•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

السبت، 30 نوفمبر 2013

Children of Paradise

كتب : عماد العذري

بطولة : آرليتي ، جون لوي بارو ، بيير براسير
إخراج : مارسيل كارنيه

أكثر الأمور التي كنت آخذها على نقاد (كراسات السينما) تحديداً أولئك الذين أسسوا لاحقاً الموجة الفرنسية الجديدة هو التذبذب الواضح في الآراء التي وضعوها وعبروا عنها تجاه بعض الأعمال السينمائية أو بعض المخرجين ، مثل أكيرا كوروساوا وجون فورد ومايكل أنجلو أنطونيوني وستيفن سبيلبيرغ. لم تكن المشكلة تحديداً في النقد الذي وجهوه لهم أو لتفصيلٍ معينٍ في عملهم بقدر ما كانت في التناقض الذي حملته تلك الآراء من مناسبةٍ إلى أخرى .

أحد اولئك الضحايا كان مارسيل كارنيه وتحديداً فيلمه هذا. اعتبره أندريه بازان في حينه عملاً (كلاسيكياً) في وصفٍ يحتمل المدح والذم قياساً للسينما (المودرن) التي كان ينشدها منظّر الموجة الفرنسية الأول. صحيح أن رجالات الموجة قدّروا قيمته وعظمته لكنهم في الوقت ذاته هاجموا كلاسيكيته وكأنها عيبٌ لذاتها ، وهو أمرٌ أمكنني تفهمه من منطلق التمرّد الذي قادوه على الواقعية الشعرية في السينما الفرنسية. لكننى لم أكن أتفهمه عندما رأيتهم لم يمارسوا الهجوم ذاته على جون رُنوار و جون فيغو بل واعتبروا كلاسيكيات رُنوار و فيغو أكثر الأعمال تأثيراً في الموجة ! هذه الذبذبة لم تتوقف هنا ، هجوم تروفو مثلاً - في بدايات صعود نجمه – على مارسيل كارنيه وعلى هذا الفيلم تحديداً إنقلب بشكلٍ واضح بعد سنوات ليعود ويمتدح قيمته ويعلي من شأنه ، ويعلن ذات مرة أنه يودّ لو تخلّى عن جميع أفلامه مقابل أن يكون هذا الفيلم له !! بالنتيجة لم يحدث هذا في مناسبةٍ واحدة ، تروفو نفسه غيّر رأيه لاحقاً في جون فورد ، ثم اعتبر أن أنطونيوني مخرجٌ كبير وإن كان لا يزال مملاً بالنسبة له ، قبل أن يعمل لاحقاً تحت ادارة ستيفن سبيلبيرغ في Close Encounters of the Third Kind !!

بالنسبة لي لم أعد آخذ ما قاله مخرجو الموجة الفرنسية الجديدة في فترة صعودهم على محمل الجد. آراءهم تذبذبت واتخذت لاحقاً إما منحىً أكثر حديةً بكثير أو أكثر خفةً بكثير ، وبرأيي الشخصي كانت تلك الآراء جزءاً من ملحمة صعودهم ذاتها. وأعتقد أن في تبرير تروفو اختلافه الواضح لاحقاً مع غودار - في أن غودار دائماً ما يتعمّد التقليل من شأن جميع المخرجين الآخرين من أجل إبراز أعماله الخاصة – شيءٌ من الصحة وإن كان ذلك لا يقلل من قيمة غودار كمخرج وأثره الواضح على عددٍ من المخرجين الذين جاءوا بعده .

ربما كان لتلك المقالات - التي كانت ضاربةً بالفعل خلال العقد الفاصل بين الحرب العالمية الثانية وصعود الموجة أواخر الخمسينيات – الأثر الأهم في اعلاء شأن جون رُنوار و جون فيغو على حساب سواهم من مخرجي الواقعية الشعرية وعلى الأخص مارسيل كارنيه. عاش كارنيه عشرة أعوامٍ ذهبيةٍ بدأت عام 1936 مع فيلمه Bizarre Bizarre واستمرت حتى الإطلاق (القيصري) لتحفته هذه. في المسافة بين الفيلمين صنع مارسيل كارنيه – مع جون رُنوار وجون فيغو وجوليان دوڤيڤييه وآخرين – مجد الواقعية الشعرية التي سيطرت على المشهد السينمائي الفرنسي في الثلاثينيات والأربعينيات وقدّمت للعالم روائع L'Atalante و La belle équipe و Pépé le Moko و The Rules of the Game و Grand Illusion و بالتأكيد Children of Paradise . حقق كارنيه هذا الفيلم في ظروفٍ مأساوية ، كان الرجل واحداً من قلةٍ من مخرجي فرنسا الذين رفضوا مغادرة البلاد في فترة الإحتلال النازي لفرنسا ، حصل على ترخيص تصويره بصعوبةٍ بالغة ، وبنى موقع تصويرٍ هو الأضخم في مسيرة السينما الفرنسية حتى حينه ، وأنفق 25 مليون فرنك على انتاج الفيلم ، واضطر لإعادة بناء موقع التصوير مرةً أخرى بعدما تضرر بشدة جراء الحرب ! أدار كارنيه في العمل عدداً من الممثلين المنضمين للمقاومة الفرنسية وقدّم لهم تصوير الفيلم غطاءً جيداً للتحرك ، كما أدار عدداً من الممثلين المعروفين بتواطئهم مع حكومة فيشي كتمويهٍ للمرور بالعمل الى بر الأمان ، واضطر ليقسم نصّه إلى نصفين بعد قرار حكومة فيشي تحديد مدة أي فيلمٍ سينمائيٍ بساعةٍ ونصف فقط ! عامان كاملان من العمل في ظروفٍ كهذه كانت تليق بتلك النتيجة التي شاهدها الجمهور لأول مرة بعد سقوط هتلر بشهرين. كانت عمليةً قيصريةً بحق ، ومع ذلك ، هي تحفةٌ سينمائيةٌ عظيمة حتى لو ابتعدنا عن ظروف انتاجها المأساوية .

النص الذي كتبه جاك بريفير ونال عنه ترشيحاً للأوسكار يجيء في نصفين. في النصف الأول (جادّة الجريمة) حيث ملتقى الفن والمسرح نراقب أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر العلاقات المتشابكة التي جمعت بين الفاتنة الغامضة غارانس وأربعة رجالٍ يحيطون بها : المجرم بيير فرانسو لاسينييه ، والممثل المسرحي فريدريك لاميتر ، والثري الأرستقراطي الكونت دي مونتاري ، وممثل البانتوميم بابتيست ديبرو ، وعاطفة الحب الخجولة التي حملها لها الأخير قبل أن تقودها الحياة بعيداً عنه. ثم نشهد في النصف الثاني (الرجل في الملابس البيضاء) عودة تلك العلاقات للتشابك مرةً أخرى بعد سبع سنوات من غياب غارانس .

قيمة هذا الفيلم – الذي أعتبره واحداً من أفضل الأفلام التي شاهدتها في حياتي – تأتي من كونه الخلاصة المختمرة للواقعية الشعرية ، ربما لأنه جاء في الأمتار الأخيرة لمجدها قبل أن تحتضر وتتلاشى في فرنسا ما بعد الحرب. هو تكثيفٌ حيٌ وعظيم لكل ما استطاع جذب الجمهور اليها على مدى عقدٍ وأكثر من الزمان. التتالي المدروس بدقة للتطورات النفسية للشخصيات ، والتحليل الدقيق لواقعها من جهة ولطريقة تفاعله مع واقع الشخصيات الأخرى من جهةٍ أخرى ، والنفحة الشاعرية العظيمة التي يكسو بها قصته الرومانسية تحت السطح ، وبالتأكيد الختم الذي طبع سينما الواقعية الشعرية : الإرتكاز على حوار فخمٍ ، ومشبعٍ ، وفي الصميم دائماً. مارسيل كارنيه كثف كل جماليات الواقعية الشعرية في هذا الفيلم وقام بتقطيرها للمشاهد على مدى ثلاث ساعاتٍ من الفخامة السينمائية وكأنما كان يشعر بأنها القصيدة العظيمة الأخيرة لتلك الموجة.

في محور هذا الفيلم المشطور هناك قصة حب ، لكنها لا تشكّل جزءًا كبيراً من الحكاية ! نص جاك بريفير لا يحاول أن يجعل جمالية الحالة التي يصنعها في علاقة امرأةٍ بأربعة رجالٍ في حياتها تتراجع الى الخلف من أجل علاقة حب غارانس وبابتيست (المحورية). منذ البداية يُنصِف النص شخصياته فيمنح لكلٍ منها المساحة الكافية لنتعرف عليها ، نستمتع بألاعيب لاميتر ، ولا يروقنا لاسينييه منذ الظهور الأول ، في حين تفتننا موهبة بابتيست عندما يكشف للشرطة عن سرقة الساعة التي حصلت أمامه. لا تستطيع بسهولة ان تتبيّن أي الشخصيات هي الرئيسية وأيها هي الثانوية ، ولا تستطيع حتى أن تحدد المحور الحقيقي للحكاية. كارنيه يسيّر علاقة الحب التي يحملها بابتيست لغارانس بهدوءٍ قد يدفع المشاهد للإحساس بأنها علاقةٌ من طرفٍ واحد خلال النصف الأول من الفيلم ، وفي الوقت ذاته لا يقلّل من قيمة علاقة غارانس بالرجال الآخرين. هذه العدالة تتيح لنا تلقي فكرة أن كل واحدٍ من الرجال الأربعة أحب غارانس بطريقته عوضاً عن تلقي ذلك كعلاقة حبٍ تقليدية بين امرأة غامضة وممثلٍ إيمائي ، وهذا يتيح لنا التقاط ذات المشاعر التي تلتقطها غارانس من الرجال الاربعة طوال الفيلم ، فنفاجأ بمشاعر بابتيست عندما يبوح بها أول مرة – تماماً كما تفاجأت غارانس – ونعتبر لاميتر شخصاً مسلياً ولعوباً كما يبدو تماماً لغارانس ، ونحتفظ بشعور الصداقة تجاه لاسينييه ولا نبدأ بالنظر اليه كمجرمٍ خطر الا عندما يبدو كذلك لغارانس عقب جريمة القتل التي تجري في النزل ، ولا يبدو لنا الكونت دي مونتاري أكثر من معجبٍ ثري سرعان ما يصبح حلاً عندما تشعر غارانس بأنها قد تورطت فعلاً ! يؤسس كارنيه بذكاءٍ لشخصياته في النصف الأول بطريقةٍ توفّر عليه الكثير من تبرير تصرفاتها مع تقدّم الاحداث ، وبالتالي لا تضطر (اليد العليا) له كصانعٍ للعمل لفعل الكثير عندما يقدّم لنا الحب المنبعث في نصفه الثاني ، فيكتفي بوضع المراقب لعودة غارانس الى المدينة تاركاً شخصيات رجاله الأربعة تتفاعل بسيولة مع هذه العودة. وأجمل ما يفعله كارنيه على هذا الصعيد أنه يعطي المبرر المنطقي من وجهة نظر كل شخصية تاركاً لها أن تعبّر عن نفسها حتى وإن لم يبدُ (الفعل) منطقياً في ظاهره لنا : لا يتيح الكثير لتبرير تصرفات لاسينييه فهو قبل كل شيء مجرم ، ولا لتفسير استعلاء لاميتر فقد عرفناه مغروراً ، ولا لتفسير ضعف بابتيست أمام عودة غارانس فهو عاشقها الصامت ، ولا لتفسير رغبات الكونت فهذا ما اعتاد عليه ! تضرب عبارة (الغيرة تكون ملكاً للجميع ، عندما لا تكون المرأة ملكاً لأحد) في صلب علاقات المربع. يخلق كارنيه - من خلال تهيئته شخصياته لتتفاعل مع عودة غارانس بعد سبعة أعوام - تجسيداً للعمق الحقيقي للحب وحقيقته القائمة على الشعور الذي لا يمكن تفسيره ولا رسم حدودٍ واضحةٍ له. لذلك تبدو علاقات المربع بغارانس غامضةً مبهمة الحدود كما هو جوهر الحب ذاته.

لا يحمل كارنيه أيضاً ثقل فيلمه فقط على شخصياته الخمس ، بل يمنحنا شخصياتٍ ثانويةً من اكثرها جمالاً و جودة في تاريخ السينما كله. الملفت فعلاً في الشخصيات الثانوية التي يقدمها الفيلم أنها غنيةٌ جداً ، لها عالمها الخاص خارج اطار الحكاية ، نجدها تعيش في حكايتها الخاصة ولا تظهر هنا سوى بالمقدار الذي تحتاجه حكاية غارانس و رجالها الأربعة ، ويمكن للمشاهد بقليلٍ من الخيال أن يصنع لكل شخصيةٍ من تلك الشخصيات فيلماً مستقلاً : والد بابتيست ، ومالكة النُزُل ، ومرافق لاسينييه ، والشحاذ الأعمى ، وبائع الملابس المستعملة ، وغيرهم. معهم لا يشعر المشاهد بأن هذه الشخصيات وجدت أساساً لتؤثر في الحبكة قدر ما هي وجدت لتغنيها وتجعلها نابضة بالحيوية والتفاصيل. تمد هذه الشخصيات الحكاية بما تحتاجه فقط في خلفية الصورة بينما لها حياتها الخاصة التي تعيشها بعيداً عن كل هذا ، ذات الجزئية التي أعشقها في Gone with the Wind وهي ربما ذات الجزئية التي جعلت نقاد السينما الفرنسيين يعتبرون الفيلم النسخة الفرنسية من تحفة فيكتور فليمينغ التي تتقاطع معه في أمورٍ عدة.

الغنى في خلفية الحكاية لا يستمده كارنيه من شخصياته الثانوية فقط ، الكثير من التفاصيل المكانية والزمانية تجذب المشاهد ، خلفية الحكاية مبهجة وفاتنةٌ وقادرةٌ على أن تقينا الإنجراف مع الوتر المأساوي لقصة الحب. منذ اللحظة الأولى تبدو جادّة الجريمة جذابةً لنا ، الكرنفالات والعروض الجوالة والمسرح والأداء الصامت. يأسرنا بابتيست منذ اللحظة الأولى فنظنه شخصاً مُعاقاً خاضعاً لوالده لكنه سرعان ما يستحوذ على قلوبنا عندما يرسم أدائياً حادثة السرقة التي حصلت ! ولأن ذلك يحدث فبالتأكيد تكون مسرحيات بابتيست اللاحقة محمّلةً بطاقةٍ إيجابيةٍ تُغني الصورة وتلامس صلب الحكاية في تجسيد السجن العاطفي الذي يحتوي بابتيست : سجن غارانس من جهة ، وسجن التمثيل الإيمائي من جهةٍ أخرى. صدق بابتيست على الصعيدين هو ما يجعله نصير المشاهد دون منازع : يوجه عاطفته في الأحداث من خلاله ، ويقترب من غارانس ويبتعد بمقدار قرب غارانس أو ابتعادها عن بابتيست ، وفي الوقت ذاته يتعاطف أيضاً مع ناتالي وحبها غير المقدر لبابتيست بمقدار قرب بابتيست أو ابتعاده عنها. هذا فعالٌ جداً ويجعل من هذا الفيلم – كما فعل بـ Gone with the Wind قبل ستة أعوام – مثالاً نادراً جداً على قصة الحب العظيمة التي تنسل بحذر و ذكاءٍ وصدق بين شخصيتين فيهما من التناقض والمكابرة الكثير .

وبالطبع يكون مجحفاً الحديث عن جماليات العمل بعيداً عن أداءٍ ذكيٍ جداً من آرليتي نجمة المسرح الفرنسي في الثلاثينيات والتي تمتلك غارانس بإمتيازٍ تام وتبقيها كما يجب أن تكون : مزيجاً من المومس والمرأة الطيبة والوصولية والعاشقة والمضحية والمنطلقة في خط نفسيٍ موحّد على الرغم من أنها كانت قد تجاوزت العمر المناسب للقيام بدورٍ كهذا. لا أقل منها يجيء أداء جان لوي بارو لدور بابتيست ، وأداء بيير براسير لدور فريدريك لاميتر .

بالنسبة لي هذا الفيلم هو مفخرة الواقعية الشعرية بالرغم من تقديري لـ The Rules of the Game و Grand Illusion و L’Atalante . قيمته في ولاءه لتقاليد الصنعة السينمائية في فترة تحوّلٍ مهمة في مسيرة السينما الفرنسية والسينما عموماً ، بالإضافة للقيمة العالية لنصه وإخراجه ، وللفرادة التي من السهل على مشاهده التماسها فيه. كنت أتمنى لو أن مسيرة كارنيه استمرت ابعد من ذلك ، أو بمعنى أدق وجدت الإحتفاء المناسب بعد ذلك ، بالنظر لأن الرجل أخرج 12 فيلماً بعد هذا الفيلم لم تجد ما تستحقه بعدما ساهمت الموجة الفرنسية الصاعدة في القضاء عليه تماماً. صرتُ لاحقاً أكثر مرونةً مع جفاء كراسات السينما تجاهه بالرغم من اعجابهم المُنكّر به (قيل بأن تروفو شاهده ثمان مرات)! أراهم نفّسوا عن ثورتهم على الكلاسيكي في السينما الفرنسية من خلاله ومن خلال مارسيل كارنيه تحديداً. أمرٌ يؤكده عودتهم لاحقاً لوضعه ثامناً في قائمة أعظم الأفلام في تاريخ السينما وراء فيلمين فرنسيين فقط هما The Rules of the Game و L’Atalante . صارت تلك القصة من الماضي البعيد الآن ، والفيلم الذي اختاره 600 ناقدٍ فرنسي - على هامش إحدى دورات مهرجان كان – كأعظم فيلمٍ فرنسيٍ عبر العصور ، ربما يليق بتلك المرتبة فعلاً .

التقييم من 10 : 10    


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters