•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الجمعة، 17 مايو 2013

The Best of Youth

كتب : عماد العذري

بطولة : أليسيو بوني ، لويجي لو كاشيو ، جاسمينا ترينكا
إخراج : ماركو توليو جيوردانا

أتذكر أنني نصحت أحد أصدقائي بمشاهدة هذا الفيلم ، و عندما انتهى من ذلك سألته عن رأيه فيه فأخبرني أنه (ثاني أجمل فيلمٍ يشاهده بعد فيلمٍ آخر لم يحدده بعد !) ، و بغض النظر عن نوعية الأفلام التي يشاهدها صديقي عادةً و نوعية ما يعجبه و مدى حميمية علاقته بالسينما الا أنني وجدت في عبارته شيئاً حقيقياً جداً : هذا واحدٌ من الأفلام التي يقر الكثيرون بمجرد مشاهدتهم لها بأنها من أجمل التجارب السينمائية التي عاشوها ، أياً كانت المكانة التي يضعونها فيها ضمن سلّم مشاهداتهم.

لا أخفيكم أنني عشت الشعور ذاته ، و لا أخفيكم أنني شاهدت فيلماً مدته تقارب الساعات الست ثلاث مراتٍ على الأقل و شاهدت بعض مقتطفاته أكثر من عشرين مرة ، ما يثيرني في هذا الأمر أنني كنت لأُحرم من هذا الشعور لو لم تسيّر الأقدار مصير هذا الفيلم الطويل ليصبح عملاً سينمائياً يعرض على هامش مهرجان كان و يحظى بالمديح الكافي لتسويقه عالمياً عوضاً عن مصيره المفترض كسلسلةٍ تلفيزيونيةٍ مصغرة تعرض كتحيةٍ لإيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية ، الأقدار فعلت هذا مع أكثر من فيلم ، و من حسن حظنا أن The Best of Youth كان واحداً منها .

يتتبع العمل على مدى ساعاته الست الأحداث التي تُسيّر حياة الشقيقين ماتيو و نيكولا كاراتي بين عام 1966 و مطلع الألفية الجديدة ، نيكولا الذي أصبح الطبيب النفسي المتحرر و العاشق الذي لا يهدأ و الأب المنقسم ، و ماتيو رجل الشرطة الإيطالية المعجون بكثيرٍ من قلقٍ و التزامٍ يحرمانه على الدوام من التقدم في حياته ، انفصال الشقيقين الطويل عن بعضهما لم يضرب أبداً الرابط الروحي القوي الذي جمعهما على مدى أربعة عقودٍ من إيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية .

لو سألني أحدهم عما يروقني في هذا الفيلم سأجد ذلك متعلقاً بثلاث جزئيات : حبكاته الثانوية ، و لحظاته التي لا تنسى ، و بالطبع ايطاليا القابعة هناك في خلفية كل شيء ، تستثمرُ عظمة هذا الفيلم اربعينَ عاماً من ايطاليا المعاصرة ابتداءً من النصف الثاني من الستينيات و حتى مطلع الألفية ، تتتبع من خلالها جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية و رحلته البانورامية ضمن نوعية القوالب التي قولبوا أنفسهم فيها تماشياً مع واقع بلادهم التي تنهض من تحت ركام أعنف حروب البشرية ، بروفسور ماتيو يخبره باكراً جداً عندما رغب أن يتابع دراسة الأدب (إيطاليا بلدٌ جميل ، لكنها مكانٌ مميت يدار من قبل الديناصورات ، أنا أحد تلك الديناصورات) في الواقع نحن لا نحتاج لأكثر من ذلك لنتفهم كيف أن تلك التفاصيل العبثية هي من ستوجه حياة الشقيقين حتى الختام في رحلتهم البانورامية في ايطاليا الجديدة ، ذلك الأمل الذي يملأ نفوسهم ككل أبناء جيلهم المُقدمين على مواجهة الحياة في أول مشوارهم ، ثم تلك الخيبات المتتالية و التي تنسل بنعومةٍ مدهشةٍ لترسم طريقاً مختلفاً لهم في كل مرة ، نص الفيلم الذي كتبه ساندرو بيتساليا و ستيفانو رولي يستخدم الخلفية الإجتماعية و السياسية لإيطاليا على مدى اربعين عاماً كإطارٍ للتعليق على شخصياته ، و كمقبضٍ للإمساك بمفاصل القصة و تحريكها ، و كعلاماتٍ زمنيةٍ أيضاً على تقدم و تطور الحدث ، لا يُشعرك نص الفيلم أبداً بأنه يتقصد ذلك بقدر ما يُشعرك بأن ما يحدث هو جزءٌ من رحلة الأخوين ذاتها ، لا يُحرك التغيرات الإيطالية لتتماشى مع الحكاية و لا يَنسُب بالمقابل الحكاية لها ، هذا يعطي للسرد مذاقاً مختلفاً ، و عندما تشاهد أحد الشقيقين يعود من النرويج إلى ايطاليا للمشاركة كمتطوعٍ في مواجهة كارثة فيضانات فلورنسا تدرك بشكلٍ ملحوظ أن تحولاً كهذا لا تشاهده في أي فيلم ، الفيلم لا يُوجّه شخصياته اجتماعياً و سياسياً و أخلاقياً ثم يكيّف الخلفية التاريخية بما يتناسب معهم ، بل يجعلهم ينزلقون بأريحيةٍ ضمن تلك الخلفية التاريخية و يجعل صورتها طاغيةً جداً في رسم ملامح حياتهم ، و هو في هذا التفصيل لا يقنعنا فحسب – كحال السينما – أنه يأسر شيئاً من الحياة ، بل يبدو لنا و كأنما هو الحياة ذاتها ، هو يؤكد على ذلك بقوة من خلال تعامله الحذر مع جعل التنوع العائلي و الإختلاف الفكري و السياسي في عائلة كاراتي انعكاساً للتنوع الإيطالي ذاته ، و بالرغم من أنه لا ينجرف كثيراً في هذا المسعى إلا أن هذا يَقيه بشكلٍ ملحوظ إبتذالاً مفترضاً فيما لو أخلّ و لو قليلاً بذلك الميزان المدروس جداً بين الخلفية و الحكاية : تأثير الأولى على الثانية ، و انزلاق الثانية بمرونة ضمن تلافيف الأولى ، ينجز بيتساليا و رولي نصهما كما يجب تماماً أن يكون ، و هذا يبدو مدهشاً بحق قياساً لنصٍ ضخمٍ كهذا .

و عبر ذلك الموزاييك في خلفية الصورة يرحل أبطالنا ، نرى في البعيد فيضانات فلورنسا ، و الارهاب اليساري في السبعينيات ، و التتويج بكأس العالم 1982 ، و قمع المافيا في الثمانينيات ، و الإنفتاح الإقتصادي في التسعينيات ، و نرى في القريب أبطالنا يتحركون عبر كل ذلك ، أعظمُ ما في هذا الفيلم كله هو الغاءه الحاجز – بعبقريةٍ محضة – بين الحبكة الرئيسية و الحبكات الثانوية فيها ، كل قصةٍ ثانويةٍ هنا تقدّم و كأنها قصةٌ محور تكاد تنسى معها أي شيءٍ آخر و تكاد بوجودها تمسك الفيلم كله ، عندما نلتقي بجورجا أول مرة و نرحل معها رفقة الشقيقين نعتقد لوهلة أن كل ما سيجري متعلقٌ بما تراه هنا ، و أن هذه العلاقة بين جورجا و الشقيقين ستكون محور كل شيء ، ثم لا تلبث مع تدفق الحدث أن ترى جورجا تغادر الصورة ، و تبقى في ذاكرتك بمقدار ما بقيت في ذاكرة الشقيقين وهما يمضيان في حياتهما ، هذا التفصيل الذي يتكرر في أكثر من موضعٍ في الفيلم و بذات المرونة و الإدهاش يجعل الفيلم يقفز على كونه تجسيداً مصوراً للحياة الى كونه الحياة ذاتها ، هذا ما يحدث فيها في الواقع ، لي و لك و لصديقي و لجارك ، تلك المفاصل التي نشعر عندما نعيشها بأنها الحياة كلها ، ثم لا نلبث ندرك أنها ستمضي دون رجعة تاركةً في البال صورةً مشوشةً لشيء جميلٍ مرّ بنا في حقبةٍ مهمةٍ من حياتنا ، ربما هو أجمل ما فيها ، أجمل ما في الصبا كما هو اسم الفيلم .

هذا الإلغاء العبقري للحاجز بين قصته الرئيسية عن رحلة الشقيقين و قصصه الثانوية التي يعايشانها في تلك الرحلة لا يجعله النص غايةً مجردة ، هو يستثمره ليخلق صورةً عظيمةً جداً عن الآمال العظيمة ، عن انحرافها في سبيل بعض الإلتزامات الحياتية أو الأخلاقية أو العائلية ، ماتيو كاراتي هو نسخةٌ مختلفةٌ من مايكل كورليوني في The Godfather ، و من على البدري في ليالي الحلمية ، و من عمر الحلبي في أحلام كبيرة ، و مني و منك و من أي أحدٍ آخر ، أناسٌ عاديون أجبرهم التزامهم الحياتي أو الأخلاقي أو العائلي و شخصياتهم المختلفة على رؤية آمالهم الكبيرة تتبعثر أمام عيونهم من أجل آمالٍ أخرى دفعتهم إليها الحياة ، هذا التفصيل يبدو فعالاً في سائر مفاصل الحكاية ، و لجعله حقيقياً يولّد العمل صورة تلك الآمال العظيمة من خلال الطريقة التي يقدم بها أبطاله على محاورٍ ثلاث : طبيعة شخصيتها ، و قدرتها على اتخاذ القرار ، و تعاملها مع عواطفها ، و يجعل من اقتراب تلك الآمال العظيمة و ابتعادها نتيجةً منطقيةً لتفاعل تلك المحاور الثلاث في حياة الشقيقين ، على المحور الأول ماتيو كاراتي شخصيةٌ غامضة ، ضعيفٌ ربما من الداخل و هذا يفسر انفعالاته المفاجئة ، مع ذلك هو انسانٌ نزيه جداً و نظيفٌ بشكلٍ ملحوظ ، شقيقه نيكولا أكثر حكمةً و اتزاناً و أقل جاذبية بالنسبة للمشاهد و لا يختلف اطلاقاً - بفعل النشأة المشتركة - عن نزاهة و نظافة شقيقه ، في المحور الثاني يبدو ماتيو شخصيةً ذات روحٍ و فكر ، لكنها عاجزةٌ عن اتخاذ القرار ، لديه توترٌ داخليٌ غامض ينعكس على تصرفاته ، و ربما عمله كشرطيٍ كان نتيجةً لذلك في الأساس ، نجده طوال الفيلم الشخص الأنسب لتنفيذ القرار و ليس الشخص الملائم لإتخاذه ، على النقيض يبدو نيكولا أكثر مرونةً و حيويةً ، حياته مرّت بتحولاتٍ كثيرةٍ كان هو من اختارها ، لم يفوّت فرصةً من الفرص و رحل من روما الى النرويج الى مدنٍ ايطاليةٍ عدة قبل أن يعود الى روما مجدداً ، لذلك يتجلى لنا في المحور الثالث أن عواطف نيكولا أكثر اتضاحاً من عواطف ماتيو ، منذ بدايات الفيلم المبكرة نشاهد نيكولا يقع في حب المرأة تلو الأخرى ، بينما يفوّت ماتيو الفرصة على نفسه مرتين ، لذلك تحديداً نشعر بعاطفة ماتيو أكثر و نهتم لها على خلاف نيكولا الذي نراه يعبر عنها المرة تلو الأخرى لدرجةٍ تصبح بها جزء من روتين حياته ، هذا الإحساس بماتيو – كحال الكثير من الأحاسيس في الفيلم – ينسل تحت السطح و يبقى قابعاً هناك و يبدو أهم بكثير من تلك الأحاسيس التي تطفو على السطح بين الشخصيات ، يقدم الفيلم نفسه من خلال هذه الجزئية أيضاً و كأنما هو الحياة ذاتها ، مثل كل العلاقات اليومية ضمن نطاق أي مجتمعٍ أو عائلة ، نحن نشعر مع هذا الفيلم أكثر بكثير من كوننا نشاهد ، هذا لا يتعلق فحسب بالرحلة المحور مع الشقيقين على مدى الساعات الست ، بل هو يرافقنا في أكثر من موضع و مع أكثر من شخصية ، جوليا على سبيل المثال هي نسخةٌ أكثر تطرفاً و حديةً من ماتيو ، تحب التبعية للآخر أكثر منه ، عاجزةٌ عن اتخاذ قرارها بمفردها ، حتى لو كان ذلك على حساب عاطفتها الرئيسية تجاه زوجها و ابنتها ، جوليا لا تختلف كثيراً عن ماتيو لكنها ربما أكثر وضوحاً في التعبير عن توجهاتها ، كلاهما قادته الحياة في طريق لم يكن ربما ليتماشى تماماً مع رؤيته لها ، لكنه أحبها و انغمس فيها و في صورتها الجديدة كل مرة ، انفعل بالحياة أكثر مما تفاعل معها ، و من المثير أن الفيلم استخدم هاتين الشخصيتين المتشابهتين في الكثير من تفاصيلهما كإطار يحيط بشخصية نيكولا التي تختلف عنهما تماماً ، و عندما تنتهي جوليا الى ما انتهت عليه و ينتحر ماتيو ، لا يكون لإنتحاره سببٌ حرفيٌ واضح ، هو خلاصة تلك الشخصية الكتومة الصامتة الغامضة الإنفجارية أحياناً على مدى العقود التي مضت ، هو خلاصة تجربتها و نظرتها للحياة و خلاصة تقييمها لما حصلت عليه من تلك الحياة ، بالمقابل تبقى جورجا بالرغم من صغر مساحة حضورها روح العمل التي سنتذكرها للأبد ، تقديم النص لجورجا و الطريقة التي تأسرنا بها بفعل أداءٍ للذكرى من جاسمينا ترينكا يجعل من رد فعل الشقيقين تجاهها هو ذات رد الفعل الذي قد يتخذه المشاهد تجاهها في موقفٍ مماثل ، جمالها و هدوئها ، ضعفها و خوفها من العلاج الكهربائي ، و الردة تجاه العالم المحيط بها ، و عدم قدرتها على اتخاذ قرارٍ حقيقيٍ سوى تلك القرارات البسيطة المتعلقة بتوجيه عاطفتها تجاه الأشخاص الذين ترتاح بقربهم ، لذلك تنطلق معهما عندما يقرران ما هو الأفضل لها ، ربما على الأقل ستكون معهما أفضل مما هي عليه الآن ، و حتى مع عدم ثقتهما الكاملة بذلك الا أن التجربة لن تجعلها حتماً أسوأ مما هي عليه الآن ، النص يجيد لعبته جيداً في توليف شخصياته بما يتناسب مع طبيعة القرارات التي عليها اتخاذها و قدرتها على اتخاذ تلك القرارات بما في ذلك القرار الأسهل و الأصعب في آن : أن نعبر عن عواطفنا و مشاعرنا تجاه الآخرين في اللحظة التي يجب علينا أن نفعل ، و جورجا مع كونها الشخصية الأقل تعقيداً في نظرتها لهذه الحياة تبدو أكثر شخصيات الفيلم قدرة على اتخاذ ذلك القرار ، هي تحب و تكره و ترتاح و تتألم و تنفعل و تتفاعل في اللحظة ذاتها التي يجب أن تفعل بها ذلك ، هذا يبهرني جداً عندما أسقطه على بقية الشخصيات التي يقدمها الفيلم .

و مع كونه لا يجسّد الحياة من خلال شخصياته و انما يبدو الحياة بذاتها لا يتيح النص - من خلال التجارب الحياتية التي نراقبها تنساب عبر الزمن - الفرصة لجعلنا نفكر في عمق تلك التجارب ، لا يسمح للمشاهد بأن يأخذ نفساً قصيراً ليتأمل ،  بل يجعل أحداثه تتدفق دون توقف عبر الزمن ، تبدو عبارة (وقف يا زمن) عبثيةً جداً في اللوحة الحياتية العظيمة التي يقدمها الفيلم ، و لأن ذلك يحدث بإمتياز و دون خطأ ، يكتسب الفيلم جزءاً من عظمته من قيمة اللحظات العظيمة التي ينثرها في أرجاءه و يبقيها في ذاكرتنا ، تجسيده للحياة يجعل من التقاطه للحظاتها جزءاً حميمياً فيها ، تماماً كتلك اللحظات العابرة التي تمر بسرعة في مفصلٍ ما من حياتي أو حياتك أو حياة أي احدٍ آخر ، لحظات الفيلم من أعظم ما شاهدت عن قيمة اللحظة بعيداً عن القيمة المجردة للمشهد ، تبقى قيمة المشهد في الاختزال الزماني و المكاني لجزء من الحدث الكلي ، و تبقى قيمة اللحظة في التقاط التفاصيل الصغيرة التي يرتبط بها المشاهد و تجعله على تماسٍ مباشرٍ مع المشهد ، و في كل مرةٍ أستذكر فيها على سبيل المثال جورجا تقف الى جوار آلة الموسيقى تتأمل ماتيو ادرك تماماً قيمة هذا التفصيل في عظمة الفيلم كله ، لا تدري ما هو السحر الكامن في هذه اللحظة كحال عشرات اللحظات التي تطرز هذا المنسوج الإيطالي الفاخر : اللحظة التي تركل فيها جورجا ساق ماتيو في الشارع ،  أو تلك التي نشاهد فيها صور جورجا المطبوعة من كاميرا ماتيو ، أو الطريقة التي ترتمي فيها جورجا على ظهر ماتيو أثناء ركوبهما الدراجة النارية (شاهدت نسخاً حرفيةً لها العام الماضي في فيلمي Oslo, August 31st و Barbara) ، أو اللحظة الأيقونية للثلاثي يهتفون بإسم كوريا ، أو حركة الكاميرا نحو السقوف على صوت عزف جوليا عندما يلتقي نيكولا بماتيو بعد زمن في ذروة الارهاب السبعيني ، أو اللحظة التي تظهر فيها جورجا مجدداً للمرة الأولى منذ زمن و الذي أعتبره واحداً من أكثر التحولات الدرامية السينمائية التي شاهدتها في حياتي ابهاجاً و إثارةً للأسى في الوقت ذاته ، لحظاتٌ كثيرةٌ لا أستطيع حصرها لكنني أستمتع بتأملها من حينٍ لآخر ، ربما ما كان لتلك اللحظات ان تحدث ذلك التأثير لولا الإنجازات العظيمة في تصوير روبرتو فورزا و مونتاج روبرتو ميسيرولي و تصميم ماركو سيراولو للبيئة و المكان ، جهودهم تعمل تحت ادارة ماركو توليا جيوردانا على تحقيق المعالجة المفترضة للنص و التي تقف بين الواقعية و الشاعرية ، هي تأخذ واقعية اللحظة و تزاوجها بإتقان مع شاعرية المكان و الصورة في نتيجةٍ تُخرج لوكينو فيسكونتي من قبره ليحقق تحفته الأخيرة ، هذا فيلمٌ عظيمٌ عن الحياة ، و بالتأكيد عن قيمة اللحظة مهما صغرت في تشكيل ملامح تلك الحياة .

يقول الحفيد قرب الختام مختزلاً الأمر برمته (كل شيءٍ جميلٌ فعلاً) ، لا أتذكر كم مرة شاهدت عملاً يحقق للمشاهد كل هذه التوليفة من الامتاع و الجمال و العمق و الذكرى ، هذا فيلم ممتلئٌ بالكثير من ذلك ، و بالرغم من ساعاته الست الا أنه ليس فيلماً طويلاً على الاطلاق لدرجة أنني في كل مشاهدة أرغب ألا ينتهي ، ربما لأنني أعشق فيه ما أعشقه في أي عملٍ فني بالغ العمق ينهج النهج ذاته في مراقبة شخصياته على خلفية عقودٍ من التغيرات الجذرية تصيب البيئة السياسية و الاجتماعية لهم ، يذكرني بالتأكيد بـ (مائة عام من العزلة) لكنه بالطبع أكثر رحابةً منه و اقل تشعباً و أكثر شاعرية ، هذا فيلمٌ عظيم عن اللحظات و الدقائق و الساعات الجميلة في حياتنا التي تكونُ حصيلتنا من كل ما جرى و التي تبقى معنا للأبد ، و عن تلك الساعات الست التي قضيتها معه و بقيت معي للأبد .

التقييم من 10 : 10


هناك تعليقان (2):

  1. أشكرك و بعنف أستاذ عماد على هذه التحفة ..
    بصدق من أروع الأفلام التي شاهدتها .. فألف شكر ..

    - أحد متابعيك الصامتين.

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً لك عزيزي عبدالله .. سعيد جداً بكلامك

      تحياتي لك

      حذف

free counters