•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الأحد، 27 أبريل 2014

Le Doulos

كتب : عماد العذري

بطولة : جان بول بولمندو ، سيرجي ريجياني
إخراج : جان بيير ميلڤيل

قبل أن يحقق جان بيير ميلڤيل فيلميه الأشهر في عالم الجريمة مع Le Cercle Rouge و Le Samouraï قدم الرجل عمله هذا الذي افتتح به سلسلةً من خمسة أفلامٍ تناولت العالم السفلي وصراعات العصابات ورجال التحقيق وحققت شهرة الرجل ورواجه في تلك الحقبة. إذا كنت تحب نصوص كوانتن تارانتينو ، فهذه هي الحكاية المفضّلة لديه شخصياً ، والتي كان لها الأثر البالغ – كما يقول – على نص Reservoir Dogs .

قبل هذا الفيلم تناول ميلڤيل عالم الجريمة من خلال كلاسيكيته Bob le flambeur التي أثرت بشدة على الموجة الفرنسية الجديدة بعده ببضعة أعوامٍ فقط. يقال أن غودار منح ميلڤيل دوراً في Breathless تقديراً لأثر ذلك الفيلم على أفكار نقاد كراسات السينما الذين شكّلوا عقد الموجة حينها. بعيداً عن الموجة كان ميلڤيل متفرداً ، يغرّد خارج السرب ويقدم الفيلم النوار لجمهورٍ اعتاد الحصول عليه من ما وراء البحار. صحيح أن نواريات هوليوود تأثرت في جزءٍ من بنيتها البصرية أساساً بالواقعية الشعرية الفرنسية ، إلا أن ميلڤيل لم يأخذ المسألة من مبدأ العودة للأصول ، بل قدّم – إبتداءً من هذا الفيلم – الفيلم النوار المتأثر بشكلٍ صريح بنواريات هوليوود بعيداً عن خصوصية الزمان والمكان واللغة ، ونجح في ذلك.

الحكاية عن موريس المجرم الذي غادر السجن للتو بعد محكومية بأربع سنوات. يعود محملاً بماضيه إلى أصدقائه القدامى بحثاً عن فرصةٍ جديدةٍ في العالم السفلي : جيلبرت الذي انتهى للتو من عمليةٍ ضخمةٍ استهدفت متجراً للمجوهرات ، وسيليان الذي يحاول مساعدته في تنفيذ عملية سطوٍ صغيرةٍ على أحد المنازل. لكن الأمور في ظاهرها محكومةٌ بالكثير من مخلفات الماضي ، حيث تتلاشى الحواجز بين الطيب والشرير ، و الوفي والخائن .

يفتتح ميلڤيل فيلمه السابع – المقتبس عن روايةٍ لبيير لوسو – بتعريف ميلڤيل لعنوان الفيلم الذي يعني في اللغة التقليدية القبعة وفي لغة العالم السفلي من يعتمر القبعة : المخبر السري ! الإنسان الواقع في المنتصف بين عالم الجريمة الذي يعيش فيه وعالم الشرطة الذي ينتمي له. يتلو ذلك التعريف لقطةٍ طويلةٍ لموريس في طريقه لمقابلة جيلبرت تنتهي بطرح ميلڤيل مبكراً فكرة أن على المرء في هذا العالم أن يختار : إما أن يموت أو يكذب ! يقدم ميلڤيل في فيلمه – كما سيعوّدنا لاحقاً – شخصياتٍ مفككةً ، غامضةً ، قليلة الكلام ، منقسمة ، وعديمة الولاءات ظاهرياً ، بالرغم من أن الصورة لا تبدو كذلك في عمقها ! يتناول ميلڤيل من خلال هذه الشخصيات الحدود (غير الحقيقية) لمفهوم الولاء في عالم الجريمة ، وكيف يمكن تسويقه لدى شخصٍ تخلى في الأساس عن المبادىء البديهية للشرف من خلال قيامه بإرتكاب جريمة ! يبدأ ميلڤيل هنا رحلته مع موضوعه المفضل عن الصداقة والخيانة والولاء والذي طبع سينماه لاحقاً وأحدث بالغ الأثر على أعمال واحدٍ من أشهر مريديه ، الصيني جون وو .

جمال الفيلم برأيي أنه يحافظ على وترٍ دقيقٍ يربط ماضي الشخصيات بما يحدث لها حالياً دون أن يفقد الإتصال بحاضرها (أو ما يمثله الحدث الذي يجري الآن) ، لذلك يبدو كل فعلٍ مرتبطاً بشيءٍ في الماضي وفي الوقت ذاته محركاً للحاضر. ويكون ما نشاهده مزيجاً من فيلم الإثارة ودراميات الأسرار التي تحركها علاقاتٌ راكدةٌ تحت السطح. الأهم من ذلك أن ميلڤيل لا يجعل الغموض هدفاً مجرداً – وهي جزئيةٌ قد تمنحه قيمةً آنيةً لا تلبث أن تزول - و إنما يجعله مجرد وسيلةٍ لتحريك الحدث. الحدث في الفيلم غامضٌ وغير محسوم حتى من وجهة نظر الشخصيات ذاتها التي تقرأه - مع كل خطوةٍ فيه - بطريقةٍ مختلفة. نراه يذهب في إتجاه ثم يصبح في الإتجاه المعاكس تماماً بمجرد معرفة الحقيقة. عندما يتصل سيليان بالمفتش سالينياري بمجرد خروجه من منزل موريس يشكل المشاهد عاطفةً معينةً تجاه ذلك ، ثم ينعكس المعنى والشعور تماماً بمجرد معرفة الحقيقة ! يدفعك النص مع كل فعل لتشكيل عاطفةٍ أو وجهة نظر أكثر من دفعك لطرح أسئلة. تشاهد موريس يقتل جيلبرت فتعتقد أن للأمر علاقةً بالماضي الذي كان موريس يتكلم عنه أو بدافع السرقة كما حصل ، وتشاهد سيليان يتصل بالشرطة فتتذكر انتقاد جيلبرت لعلاقة موريس بسيليان ! كل حدث نُهيأ له بطريقةٍ معمولةٍ لا تجعله مثاراً للاسئلة ، والنص يستغل هذا الإزدواج الشعوري ليجعل من العمل ككل قابلاً للإستكشاف مع كل مشاهدة ،  يصبح من الصعب في ختام الفيلم تحديد طبيعة المشاعر المتشكلة تجاه أي شخصيةٍ من شخصياته .

في العمق هناك سيليان (يؤديه جان بول بولمندو في ذروة نجوميته وبأداءٍ مثاليٍ جداً لهذه الشخصية)، رجلٌ يرغب في بدايةٍ جديدة ، الإنعتاق من عالم القبعات ، إشترى منزلاً فخماً خارج المدينة ليتخلص من كل ذلك ، لعب الدورين معاً وأقرب صديقين في حياته هما مجرمٌ ومحقق شرطة !! يغوص ميلڤيل في عالمٍ لا أصدقاء فيه ، سلسلةٌ لا تتوقف من اكتشاف حقيقة الصداقات التي نشاهدها : موريس وجيلبرت مطلع الفيلم ، ثم موريس وسيليان ، ثم موريس وتيريز ، قبل أن نعود لموريس وسيليان مجدداً ! حدودٌ هلاميةُ جداً تفصل بين صداقة كل ثنائيةٍ في الفيلم وبين غدرهم ببعضهم البعض .

في الفيلم أيضاً الكثير مما أحببنا في الفيلم النوار ، ليس فقط على مستوى الحكاية ، بل على صعيد التوظيف المثالي لعناصر الصورة بالطريقة ذاتها التي اعتدناها في كلاسيكيات النوار القادمة من هوليوود. يستخدم ميلڤيل الدلالات البصرية البسيطة للأشياء من خلال استكشاف أوسع للعلاقة بين دواخل الشخصيات والموسيقى التصويرية وبناء المشهد ، متنقلاً في تتالي لقطاته - ومن خلال هارموني طازج وغير تقليدي - بين الواسعة والمتوسطة والكلوز آب ، حتى التصوير عبر المرآة يقدمه هنا بدلالته البسيطة للإنسان الذي يقوم بتقييم ذاته ! لا يتنكّر ميلڤيل بالمقابل للطقوس البصرية التقليدية لفيلم النوار ، حيث الأزقة والضوء النافذ وأعمدة الإنارة والضباب والمعاطف والقبعات التي تملأ الفيلم ، وبالتأكيد لقطةُ محوريةٌ لا تنسى - في ذروة رواج القطع السريع مع الموجة الجديدة - تدور فيها الكاميرا مع الشخصيات أثناء مشهد التحقيق دون قطعٍ لأكثر من ثمان دقائق ! ميلڤيل في واحد من أفضل أفلامه .

التقييم من 10 : 9


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters