•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الأربعاء، 21 يناير 2015

Boyhood

كتب : عماد العذري

بطولة : إيلار كولترين ، باتريشا آركت ، إيثان هوك
إخراج : ريتشارد لينكليتر

هذا الفيلم هو عن ممثلين يكبرون في أدوارهم و ليس عن الشخصيات التي تصنع تلك الأدوار ، الجزئية التي يُبهر الفيلم من خلالها قائمةٌ في جوهرها على التقاط ممثليه في أدوارهم على مدى 12 عاماً ، و هي جزئيةٌ ليست كماليةً على الفيلم ، ليست حدثاً طارئاً على النص ، هي جزءٌ من السيناريو ذاته ، هذا ليس فيلماً (يستمد قيمته من تصويره في 12 عاماً) ، هذه هي (12 عاماً تم تصويرها في فيلم) !.

الفكرة الأساسية قادمةٌ في جوهرها من روح لينكليتر الذي لطالما فتنته فكرة سرقة الزمن في الفيلم السينمائي ، قدم ثلاثية Before الكلاسيكية على مدار 18 عاماً و لا يزال ، في تلك الثلاثية – كما هنا – ممثلون يكبرون في أدوارهم ، ممثلوه هم جزءٌ من الشخصية و ليسوا مجرد مؤدين لها ، و الشخصيات بالمقابل ليست مجرد أدوارٍ يلعبها ممثلون بل هي كياناتٌ تتكامل مع ممثلين هم في الواقع من كتبوها و ساهموا في صناعتها أثناء تقدمهم في العمر ، كياناتٌ تسرق الزمن من خلال وضعه مجسداً في ممثليها ، لا جيسي بدون إيثان هوك ، و إيثان هوك هو ليس مجرد مؤدٍ يمكن استبداله بآخر للقيام بدور جيسي في الثلاثية ، استبداله يفقدها معناها القائم في جوهره على القبض على تأثير الزمن على حياة شخصيات تكبر من خلاله كما يكبر ممثلوها .

هذا فيلمٌ عظيم ، من النادر أن يراودني هذا الشعور أثناء مشاهدة أفلامٍ عاصرت إطلاقها ، ربما يراودني بعد المشاهدة أو بعد ايامٍ منها ، لكنني بمجرد انتصاف هذا الفيلم أدركت أنني أمام شيءٍ لا يشبه أي شيءٍ شاهدته ، شيءٌ أعظم في اعتقادي من إطار البعد الزمني الذي نفذت خلاله الحكاية أو إطار قصة النضوج التي ارتبطت به بصورةٍ غير حقيقية ، مكامن عظمة هذا الفيلم – لو استطعت ايجازها – تكمن في أربع جزئيات : الطريقة (الفريدة جداً) التي يستخدمها ليحكي (حكاية) ، و القيمة المختلفة تماماً التي يمنحها لـ(الزمن) ضمن عناصر حكايته ، و حالة (التوازي) التي يخلقها في تقديم الشخصية / الأداء ، و بالتأكيد (القدرية) التي تدير كل ذلك .

لندرك قيمة هذا النص علينا أن ننظر أولاً بعمق في علاقة (السينما) بـ (الحياة) عبر عصور تطورها ، علينا أن نعود إلى بدايات البداية ، في نشأتها الأولى ولدت السينما من أجل المعايشة ، إشراك الجمهور في الأمر من خلال قطارٍ يفزعهم سيره نحو الشاشة ، أو فوهة مسدسٍ يصوبها عليهم بطل الفيلم ، حالة المعايشة تلك سرعان ما ابتذلت و أصبح على السينما أن تبحث عن البدائل التي تجعلها تخلق في جمهورها الوليد حالة المعايشة تلك ، عندها لم يكن أمام الوسيط الجديد غير المكتمل سوى اللجوء للأدب و المسرح كفنونٍ مكتملة الأركان ، فجاءت القصص و الحبكات و التويستات و الشخصيات لتشكل رديفاً جديداً للوسيط الجديد تمثل في فن (السيناريو السينمائي) الذي أشعلت السينما من خلاله مجدداً حس المعايشة في جمهورها من خلال قدرته على التقاط تفاصيل الحياة ووضعها لهم على الشاشة ، و في أبسط أدبياته يقوم السيناريو إما بالإستناد إلى (الحبكة) أو إلى (دراسة الشخصيات) لخلق حالة المعايشة ، أي إما من خلال منحهم حكايةً تلامسهم ، أو من خلال حفره في شخصيةٍ تتقاطع – بشكلٍ أو بآخر - مع شخصيتهم ، أعادت السينما من خلال (الحبكة) و (الشخصيات) جذب الجمهور مجدداً كوسيطٍ فني مختلفٍ تماماً في طريقة تعامله معها عن الأدب و المسرح ، الحياة على شاشة السينما أشبه بكبسولة ، قطعةٌ مكثفةٌ من الأحداث تبدأ في نقطةٍ ما ، و تركز جهدها عليها و تنقيها من غيرها ، ثم تدعمها بحبكةٍ تجعلها قادرةً على توريط المشاهد في الأمر من خلال توليد المعايشة التي تلامسه ، ثم تنتقل بتلك الحبكة إلى الحل السينمائي حيث تنتهي الحكاية ، عملية التكثيف هذه نقلت نظرية (الحركات الثلاث) - التي جاءت من أدب أرسطو - لتصبح ركناً لا يمكن الإستغناء عنه في السيناريو السينمائي ، قامت النظرية على وجود ثلاثة أجزاءٍ لكل حكاية : بدايةٌ و وسطٌ و نهاية ، و هو أمرٌ صحيحٌ تماماً لو تأملناه في كل وسيطٍ يريد أن (يحكي) ، و بالرغم من كم التمرد الذي حصل على هذه النظرية مع تطور آليات السرد و تعدد الحكايات ، بقي ارتباط السيناريو المكتوب بها موجوداً بشكلٍ أو بآخر في كل حكايةٍ سينمائية مهما اختلفت ، ظهرت نظرية سيد فيلد التي أعادت توصيف الحركات الثلاث بشكلٍ مختلف قليلاً منح تلك الحركات مسميات (الإعداد) ثم (المواجهة) ثم (الحل) ، و أضافت لها نقطتي حبكةٍ تدعم تحرك الحكاية ، الحبكة الأولى تقودها نحو (المشكلة) حيث صراع الشخصية مع أي مكمنٍ للصراع ينقلها من (الإعداد) إلى (المواجهة) ، و الحبكة الثانية تقود الصراع من (المواجهة) إلى (الحل) السينمائي منتقلةً من الحركة الثانية إلى الثالثة ، حتى السيناريوهات التي قامت على تجنب التركيز على الحبكة و الإهتمام بالشخصية بقيت مرتبطةً بصورةٍ أو بأخرى بالحركات الثلاث كما هو الحال في نظرية The Hero's Journey التي نتأمل فيها الشخصيات و هي تنتقل لتختبر محنةً و صراعاً سلوكياً في حياتها قبل أن تحصل على يقينها الذاتي في الختام و هي أيضاً - لو تأملناها - مجرد حركاتٍ ثلاث في الواقع ، حتى آليات السرد غير الخطي التي جاءت لتكسر روتينية الحركات الثلاث فعلت ذلك فقط من خلال شكل السرد Narration و ليس من خلال البنية Structure ، و فيلم مثل Memento بالرغم من آلية سرده الفريدة يبقى في بنيته (و ليس في شكله) فيلم حركاتٍ ثلاث لأن للشخصيات فترة إعداد (نراها هنا في الثلث الأخير ، على عكس المفترض) ، و لها فترة مواجهة ، و لها حلٌ قصصي نحصل عليه في الإفتتاح ! ، بشكلٍ أو بآخر بقي للحركات الثلاث سطوتها على كل (حكاية) سواءً كانت قائمةً على (الحبكة) أو على (دراسة الشخصية) ، ريتشارد لينكليتر في هذا الفيلم يتخلص من ثلاثتها ، يحكي (حكايته) دون حركاتٍ ثلاث أو حبكة أو دراسةٍ لشخصية !

ريتشارد لينكليتر بدأ هذا المشروع بهدفٍ مختلفٍ عن الغاية التقليدية للسينما القائمة على التكثيف و التقاط خيطٍ من خيوط الحياة و الحفر فيه و اشراك المشاهد بالإهتمام به حتى النهاية ، لينكليتر هنا لا يريد خلق حس المعايشة من خلال (قطعةٍ يكثفها من الحياة) كما تفعل السينما ، بل هو يريد أن يضع (الحياة) ذاتها على شاشة السينما ، و لأن الغايات هي من تخلق الأدوات ، كان الرجل ليفقد غايته تماماً لو حاول الإمساك بالحياة من خلال الحركات الثلاث لأن ذلك سيقتلها تماماً و سيجعلها مجرد فصلٍ متمحورٍ حول تفصيلٍ ما من حياة بطله ميسن كما يمكن لأي سيناريو تقليدي أن يفعل ، لينكليتر تخلص من الحركات الثلاث تماماً ، صنع تسلسلاً لا ينتهي منها ، يبدأ قبل الفيلم و لا ينتهي بإنتهاءه ، كل مفصل فيه هو مفصلٌ من مفاصل الحياة يمكن روايته في فيلمٍ مستقل ، ليصبح مجموع تلك (المفاصل / الأفلام) هو حياة ميسن ذاتها و ليس مجرد قطعةٍ سينمائيةٍ منها ، أمسك بالحياة من خلال مفاصلها ، جردها بشكلٍ كليٍ من حبكاتها ، ليس للحكاية هنا بدايةٌ أو ذروةٌ أو نهاية ، ليس لها حبكةٌ تقود إلى عقدة ، أو حبكةٌ تقود إلى حل ، يمكنك أن تبدأ الفيلم – كما هو تأملك في الحياة ذاتها – من أي نقطة و تتابعها وصولاً إلى أي نقطة ، النص سلسلةٌ متعاقبةٌ من مفاصل حياتيةٍ يمكن لكل منها أن يصبح فيلماً من حركاتٍ ثلاث ، من هذا النص يمكنك أن تصنع حكايةً عن والدين منفصلين ، أو عن شقيقين تربيهما أمٌ مطلقة ، أو عن علاقة والدٍ بولديه بعد طلاقه ، أو عن أمٍ تكافح لإكمال تعليمها و شق طريقها في الحياة ، أو عن فتىً يكبر مواجهاً مرحلة النضج بمفرده ، أو عن امرأةٍ تزوجت ثلاث مرات و فشلت كل مرة ، أو عن رجلٍ مهاجرٍ يقرر استعادة فرصته في التعليم بناءً على نصيحةٍ من امرأةٍ فعلت الشيء ذاته ، أو عن طفلين يزوران بلدة والدهما و يقفان على ارث العائلة ، أو عن شابٍ يحاول ترجمة عشقه للتصوير الفوتوغرافي للفوز بجائزة ، أو يحاول أن يقضي أول مراحل حياته خارج منزله ، قطعٌ مرصوفةٌ بإحكامٍ وراء بعضها ، كل قطعةٍ أو تفصيلٍ منها يمكن أن تحيله (حركاتٌ ثلاث) إلى فيلمٍ سينمائي ، الفيلم يعود إلى البهجة الخام (حياتنا) و ليس للصور المكثفة التي شاهدناها آلاف المرات على الشاشة الكبيرة .


و لأن اختياره التقاط الحياة ذاتها قاده لكسر الحركات الثلاث كان هذا الكسر سبباً جعل لينكليتر يكتب سيناريو كل مرحلةٍ من الحكاية أثناء البدء في التصوير و ليس قبل ذلك ، حافظ فقط على خطوطه العامة المتمثلة في تأمل مرحلة الدراسة في حياة طفلٍ من أسرةٍ عاديةٍ في تكساس ثم كتب تفاصيل و حوارات كل مرحلةٍ في وقت تصويرها ، و هذا ليس عجزاً أو شيئاً كمالياً مع سيناريست بعبقرية لينكليتر كتب وأخرج عشرة أفلام خلال تصويره هذا الفيلم منها فيلمان في سلسلة Before ، النص الذي كُتب هنا في 180 صفحة هو في الواقع أشبه بدفتر يوميات أو ألبوم صورٍ نتصفحه بعد حين ، لينكليتر يدرك منذ البداية أن كتابة نصٍ ما و تطويع شخصياته وفقاً له يضرب جوهر فكرته في مقتل ، شيءٌ أشبه بكتابة سيناريو حياتك قبل 12 عاماً من وقوعه و هو شيءٌ عبثيٌ تماماً ، لذلك استمر في كتابة نصه مع كل مرحلةٍ من التصوير ليأسر تطور شخصياته و تطور ممثليه في أدوارهم ، و تطور علاقتهم ببعضهم من خلال تقدمهم في العمر و معايشتهم للمرحلة العمرية لشخصياتهم ، سيناريو يجسد (قدرية الحياة) بعظمةٍ لا توصف و لا يمكن ادراك قيمتها و تأثيرها بسهولة ، لينكليتر يمارس على إيلار الدور الذي لعبه المخرج مع ترومان في رائعة بيتر وير The Truman Show ، يضع الخطوط العريضة لحياته أمام الكاميرا ، ثم يراقبه من الأعلى ، يلغي - من خلال مراقبته لممثلين يطوعون نصاً كتب لحظةً بلحظة – الحاجز المفترض بين ميسن و إيلار ، و بين سامانثا و لوريلاي بصورةٍ كان يستحيل الحصول عليها لو كتب النص دفعةً واحدةً أو نفذ دفعةً واحدةً من خلال عدة ممثلين يؤدي كلٌ منهم مرحلةً عمريةً من حياة الشخصية ، النص تماماً مثل دفتر يوميات ، لتدرك قيمته حاول كتابة يومياتك (و قد فعلتها ذات مرةٍ لثلاثة أشهر) ، عندما تقوم بقراءتها لاحقاً لن تجد فيها حبكاتٍ أو مفاصل أو عقد ، ستجد حياةً مملةً في معظمها ، روتيناً يعاد مراراً و تكراراً و أحداثاً تتشابه في معظم تفاصيلها ، الحبكة الوحيدة التي تحدث هنا هي تقدمك في العمر ، تغيرات حياتك في الواقع تحصل على فتراتٍ طويلةٍ من الزمن ، و هنا ملحمية الحكاية ، ملحمية الحياة ذاتها ، أن تقف الآن لتستذكر أين كنتَ قبل عشرة أعوام ، و كيف كانت يومياتك ، و من كان أصدقاؤك المقربون حينها ، و ما كانت عاداتك المفضلة وقتها و كيف أصبحت الآن ، الضمير الجمعي للسنوات هو من يصنع ملحمية الحدث و ليس تتاليه ، و هذا هو حرفياً ما سيشعر به المشاهد تجاه الفيلم سواءً أحبه أم لا ، شعورٌ موزاييكي من التكرار و الإحباط و الملل و الإثارة و الإنتظار و الدهشة و التعاطف و الترقب و الرتابة ، و من السهل على المشاهد بعد الإنتهاء من الفيلم أن يستذكر تفاصيل الحدث المهمة وسط ذلك الروتين ، هذا هو حرفياً ما يحدث في الحياة و ما يبقى من الحياة وسط تتابعاتٍ لا تنتهي و صورٍ تعاد و تتكرر : لن تنسى منزلك الذي غادرته ، يومك الأول في المدرسة ، طلاق والديك ، لعبتك المفضلة ، رحلة الصيد التي ذهبتها مع والدك ، القبلة الأولى ، القرش الأول الذي جنيته بعرق جبينك ، هذا ما يبقى من الحياة / الفيلم ، و هذه هي ملحمية الحياة / الفيلم .

و لأنه يريد الحياة ذاتها فهو بحاجةٍ لممثلين يحيون تلك الحياة ، يحيونها حرفياً ، يتدفقون معها و يعطونها من شخصياتهم دون أن تملى عليهم ، يقول لينكليتر أن شخصية ميسن أصبحت أكثر برودةً مع تقدم الحكاية لأن إيلار كولترين كبر ليصبح شخصيةً أكثر برودةً من طفولته ، علاقة ميسن و سامانثا الصاخبة أصبحت أكثر هدوءاً مع تقدمهم في العمر ، لأن علاقة إيلار بلوريلاي أصبحت أكثر هدوءاً مع بلوغهم سن المراهقة ، لينكليتر لا يأخذ الحياة بصورتها الشكلية فقط و من خلال بعدها الزمني وحده ، يلعب بعبقرية على الجانب القدري فيها الذي يجعل من غير المنطقي وضع تخطيطٍ تفصيليٍ للمدى الذي ستذهب إليه الشخصيات في تفاعلها مع بعضها عندما يكبر ممثلوها فيها ، ذلك شيءٌ غامضٌ غموض الحياة ذاتها ، و لذلك كتبه لحظةً بلحظة ، و أتاح لممثليه اختبار تدفق شخصياتهم في ذلك القدر ، ملأ فيلمه بتفاصيل ولدتها اللحظة و ليس السيناريو المسبق الذي يقتل قيمة اللحظة ، في أحد المشاهد يعلم الأب بأن لإبنته صديقاً من خلال فيسبوك ، فيسبوك لم يكن قد ظهر للوجود عند بداية النص ، و كأنما كان قدر الشخصية – الذي لم تعلمه عند بداية مراقبتنا لها – أن تعلم بحالة ابنتها العاطفية من اختراعٍ سيولد لاحقاً ، و في الحياة لا وجود لـ Intertitles تظهر على الشاشة لتريك أين أصبحت حكايتنا ، يقبض لينكليتر على (قدرية) الحكاية من خلال علاماتٍ (قدرية) ينثرها فيه : وجوه ممثليه الذين كبروا ، مباراة كرة قدمٍ شهيرة ، جزءٌ ثالثٌ من هاري بوتر ، ظهور الآي بود ، أبٌ يحادث ولده عبر سكايب ، حملة باراك أوباما الإنتخابية ، كلها تفاصيل لم تكن في المخاض الأول للحكاية بل ولدت معها ، لأن شخصيات / ممثلي لينكليتر لا يعلمون عن أقدارهم شيئاً ، سيرحلون على مدار 12 عاماً ليكتشفوه بأنفسهم ، ذات التفصيل الذي يجعل من فكرة الحديث عن أداءات إيلار كولترين و لوريلاي لينكليتر حديثاً عبثياً ، أي محاولةٍ من لينكليتر لإدارة ممثليه في هذه الأدوار تنسفها ، لأنها تنقل مؤديها من التفاعل إلى الإنفعال ، و من أن تكون (الشخصية المكتوبة في النص) إلى أن تصبح مجرد (أداءٍ وضع لهذه الشخصية) ، هذه الشخصيات (بممثلين من الوجوه الجديدة التي اشتركت في الفيلم دون تجارب أداء) يجب ألا تؤدّى كيلا تخلق الحاجز بين الشخصية و الأداء ، تماماً و كأنما التقط لينكليتر ممثلاً طفلاً رأى فيه الموهبة ، و منحه تحقيق الهاجس الذي يراودنا من حينٍ لآخر : أن نحيا حياةً أخرى ، نحياها فعلاً ، لكن لينكليتر عندما يمنحه هذه الفرصة لا يعلم على وجه الدقة هل هو طريقٌ سيحبه إيلار لاحقاً ؟ ، هل سيكبر معه 12 عاماً ليصبح ممثلاً بعد ذلك ؟ ، لينكليتر لا يعرف لأنه يريد ان يترك شخصيته لأقدارها ، طفلان (إيلار و لوريلاي) أراد لهما لينكليتر أن يلعبا دور شقيقين لـ 12 عاماً ، هما لم يختارا أن يكونا شقيقين لأنه (لا أحد يختار عائلته في الحياة) ، لذلك يبدو تفاعلهما مع بعضهما نابعاً من صميم شخصيتيهما و ليس شيئاً دخيلاً عليها ، يطلق العنان لهما ليكبرا معاً في الشخصيتين ، دون توجيهٍ أو بناءٍ مسبق ، تتفاعلان معاً ، تتجاذبان ، تتقاربان ، تفتر علاقتهما ببعضهما ، و عندما يطلب من سامانثا أن تقول شيئاً في حفل تخرج شقيقها لا تأتي الكلمات – التي كتبت في حينها بناءً على مآل الشخصيتين - رنانةً و عظيمة ، تبتسم بفتورٍ يتوازى و فتور علاقتهما كلما كبرا ، و تقول له (حظاً سعيداً) ، الكلام الذي نقوله لأشقاء تقاسمنا معهم مئات اللحظات و لا حاجة لفورةٍ عاطفيةٍ تجعل من لحظةٍ كهذه دراميةً أو منفعلة ، تأثير (المصير) و (القدر) ينعكس أيضاً على شخصيتي الأب و الأم ، والدة ميسن بالرغم من كونها أماً عظيمةً كافحت كثيراً من أجل ولديها إلا أن النص لا يقدمها بصورة الأم العظيمة ، يرى في كلمة (عظيمة) شيئاً مبتذلاً عند تناول الأم ، الأم – أي أم – هي عظيمةٌ حتى يثبت العكس ، لذلك لا تقدم باتريشا آركت في هذه الشخصية التي تكبر معها أي فوراتٍ عاطفية ، الأم لا تفعل ذلك في الحياة ، الأم عظيمة لأنها أم ، لأنها تكون معنا و ورائنا و أمامنا كل يوم دون أن تخبرنا بذلك ، لا فوراتٍ عاطفية في حياتها لأن عاطفتها شلالٌ متدفقٌ في الأساس ، لذلك لا نشعر بالفورة العاطفية إلا عندما تبدأ الأم بإدراك أن كل ذلك الوجود سينطفىء برحيل ولديها ، ميزان العواطف و تفاعل الشخصيات معها في الفيلم قدريٌ جداً ، شيءٌ لا يكتب على ورق و إنما يترك للممثلين الذين يكبرون مع الشخصية لتحديد إتزانه وفقاً لنصٍ كتب في تلك اللحظة ، دون توجيهٍ مسبق ، أي توجيهٍ يكتب في المسودة الأولى للنص سيحول الشخصية / الأداء إلى (مسبقة الصنع) ، و الحياة ليست مسبقة الصنع .

 و تلك القدرية في تصوير ملحمية الحياة ما كانت لتتحقق لولا الأثر البالغ لرحلة الإثني عشر عاماً ، أولئك الذين ينسبون قيمة هذا الفيلم لتصويره في إثني عشر عاماً يحاولون الهروب من فكرة عدم قدرتهم على ادراك قيمته فيحصرونها في هذه الجزئية ، الزمن هنا ليس شيئاً كمالياً بالمرة ، و ليست المرة الأولى أساساً التي يتأمل فيها مخرجٌ في شخصياتٍ كبر مؤدوها على مدى سنوات ، حصل ذلك سابقاً في خماسية أنتون دوينل من أجل (الحبكة) و (الشخصية) ، و فعلها مايكل آبتد و ستيف جيمس من أجل (التوثيق) ، بل وفعلها لينكليتر نفسه في ثلاثية Before ، لكن ما يقوم به هنا مختلف جذرياً ، كما قلت مسبقاً هو ليس فيلماً سينمائياً صور في 12 عاماً ، بل هو 12 عاماً وضعت في فيلمٍ سينمائي ، و الفرق بين الحالتين شاسع ، في الأولى يكون محور القيمة هي الحكاية و الحبكة و التويست و بناء الشخصيات ، الإثنا عشر عاماً هي مجرد بعدٍ زمني ، فضاء تسير فيه الحكاية ، شيءٌ كماليٌ يمكن تحقيق ذات أثره أو مقاربته من خلال تصوير الحدث في عامٍ واحدٍ بممثلين متعددين لكل شخصية ، في الثاني محور القيمة هو الإثنا عشر عاماً ذاتها ، ليست الحبكة أو التويست أو الشخصية ، الزمن ذاته هو المحور ، هو ما نراقبه و هو ما يمنح الحكاية عمقها ، و هو الشيء الذي لا يمكن استبداله أو التخلي عنه ، الفيلم عن تلك الصور التي يلتقطها أناسٌ عاديون لأنفسهم كل عام ثم يعرضونها متعاقبةً على فيسبوك بعد مرور أعوام ، عمق الحكاية ليس في الحبكة أو الشخصيات و إنما في نحت الزمن عليها ، أين كانوا و أين صاروا ، هو أشبه بفجوةٍ في منزل هذه العائلة نطل منها عليهم مرةً واحدةً كل عام لنرى اين أصبحوا ، ثم ننشغل و نتابع أمور حياتنا ثم نعود لنطل عليهم ، نطل أحياناً على حدثٍ هام ، و أحايين كثيرةٍ على أحداثٍ عابرة ، و هنا قد تكمن خيبة أمل بعض المشاهدين الذي يبحثون عن شيءٍ يحرك الحدث ، تحريك الحدث يقضي على عمق الفيلم تماماً لأنه يضع سلطةً عليا رقيبةً عليه نحب أن ننظر للفيلم من خلالها ، حتى تلك المفاصل التي توشك أن تنمو لتصبح محركاً للحدث (طلاقات الأم ، زواج الأب ، الحب الأول في حياة ميسن) يقتلها النص كيلا تقتله ، هي تحدث لأن قدرية الحياة لا تبررو لا تفسر ، لا يهمنا مراقبة تحولها لأن الحياة تستمر ، يهمنا فقط معرفة أثرها و إلى أين ستؤدي بنا ، هذه التفاصيل هي ما تشكل حياتنا بغض النظر عن أسبابها و دوافعها ، و لذلك فإن قفزات النص – التي قد يراها البعض عيباً فيه - هي شيءٌ يؤثر في صميم عمقه ، هي تطورات الشخصيات بين عامين ، أين كنا قبل عام ؟ و كيف صرنا الآن ؟ ، تطورات قاسيةٌ في انسيابيتها لأننا تركنا الحكاية ثم عدنا إليها مثل غائبٍ عاد من سفر ، و هذه الفجوات التي تفصل بين عامٍ وآخر هي استفزازٌ لخيال المشاهد ، استفزاز يعزز قيمة (القدرية) في الحكاية ، و كأنما نسأل أنفسنا كل يوم : ما الذي ينتظرنا غداً ؟ إجابة السؤال هي مساحة الخيال المتروكة لنا في مراقبة ملحمية حياتنا ، تماماً مثل سؤالنا مع كل جزءٍ من ثلاثية Before (أين سيكونون بعد تسعة أعوام ؟) ، و حدوث الحدث على مدار 12 عاماً بـ(إنسيابية) هو أمرٌ عبثي و ساذجٌ جداً ، الحدث (يجب) ألا يكون إنسيابياً ، لأن حياتنا (يجب) ألا تكون إنسيابية و إلا كان بإمكاننا قراءة مستقبلنا بمجرد إنتهائنا من الصف الأول ! ، هذا فيلمٌ عن الحياة ذاتها ، و هو ينتصر لها في أدق تفصيلٍ فيه .

مجدداً هذا الفيلم ليس لنقاش ما يطرح أو ما يقول ، حتى كتابة مراجعةٍ عنه هي استكمالٌ لعمقه ، معظم مراجعاته – دون قصد – لا تحلل الحدث و إنما تحلل الصورة النهائية له – أدركت هذا الآن – لأن الصورة الكبيرة هي ما تهمنا ، الفيلم هو عن الصورة الكبيرة ، عما يبقى بعد انتهائها ، (اللحظات التي تستولي علينا) ، عن كل لحظةٍ اعتقدنا عندها أن الحياة قد انتهت ثم نتذكرها الآن بعد سنوات و نبتسم ، عن الخيبة اللحظية ، و الفشل النسبي ، و الإبتسامة العابرة ، وداع صديقٍ لن تراه مرةً أخرى طوال حياتك لأنك تغادر منزلك للأبد ، ليلةٌ للذكرى تقضيها مع والدٍ بعيد ، شقيان يتوعدانك في حمام المدرسة ، البقاء في الفراش أملاً في عذر غيابٍ عن المدرسة بسبب قصة شعرٍ فرضت عليك ، أن تقود دراجتك في البداية ، أن تقود سيارتك بعد ذلك ، أن تجني السنتات من والدك مراقباً كل F-word ينطقها ، ثم تنطقها بنفسك بعد ذلك ، الفيلم عن القطع الصغيرة جداً ، التفاصيل التي لا يشعر بها سوانا لكنها تشكل في مجملها لوحةً كبيرةً جداً ، ملحميةً جداً ، بأبطالٍ عاديين جداً ، تسلسلٌ متتالٍ من لحظاتٍ لا يمكن تأطيرها ، صنعها ما قبلها و صنعت ما بعدها ، غبية ، مملة ، غامضةٌ ، لكننا نعيشها .

التقييم من 10 : 10


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters