•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الثلاثاء، 26 مارس 2013

Ugetsu Monogatari

كتب : عماد العذري

بطولة : ماسوياكي موري ، ساكي أوزاوا ، ماشيكو كيو
إخراج : كينجي ميزوغوتشي

يكاد الحديث عن وصول المبدع أو الفنان الى العالمية انطلاقاً واستلهاماً من المحلية يتحوّل الى ما يشبه الحكمة التي لا نعلم من قالها أول مرة. هذه الفكرة صدقت مع الكثيرين وعلى الأخص مع سينمائيي شرق آسيا الذين تلخّصت العالمية بالنسبة لهم في الوصول بأعمالهم وابداعاتهم الى الغرب حيث أوروبا و أميركا ، ربما بسبب السبق الزمني الذي حققه الغرب على صعيد هذه الصناعة وحجم الزخم الثقافي والمكانة الفنية التي احتلتها السينما بسرعةٍ هناك .

في آسيا كانت السينما اليابانية هي الأولى نبوغاً والأسرع وصولاً. سبقت بإنتشارها السينما الصينية التي احتاجت لأربعة أجيالٍ من المخرجين لتضع مكانتها على الخارطة العالمية ، كما سبقت أيضاً السينما الكورية والهندية و الفيليبينية والإيرانية على هذا الصعيد. في تلك الحقبة راجت أعمال ثلاثة مخرجين تحديداً يشكلون اليوم (واجهة) جيلٍ كاملٍ من صناع السينما في البلاد تباين تأثيرهم ووصول سينماهم إلى الغرب بقدر ما تباينت الثيمات القصصية التي لطالما تعاملوا معها حتى كادت ترتبط بأسمائهم. رصد أوزو يوميات الحياة العادية ، و تعلّق كوروساوا بالأسطورة ، و كان ميزوغوشي أكثرهم ارتباطاً بالموروث الشعبي .

أخرج ميزوغوتشي بين 75 و 100 فيلم خلال مسيرته التي استمرت لأربعة عقود، كان خمسون منها على الأقل في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي وفُقد معظمه. وبالرغم من أنني لا أعرف الكثير عن المرحلة المبكرة في سينما ميزوغوتشي الا أنني أعتقد أنها كانت مرحلة أعمالٍ (مسلوقة) على اعتبار ان الرجل كان يخرج الفيلم خلال بضعة أسابيع وكان مهتماً كثيراً بـ(الكم) كسبيلٍ نحو صناعة مسيرةٍ سينمائية ناجحة. مع ذلك تغيرت الأمور في النصف الثاني من الأربعينيات مع كم المديح الذي لقيه من نقاد / مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة ، خصوصاً من جان لوك غودار - الذي كان معجباً جداً به وكان يسخر دائماً من كوروساوا وما يقدمه - وجاك ريفيت الذي لطالما امتدح فيه توظيفه السليم للميزانسين كأداةٍ سينمائيةٍ فاعلة. كان حديث الفرنسيين عنه كفيلاً لوحده بتسليط الأضواء على أفلامه في الغرب ، الأمر الذي نقل صيته لاحقاً الى مخرجين آخرين أمثال اورسون ويلز ومن بعده إلى آندريه تاركوفسكي الذي يبدو واضحاً مقدار تأثره بميزوغوتشي على صعيد السرد وتطوير اللغة السينمائية الخاصة به. قيمة ذلك المثلث وبريقه المبهر أثر سلباً - بالنسبة لنا - على جيلٍ سينمائي جميلٍ رافقهم أو أتى بعدهم وأُلحق بهم وقلّ تذكره بسببهم ، بدأ بماساكي كوباياشي و كون إيشيكاوا واستمر مع مخرجي الموجة الجديدة هيروشي تيشيغاهارا وسايجون سوزوكي وشوهي إيمامورا وشوجي تيراياما وناغيزا أوشيما وآخرين قبل حقبة خفوتٍ نسبي في السبعينيات .

عندما قدّم كينجي ميزوغوتشي هذا الفيلم كان قد حقق نجاحاً مدوياً في تحفته السابقة The Life of Oharu التي أكسبته الكثير من المكانة والإحترام كسينمائيٍ قادمٍ من الشرق ، ولم يكن الرجل يعتقد بأنه سيكرر ذات النجاح بعد عامٍ واحدٍ فقط من خلال Ugetsu Monogatari الذي منحه أسد فينيسيا الفضي عام 1953 كأفضل مخرج ، وفرض نفسه واحداً من أفضل الأعمال السينمائية على الإطلاق ، ووضع مرتين على قائمة مجلة Sight & Sound العقدية لأعظم الأفلام في تاريخ السينما (قائمتي عقدي الستينيات و السبعينيات) .

في هذا النص الذي كتبه يوشيكاتا يودا عن قصتين من القصص الشعبية التي كتبها أويدا أكيناري تحت نفس الإسم يعرض ميزوغوتشي قصة شقيقين في يابان القرن السادس عشر: جينجيرو صانع الفخاريات الحالم بالكثير من الثروة من عمله هذا ، و توبي المزارع البسيط الذي يحلم بأمجاد الساموراي الى الدرجة التي قد يضحي فيها بأي شيءٍ من أجل أن يصبح واحداً منهم. يبدأ الرجلان رحلتهما نحو البلدة لتحقيق جزءٍ من هذا الحلم بالرغم من غبار الحرب الذي يلوح في الأفق. يتركان ورائهما زوجتين وحيدتين وأملاً بحياةٍ أفضل عند العودة. لكن احلام الرجال لا تتوقف عند حد !

هذا الفيلم قد لا يروق للبعض بسبب قِدَم الثيم القصصي له. تبدو الحكاية قديمة كحكاية قابيل و هابيل أو كحكايةٍ من القصص الديني. هذه الشريحة من المشاهدين لن تستسيغه مهما حدث بالنظر لأن الحاجز الذي يفصلها عنه هو حاجزٌ قصصي قبل كل شيء. وبالرغم من قدم الحكاية وتقليديتها يستثمر ميزوغوتشي رؤيته للسرد ومعالجته البصرية للحكاية في ترسيح صورته التي شكّلها على مدى عقدٍ سبق هذا الفيلم كواحدٍ من أوائل المخرجين الذين جعلوا المرأة موضوعاً رئيسياً لهم بالنظر ربما للأثر العميق الذي أحدثته شقيقته - وما تعرضت له في حياتها - في ذاكرة شقيقها الأصغر. في فيلمه هذا يتناول الرجل أحلام الرجال عندما تكون أكبر من أن يتم كبحها والسيطرة عليها ، ويتناول نسائهم اللواتي يدفعن ثمن تلك الأحلام وذلك الطموح. يكرس ميزوغوتشي فيلمه للمرأة المسحوقة تجاه عاطفتها وحبها ، والتي تعاني بسبب تضحيتها الدائمة وانكارها لذاتها. بطلاه هنا رجلان خرجا باحثين عن السعادة. اقترنت السعادة لديهما بالثروة والجاه ، وهو لا يُخفي أن حب الثروة والجاه لدى هذين الرجلين منبعه التزامهما تجاه الزوجة والعائلة أولاً. نجد جينجيرو يقول لزوجته (لسنواتٍ طويلةٍ أردت شراء رداءٍ لكِ ، ولكني لم أمتلك ما يكفي) ، فتخبره (لستُ سعيدةً بسبب الثوب بل لطيبة قلبك ، إنني لا أتمنى أكثر من أن تكون بقربي دائماً). يُصور ميزوغوتشي معضلة سوء تقديرٍ أولويات الآخر والرغبةً بإرضاء الذات وارضاء الشريك بصورةٍ أو بأخرى دون النظر الى مقدار تأثر الآخر بالسبيل الذي سيُسلك من أجل ذلك.

من المنظور الآخر يُعرّف ميزغوتشي المرأة من خلال الرجل ، ويحدد قيمتها في المجتمع الذكوري كإنعكاسٍ لتصرفات الرجل. وفي الوقت ذاته يقدمها كشريكٍ للرجل ، ليس في درب النجاح وإنما في السعادة. يضع ميزاناً بين الركض وراء الدنيا وبين السعادة الحقيقية ويؤكد على الشراكة بينهما لتحقيق تلك السعادة. أبطاله هنا يتخلون عن نسائهم من أجل اغراءات الحياة المادية ، وفض هذه الشراكة يجعلهم (كنتيجة) يخسرون تلك السعادة! يُحقق نص يودا واخراج ميزوغوتشي ذلك من خلالِ متوالية إختباراتٍ أخلاقيةٍ دقيقة : يبدأ مع سعادةٍ يشوبها القلق المادي والطموح والرغبة بغدٍ أفضل من خلال تحقيق شيءٍ ما ، ثم يتقدم في اتجاه تحقيق ذلك الطموح لرجليه ، ثم يجعلهم يدركون أنهم في الواقع لم يحققوا ما أرادوا وخسروا شيئاً مقابل ما كسبوا فيعودون للبحث عنه. زوجة جينجيرو قُتلت على يد جنديٍ في الجيش الغازي ، بينما اغتصبت زوجة توبي واختارت أن تكون عاهرةً لتلحق العار بزوجها وهي هنا تكره خيارها هذا وتفضل الانتحار لكن بعد رؤية الخزي على وجه زوجها. تبدو هذه هي الخيارات الوحيدة المتاحة أمام امرأةٍ في مجتمعٍ ذكوريٍ كهذا لا يُمكنها فيه فعل أي شيءٍ في غياب الرجل. حتى صورة شبح السيدة واكاسا الذي يمثل الصورة المغرية لجينجيرو في البلدة تبدو أيضاً جزءاً من السياق ذاته. هي خاضعةٌ لذكورة والدها الميت الذي نراه مجسداً هنا في قناعٍ لمحاربٍ قديم. والنص يُقدم درسه هذا عن طريق تجسيدٍ حي للنوايا الطيبة التي تقود لنتائج كارثية. هو لا يُصوّر بطليه مذنبين بقدر ما يصورهما كضحايا لإغراءات الحياة. والنتيجة لا تكون ذاتها من وراء هذا الدرس الأخلاقي : أحد البطلين يفقد السعادة للأبد ، بينما يتعلم الآخر من الدرس! ميزوغوتشي من خلال ذلك يقول بأن الفرصة الثانية من وراء ذلك الإنجراف  قد تأتي أو لا تأتي. وهو في الوقت ذاته على الطرف الآخر من هذا الدرس (طرف المرأة) وبقدر ما يبدو نصيراً للمرأة - بتقديمه انعكاسات الإغراءات التي يتعرض لها الرجال من خلال أثرها على نسائهم - يكسر أيضاً القالب التقليدي لمناصرة المرأة فيقدمها معتمدةً بشكلٍ كلي على زوجها ولا تستطيع مواجهة الحياة بدونه، متماشياً بالتالي مع الصورة النمطية للتعامل معها ليقدّم نقده المبطن أيضاً لعدم استقلاليتها ، وبالتالي هو يلوم طرفاً على انجرافه وراء أطماع الحياة على حساب شريكه ، ويلوم الطرف الآخر على انعدام استقلاليته وقدرته على اتخاذ القرار وتنفيذه في مجتمعٍ ذكوريٍ لا يرحم .

إخراجياً يضربُ ميزوغوتشي منذ أول لحظةٍ في الفيلم. تعطي اللوحات الافتتاحية مع الموسيقى الفلكلورية اليابانية (بالقيثارة اليابانية / الكوتو) احساساً مخيفاً وغريباً تجاه القصة ذكرني برائعة ماساكي كوباياشي Kwaidan التي تستلهم أيضاً قصتين اخريين من قصص Ugetsu الفلكلورية. يبرز أداء ميزوغوتشي أولاً - وكالعادة - من خلال الإحساس العالي بالزمان والمكان. أفلام ميزوغوتشي تحرر المشاهد - بشكلٍ كلي - من ارتباطه بالوسيط وتجعله يعيش فعلاً حقبة حكايته ولا أعتقد أن هناك مخرجاً آخراً في تاريخ السينما كله يضاهيه على هذا المستوى. ينجح ميزوغوتشي أولاً في السيطرة على الزمان بالرغم من صعوبة تنفيذ ذلك مع الحكايات ذات المواعظ الأخلاقية التي تعتمد في سردها على استمرار الخطأ وطول فترة التكرار قبل حدوث التطهير ، وثانياً من خلال خلق احساسٍ عالٍ بالمكان وطريقة تفاعل عناصر كل مشهد معه. يتضح ذلك في مشهد هجوم الجيش ، وفي مشاهد سوق البلدة ، وفي مشهد النهر ، وفي منزل الشبح ، ثم في صورة البلدة المنكوبة بعد العودة. هذا يفسر سر الاعجاب الشديد من جاك ريفيت بأسلوب ميزوغوتشي في توظيف الميزانسين كعنصرٍ بالغ الأهمية في الصورة. علاوةً على ذلك يبرز الايقاع الداخلي لميزوغوتشي والذي ميّزه بوضوح عن سينما كوروساوا عندما تلقى الغرب أعمال الرجلين في الخمسينيات. نغمته هادئة وإيقاعه ينسل بتأنٍ (تخديري) على خلاف كوروساوا وهو ما يفسر الحس الشاعري الواضح لسينما ميزوغوتشي. رجله الأول في ذلك هو مدير التصوير كازو مياغاوا الذي يحقق - مجدداً - الرؤية التصويرية الخاصة بميزوغوتشي حيث الحركة التدفقية للكاميرا التي تقوم على دراسة نقطة بداية كل لقطة وأين تنتهي وعلاقة كل لقطة بما قبلها وبما بعدها وكأنك تنتقل ضمن قطعةٍ بصريةٍ واحدة تنزلق فيها من مشهدٍ لآخر. يعمل ميزوغوتشي أيضاً وفق طقسه الشهير حيث كل مشهد يصوّر في أقل عددٍ ممكنٍ من اللقطات ، وفي كثيرٍ من الأحيان في لقطةٍ واحدة (غالباً واسعة ونادراً ما تكون متوسطة) ، و هو طقسٌ شاركه فيه ياسوجيرو أوزو (وإن فضّل أوزو ثبات الكادر وسكون العناصر داخله). عمل ميزوغوتشي بشكلٍ أكبر على اللقطات الطويلة الواسعة المتحركة وأحياناً المنزلقة حيث تبدأ اللقطة من اليمين لليسار مثلاً وتتبعها في المشهد التالي لقطةٌ أخرى في الاتجاه ذاته ، ويصنع المونتاج (الذوباني غالباً) في المشهدين المتتابعين وحدةً بصريةً مترابطة توظف غالباً لاختزال الوقت وكمية الضياع التي عاشتها الشخصيات في تلك المحنة ويبدو مشهد الحمّام في البريّة مثالاً واضحاً على ذلك. ميزوغوتشي من خلال هذه اللقطات الواسعة يعوّض الحيوية المنقوصة في استخدام لقطاتٍ محدودة لكل مشهد ويضمّن القيمة التعبيرية للميزانسين بشكلٍ أوضح، مما يمنح سينماه مذاقاً اكثر واقعيةً علاوةً على أن المونتاج الذوباني يعطي الحكاية حسها التخيلي ويعزز أكثر من مذاق قصة المرأة الشبح تحديداً ويدعم قيمة الدرس الأخلاقي من خلال اضفاء ذلك الحس الشاعري الحالم عليها ، وكأنما هي مرحلة محنةٍ سرعان ما ستزول! وفي الواقع فإن هذا الحس الشاعري للصورة موجودٌ في الفيلم كله ، ومشاهد مثل المشهد الساحر للقارب في النهر ، أو مشاهد البرية ، أو ذلك المشهد الذي يذهب فيه جينجيرو لشراء ثوب كيمونو لزوجته ويتخيّلها تنتقي ما تريد على جانب المحل ، أو المشهد الذي يعود فيه جينجيرو الى منزله ولا يجد فيه أحداً بينما تراقبه الكاميرا من داخل المنزل وهو يدور خارجه قبل أن يعود الى الموضع ذاته ليجد زوجته جالسةً تطهو الطعام ، وبالتأكيد مشاهد جينجيرو في منزل واكاسا التي يتفّهّم فيها ميزوغوتشي جيداً قيمة الاضاءة في التعبير وخلق التأثير من خلال الستائر والإحساس الشبحي للصورة ، ويعطينا من خلال الكاميرا احساس جينجيرو تجاه المنزل : الاستغراب والانبهار والفضول والخوف أيضاً ، قبل أن تصبح اللقطات أقرب فأقرب مع زيادة الألفة بين جينجيرو و واكاسا. كل تلك المشاهد – على خلفية الموسيقى اليابانية - التي تخلق مزيجاً مُريباً من الحميمية والقلق في ذات الوقت - تثبت برأيي أي قيمةٍ إخراجيةٍ عظيمة كان يمثلها كينجي ميزوغوتشي .

فيلم Ugetsu Monogatari ليس فيلماً للجميع ، ولا أجد فيه سوى خيارين فحسب أمام المشاهد : إما أن يستسخفه ويقسوا عليه وإما أن يقدّره كثيراً. هو فيلمٌ عن الإنسان الذي يسير في دروب الحياة باحثاً عن الأفضل دائماً عبر كل العصور والأجيال. وعن الإنسان الذي يعثر على الأفضل مقابل خسارة أشياء أخرى في حياته. وعن صراع النوايا الطيبة والمباديء الأخلاقية مع نزعة التفوق الغريزية تجاه الثروة والجاه. وعن الثمن الذي تدفعه المرأة مقابل طموح الرجل في مجتمعٍ ذكوري. وعن الحياة التي تقدم لنا دروسها الأخلاقية القاسية دائماً ، أحياناً من خلال فرصةٍ ثانية ، وأحياناً من خلال فقدان الفرصة للأبد !

التقييم من 10 : 10


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters