحُ أكثر في مشاهدةٍ تالية.

لا أتذكر على وجه الدقة كم فيلماً بحبكةٍ واحدة قام بإخراجه ثلاثة مخرجين ! شاهدت الكثير من التجارب الاخراجية المشتركة التي تأخذ عادةً اما طابع التحية لشيءٍ ما ، أو طابع وجهات النظر المختلفة لموضوعٍ ما. قلةٌ تلك الأفلام المستندة في الأساس للحبكة والتي قام بإخراجها ثلاثة مخرجين ! في هذه التجربة - التي أصبحت واحدة من أكثر تجارب الأفلام المستقلة كلفةً على الإطلاق - يجتمع مخرجا The Matrix لانا واتشوفسكي وشقيقها آندي مع مخرج Run Lola Run الألماني توم تيكڤر لتكييف الرواية ذائعة الصيت التي كتبها ديفيد ميتشل وحققت نجاحاً كبيراً عند طرحها عام 2004 ، وفي الواقع فإن النتيجة التي يحققونها تبدو جيدةً على صعدٍ عدة بالرغم من بعض التحفظات.

الفيلم يقدم لنا ست حكاياتٍ مختلفة الأزمنة تتداخل مع بعضها. القصة الأولى تعود لعام 1849 حيث علاقةٌ تجمع المحامي وكاتب العدل آدم إيوينغ بعبدٍ مارق على متن سفينةٍ تعبر المحيط الهادي ، الثانية تتابع قصة موسيقارٍ شابٍ يدعى روبرت فوربيشر يُستغل عام 1936 من قبل موسيقارٍ عجوز يأخذه في رعايته ثم يحاول سرقة سيمفونيته الجديدة Cloud Atlas ، بينما تحكي الثالثة قصة صحفيةٍ شابةٍ تدعى لويزا راي تطارد عام 1973 كارثةً بيئيةً يقف وراءها مديرٌ لشركةٍ عملاقةٍ للطاقة ، ثم يحكي علينا في القصة الرابعة عام 2012 حكاية ناشرٍ بريطاني يدعى تيموثي كافنديش يتعرض لأزمةٍ ماديةٍ ويجد نفسه يعيش كابوساً في دارٍ للرعاية يضعه فيها شقيقه ، ثم يذهب بنا في الحكاية الخامسة إلى سيئول عام 2144 حيث قصة فتاةٍ مصنعةٍ جينياً تدعى سومني 451 تجد نفسها في صراعٍ عنيفٍ بين سجانيها ومحرريها ، ثم يصل بنا الى عام 2321 بعد فناء الأرض حيث قصة علاقةٍ تجمع رجل قبيلةٍ بدائيةٍ يدعى زاكري وامرأةٍ قادمةٍ من حضارةٍ متقدمةٍ تقنياً تدعى ميرونيم .

في هذا الفيلم يتناول المخرجون الثلاثة مسعى الإنسان عبر العصور والتاريخ والحضارات نحو الإنعتاق والحرية. تعرض القصص الست كم التداخل والترابط الذي تمتلكه كل حياةٍ على هذا الكوكب بغيرها عبر مجرى التاريخ ، وكيف يبدو الزمن مجرد مسرحٍ متعدد الخلفيات تتغير بتغير الحقبة والظروف لكنها تبقى محكومة بذات الرغبات والنوازع والدوافع ، متأملاً في الرغبة البشرية تجاه التحرر كغريزة والسعي الذي لا يهدأ تجاه الحرية ، حرية العرق أو المعتقد أو الجنس أو التعبير أو الشعور أو المعرفة. يربط المخرجون الثلاثة قصصهم ببعضها من خلال موتيفاتٍ تعمل كنقاطٍ وصلٍ في رحلة البشرية من مكانٍ لآخر ومن زمانٍ لآخر. آدم إيوينغ في القصة الأولى يكتب مذكراته على متن سفينة ويحكي عن محاولاته التحرر من الشر الذي يحمله له طبيب السفينة ، يقرأها روبرت فوربيشر في القصة الثانية ويقرر الإنعتاق من الإستغلال الذي يعانيه على يد الموسيقار العجوز فيؤلف سيمفونيته Cloud Atlas ويرفض منحها لمعلّمه ويستمر في ارسال الرسائل لعشيقه في كامبريدج ، رسائل تقرأها لويزا راي في القصة الثالثة وتستمع لموسيقى الرجل وتمضي قدماً في تحقيقها الذي قد يكلفها حياتها ، قصة لويزا راي يقرأها تيموثي كافنديش في القصة الرابعة قبل أن يخوض محنته العسيرة وينجح لاحقاً في التحرر من دار الرعاية التي وضع فيها ، ثم تشاهد سونمي 451 في القصة الخامسة فيلماً عن محنة تيموثي كافنديش وتستلهم من محررها قيمة الإنعتاق من حياة السخرة التي كانت تعيشها ، لتصبح في القصة السادسة رمزاً للإنعتاق والحرية ! الفيلم واضحٌ جداً وبسيطٌ على هذا المستوى ، و هذه آفته برأيي. قيمة الأفلام العظيمة تأتي من المساحة الواسعة التي تتركها بين ما تطرحه وكيف تعالجه. هذا الفيلم في الواقع يطرح الكثير لكنه لا يترك مساحةً واسعةً من خلال معالجته تسمح للمشاهد بتقبل وتفسير وفهم وتأويل ما يجري أمامه. وبالرغم من ان الفيلم يكيّف ما يبدو بأنها روايةٌ معقدة ، لكنه يذهب في تبسيطها إلى الحد الأقصى منتهجاً أسلوباً مباشراً يلغي أي مساحةٍ ممكنةٍ لمراجعة الفيلم وفهم الأسئلة التي يثيرها. وما يعرضه من أفكار وجودية تُبلور تساؤلاتٍ قدمتها ميثولوجيا الحضارات القديمة وصاغتها فلسفة نيتشه في مفهوم (العود الأبدي) نستخلصه مباشرةً في مشاهدةٍ أولى ولا نضيف له شيئاً في مشاهدةٍ ثانية.

مشكلة الفيلم الثانية تكمن في عجزه - كعملٍ يتناول مجموعةً من القصص المختلفة المتداخلة - عن خلق إحساس المساواة الشعورية تجاه جميع القصص. لم يحقق الفيلم غايةً جوهريةً في خلق شعور الإهتمام والتواصل مع القصص المختلفة بذات المقدار وهذا يضربه في مغزاه القائم على تتبع أثر تلك العوالم ببعضها خصوصاً وأنه لا يتمحور حول احدى القصص الست لتبدو احداها أكثر قيمةً من الأخرى. بوضوح تبدو القصة الأكثر فعالية بين ما يعرضه الفيلم هي قصة كوريا عام 2144 بتماسكها القصصي والعاطفي الممتاز على خلاف قصة المحيط الهادي عام 1849 أو قصة ما بعد الفناء عام 2321 بالرغم من أنها القصص الثلاث التي أخرجها الأخوة واتشوفسكي. لم يختلف الأمر مع قصص توم تيكڤر التي تقع في المنتصف والتي بدت أكثر تواصلاً مع المشاهد في القصة المعاصرة للناشر تيموثي كافينديش. وبإستثناءات محدودة، يسير الحدث في هذه القصص دون ربطٍ حقيقيٍ فعال مع المشاهد يذهب ابعد من الغاية التقليدية لأي سرد، أنت تشاهد وتنتظر التالي ، لكن دون احساسٍ حقيقيٍ بالتفاعل أو الإهتمام بما يجري. يذكّرني التصور الإخراجي العام لهذا العمل إلى حدٍ بعيد بعمل دارن أرونوفسكي The Fountain ، إلا أن الرؤية الإخراجية بدت أوضح وأقوى تأثيراً في فيلم ارونوفسكي بعيداً عن تباين النتيجة ، وإن كان الفيلمان برأيي ليكونا أهم وأكثر قيمة لو قُدما في سلسلةٍ تلفيزيونيةٍ قصيرة !

بالمقابل، تنجح عملية التوليف في تحقيق 160 دقيقة ممتعة إلى حدٍ ما ولا تخلو من تباطؤ وقصور. يفرض صناع الفيلم إيقاعاً موحّداً ينجح الى حدٍ ما في ربط القصص ببعضها بالرغم من اختلاف المخرجين واختلاف الأزمنة والأماكن قد يكون من الصعب معه تمييز أي قصةٍ أخرجها الأخوان واتشوفسكي وأيها أخرجها توم تيكڤر ! مع ذلك ، لم تخدم الترجمة البصرية قيمة ذلك التوليف بالرغم من جودة تصميم ثيمات بصرية مميزة لكل قصة تحمي المشاهد من التشويش عندما يفرط الفيلم في خلق التداخلات بين القصص. تبقى طريقة التعامل الإخراجي مع الحدث كرتونية جداً وتُبقي المشاهد على مسافةٍ منه وتفقده - بتقدم الحدث - الإحساس بأنه يشاهد قصصاً حقيقيةً قريبة ومؤثرة ومقلقة ويجب أن يهتم لها ، لتبدو النتيجة أقرب إلى عرضٍ دعائيٍ طويل أو عمل كوميكس ذو بيئةٍ زمانيةٍ ومكانيةٍ حقيقية ، وتُفلت منه بعض المشاهد واللحظات المؤثرة بفضل قيمة القصة المروية لا الترجمة البصرية للحدث ، كما يحدث في قصة كوريا 2144 التي تبدو الأكثر كرتونية على المستوى البصري لكنها الأجمل والأكثر تأثيراً وقيمة في المنظومة ككل. 

بالإضافة لذلك، يعتمد صناع الفيلم على اسناد أدوارٍ مختلفةٍ من القصص الست لذات الممثلين كترجمةٍ بصريةٍ لأفكارهم عن العود الأبدي ، في محاولة لإزالة التباين الثقافي والحضاري والأخلاقي والعمري والعرقي والجنسي من خلال وجود الممثلين ذاتهم وراء هذا الكم الهائل من الشخصيات المختلفة وعبر ثلاث مستوياتٍ "أخلاقية" (الإنسان الخيّر ، والعادي ، والشرير) ، وإن كان الفيلم يناقض ذلك الغرض عندما يسند لهيو غرانت وهوغو ويفينغ دور الشرير فقط في القصص التي يتواجد فيها. يوظف الفيلم لهذه الغاية عملاً كثيفاً – أكثر من كونه عظيماً – على الماكياج لكنه لا يصيبُ هدفه تماماً لدى المتلقي الذي قد لا يعنيه كثيراً معرفة أن هالي بيري هي من تؤدي دور زوجة الموسيقار العجوز أو أن هوغو ويفينغ هو من يؤدي دور الممرضة الشريرة. لا يثمر ذلك التخفي وراء الماكياج نتيجةً حقيقية خصوصاً وأنها اضافةٌ سينمائية خالصة أشكّ أن تكون موجودةً في الرواية ، ورغم أن صناع العمل ينهجونها لدعم عمق العمل – الواضح والمباشر أساساً – إلا أن ذلك لا يقدّم أكثر من طاقةٍ إيجابيةٍ محدودة تنجح في مواضع ولا تنجح في أخرى ، دون أن يُنتج تعدد تلك الأداءات للممثل الواحد قيمةً حقيقيةً لأي منها ، ربما يبقى أكثرها قيمةً بالنسبة لي هو أداء جيم شتورغس والممثلة الكورية دونا باي في قصة سومني 451 والكيمياء التي تنجح بينهما .

بالمجمل Cloud Atlas فيلمٌ جيدٌ إلى حدٍ ما ، لديه الكثير من الطاقة الإيجابية خصوصاً من خلال الفرادة البصرية التي توفرها لكل قصة كاميرا جون تول أو فرانك غريبي والتي يسّرت على المونتير أليكساندر بيرنر توليف الحكايات الست والحفاظ على ايقاع ممتعٍ ومقبول يُبقي المشاهد على اتصالٍ معه ويرمم إلى حدٍ ما مشاكل النص والمعالجة ونهج المباشرة الذي يتبناه في تبسيط قصته إلى درجة التسطيح. فيلمٌ طموحٌ جداً وصناعه يجعلون من طموحهم ذاك يتحقق على أكثر من صعيد .

التقييم من 10 : 6


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters