•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الأحد، 14 ديسمبر 2014

The Circus

كتب : عماد العذري

بطولة : شارلي شابلن ، ميرنا كينيدي
إخراج : شارلي شابلن

لو نظرنا لشارلي شابلن وللسينما عموماً بالنظرة التنميطية التقليدية كصانع أعمالٍ كوميدية فهذه اقرب كوميديات شابلن إلى قلبي وأجودها بالمعنى الخالص للكوميديا. معظم أفلام شابلن قدّمت الكوميديا مطعّمةً بمذاقٍ آخر ، هجائيٍ أحياناً ، تراجيديٍ أحياناً ، رومانسيٍ في كثيرٍ من الأحيان. وذلك المذاق كان هو ما يطغى في النهاية على الكوميديا الصرفة التي لطالما ارتبطت بإسم الرجل. في مناسباتٍ قلة كانت الكوميديا وحدها هي سيدة الموقف ، هذه هي المناسبة الأجمل من وجهة نظري .

جاء هذا الفيلم بين كلاسيكيتي شابلن The Gold Rush و City Lights . مشوار إنتاج هذا الفيلم تخللته مجموعةٌ من المفارقات الغريبة شبيهةٍ بتلك التي يضعها شابلن في أفلامه لدرجةٍ يمكن اعتبار ظروف انتاج هذا الفيلم بحد ذاتها فيلماً من أفلام شابلن التي يمتزج فيها البؤس والأسى ليُخرج للجمهور شيئاً مسلياً يستمتعون به. لم يكن العمل ليستنزف عامين كاملين من التصوير لولا الظروف المأساوية التي مر بها شابلن أثناء تنفيذه والتي قادته إلى الإنهيار العصبي قبل أسابيع من الإنتهاء منه. ترافق العمل في الفيلم مع إجراءات طلاق شابلن من زوجته الثانية ليتا غراي  ، ثم مع خبر وفاة والدته ، قبل أن تحترق استديوهات الرجل بما فيها خيمة السيرك ذاتها مما تسبب له بخسائر ماديةٍ فادحة تزامنت مع مشاكل أخرى خاصةٍ بالضرائب المتراكمة عليه ، أعقبها فقدانه لإحدى علب الفيلم التي استغرقت وقتاً طويلاً في التصوير ، قبل أن تظهر السينما الناطقة في الأمتار الأخيرة من الإنتاج و تجعل كل شيءٍ أسوأ مما هو عليه !

مع ذلك حقق الفيلم نجاحاً وقبولاً لافتاً لدى الجمهور الذي ما زال بعضه عصياً على الإنبهار بالسينما الناطقة التي جاء هذا الفيلم بعد بضعة أسابيع فقط على إطلاق أول أفلامها. أحبّه الجمهور والنقاد على السواء وسرعان ما أصبح واحداً من أكثر الأفلام إيراداً في تاريخ السينما الصامتة. مع ذلك بقي بالنسبة للكثيرين بهجةً عابرةً سرعان ما أصبح معها أقل كلاسيكيات شابلن المهمة تقديراً ورواجاً – ربما بتأثير مدته التي لا تتجاوز 69 دقيقة - ثم انحسر تدريجياً و اختفى لأربعة عقود قبل أن يُعاد إطلاقه مطلع السبعينيات – مع أغنيةٍ إفتتاحيةٍ من شابلن نفسه - و كأنما أعيد اكتشافه من جديد !

في الفيلم نطارد متشرد شابلن الذي يجد محفظةً مسروقةً في جيبه فيصبح مطارداً من الشرطة ومن سارقها ! تلك المطاردة تقوده إلى سيركٍ جوال سرعان ما تتحول المطاردة فيه إلى جزءٍ ناجحٍ جداً من العرض ، لذلك يحاول مدير السيرك استغلال المتشرد من خلال منحه وظيفة مساعدٍ في السيرك والدفع به من حينٍ لآخر – و دون أن يدري – ليقدم عرضاً ناجحاً للجمهور ! لكن الأمور لا تستمر على هذا الحال خصوصاً عندما يشعر المتشرد بعاطفةٍ غير مفسرة تجاه ربيبة مدير السيرك التي تقدم العروض البهلوانية فيه .

الفيلم – كما هو إسمه – يقوم في كوميدياه على السيرك. تبدو صورةُ السيرك و كأنما كانت جذابةً جداً في تلك الحقبة خصوصاً وأنه أطلق بعد أشهر فقط على فيلم تود براونينغ The Unknown . السيرك في العموم مادةٌ خصبةٌ لتقديم كوميدياتٍ غير مسطحة ، فيها الترفيه والتسلية التي يقصدها الجمهور من ناحية ، وفيها الحكايا المؤثرة التي تطفو تحت السطح عن الحزن الكامن والضحكة مدفوعة الأجر لتجعل من صورة الترفيه الطاغية على السطح شيئاً قيماً وممتعاً للحفر فيه واستكشافه والنفوذ من خلاله إلى ما هو أعمق في الحكاية .

هذا الفيلم في ظاهره فيلمٌ عن الكوميديا ! A Comedy كما تقول إفتتاحيات شابلن. وكوميدياه عظيمةٌ فعلاً وهي أجمل ما فيه وسبب قيمته. في هذا التفصيل تحديداً أجد أن كوميديات شابلن الرومانسية الأولى تتفوق على أفلام باستر كيتن في الجزئية ذاتها. في الكوميديا الرومانسية لكيتن تتفوق (الصنعة) التي تخدّم جزء الكوميديا في المعادلة وليس الجزء الرومانسي ، على عكس ما كان يفعله شابلن الذي كانت كوميدياه تلتصق بحميمية بالجزء الرومانسي من الحكاية وتبدو نابعةٍ معها من جذرٍ واحد ، وهذا ما قد لا يبدو جلياً هنا بصورةٍ واضحةٍ وإن كان سيبلغ ذروته لاحقاً في City Lights . كوميديا شابلن هنا تتفوق على كل شيء ، وهي كفيلةٌ بضبط سقف التوقعات من الفيلم. إذا جلست لمشاهدة هذا الفيلم من أجل الضحك وحده فستضحك ، وبرأيي لو أن شابلن ركز على مثل هذه النوعية من الأعمال في ذروة مسيرته لاحقاً وابتعد عن الخطابية والتلقين لكن أنجز ما هو أعظم. 

في العمق ، الفيلم أيضاً هو فيلمٌ عن الكوميديا ! يتناول الفيلم قيمة الكوميديا وأثرها وتقبلها. (الكوميديا التي تنجح) وفقاً للسياق القصصي للفيلم هنا هي الكوميديا العفوية غير المقصودة. يقدم لك الفيلم وجبةً دسمةً منها. مشهد المطاردة مطلع الفيلم ، ومشهد قاعة المرايا الذي ألهم أورسون ويلز ربما مشهده الشهير في The Lady from Shanghai بعد عشرين عاماً ، ومشهد الروبوت الذي يتقمصه المتشرد لتمويه نفسه أثناء المطاردة ، بالإضافة إلى مشاهد السيرك جميعها بما فيها المشهد الشهير للسير على الحبل والذي صوره شابلن في 700 لقطة تدرّب من أجلها أسبوعاً كاملاً على ارتفاع 12 متراً وحوّله بفضل الظهور المجنون للقرود من حوله وحبل الأمان المربوط في ظهره إلى شيءٍ أخطر مما لو صُوّر دونه ! شابلن يتحدى نفسه في المشهد خادماً – ضمن تدفق الحكاية - الشخصية ذاتها التي تتحدى نفسها أيضاً لإثبات شيءٍ أمام الفتاة التي تحب ! المشاهد التي تعلق في البال من هذا الفيلم تفوق ما يُنتظر من مدته الزمنية التي تتجاوز الساعة بقليل. مدير السيرك يخبر المتشرد أن الكوميديا التي أعجبت الجمهور هي الكوميديا التي قدمها بعفوية ، قدمها دون أن يتعمّد تقديمها ، بينما لم يرُق لهم عندما تقصد إضحاكهم فافتعل من أجل ذلك ! يبدو هذا التفصيل - الذي يضرب في عمق فكرة الكوميديا - بالغ الأثر عند النظر اليوم لمسيرة شابلن ذاتها. هذا الفيلم أحد أكثر أفلام شابلن شخصية وقرباً من ذاته وفيه نظرةٌ مبكرةٌ لمفهوم الكوميديا لديه. ذات الكوميديا التي سيتحدث عنها لاحقاً عند أفول المسيرة في Limelight حيث اللوحة التراجيدية لنهاية الفنان الكوميدي ، تماماً كما كان هذا الفيلم اللوحة التراجيدية لبدايته. بينهما مشوارٌ طويلٌ ومتناوب بين الكوميديا العفوية التي تعيش ، والكوميديا المفتعلة التي لا تُضحك أحداً .    

هذا النوع من الكوميديا عظيم لأنه قريب من القلب ولأن جرعة الإفتعال به محدودة وتتدفق بإنسيابيةٍ مدهشة وتحترم في المشاهد منذ البداية توقعه وما ينتظره منها. كوميديا خام دون تنظير وإسقاطات ، تنشأ من الحدث والموقف وتقودنا بسلاسة للموقف الذي يليه. قد يعيب البعض على الفيلم الطريقة التي تنتهي إليها الأمور ، لكن أفلام شابلن عموماً هي أفلامٌ تركز على الحدث وتدفق حدوثه أكثر مما تهتم بنتائجه وانعكاساته ، لذلك غالباً ما تنتهي معها شخصية المتشرد إلى ما كانت عليه في البداية. التجربة هنا بحد ذاتها هي المهمة ، و النهاية بالتأكيد قد تبدو غير اعتياديةٍ لجمهورٍ توقع منذ البداية رؤية البطلين معاً في الختام ! شابلن – الذي نال عن هذا الفيلم أوسكاراً خاصاً في ثاني أعوام الجائزة الوليدة – ينهي فيلمه بأشهر لقطة إغلاقٍ في مسيرته ، مع City Lights بالتأكيد!

التقييم من 10 : 8.5


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters