كتب : عماد العذري
بطولة : بن فوستر , وودي هارلسون , سامانثا مورتون
إخراج : أورين موفرمان
باكورة أعمال المخرج أورين موفرمان , يحكي قصة ويل مونتغمري , جندي عائدٌ من حرب العراق , محملٍ ببطولةٍ لا يفهمها , و وسامٍ يرى بأنه لا يستحقه , و إصابةٍ في عينه , يعود إلى بلده باحثاً عن عملٍ عسكري مريح , و يعتقد بأنه نجا من الجحيم الذي عاشه هناك , لكنه يكتشف الآن بأن وظيفته الجديدة هي العمل في مكتب إبلاغ الفواجع التابع للجيش الأمريكي , و المسئول عن إعلام ذوي الجنود المقتولين في الحرب بفاجعة فقدان أبناءهم , تجربةٌ عنيفةٌ سيعيشها و هو يراقب قشور الإنعكاسات العميقة التي يحدثها خبر كهذا على عائلةٍ هانئة , إنتظرت لأشهرٍ و أشهر عودة إبنها المقاتل , لكنه لم يعد .
هذا الفيلم هو التجربة الإخراجية الأولى لأورين موفرمان بعد بضعة سيناريوهاتٍ كتبها , لعل أهمها I'm Not There و Married Life و Jesus' Son ( الذي قامت ببطولته سامانثا مورتون أيضاً ) , و هو هنا يكتب السيناريو بالمشاركة مع أليساندرو كامون , و لا يبدو من الصعوبة - إنطلاقاً من خلفية موفرمان كسيناريست - الملاحظة باكراً أن هذا فيلمٌ عن النص و ليس عن الصورة , يبدو بوضوح و منذ لحظاته الأولى بأن مخرجه هو كاتب سيناريو ممتاز أكثر بكثير من كونه مخرجاً ممتازاً , موفرمان في هذا الفيلم يقف بشكلٍ واضح عند حدود نصه , و لا يحاول أن يتخطاه كثيراً , يحافظ على نصه ( وهو نصٌ قوي ) و لا يحاول أن يتجاوزه كثيراً على الصعيد الإخراجي , فيتعثر الفيلم أحياناً في بعض منعطفاته عندما يحتاج لمخرجٍ محنك يربط جزئيات هذا السيناريو ببعضها , لكنه يتعثر دون أن ينزلق بحيث يفقد قيمته الفنية , يحافظ على جودته و عمقه من خلال هذا السيناريو الممتاز , و كمية الحزن التي تملأه , و جودة الأداءات التي يقدمها .
يتعرض الفيلم في جوهره الأساسي للتباين الإنساني في واحدةٍ من أقسى الإختبارات التي يمكن أن يوضع الإنسان فيها : تلقيه خبر وفاةِ قريبه في الحرب , تتباين ردات الفعل الإنسانية هنا , كل شخصٍ يتلقى الخبر بطريقةٍ معينة , و يتلقى ناقل الخبر ردة الفعل تلك بطريقةٍ مختلفة , الفيلم يتناول مجموعةً خاصةً من الأشخاص , لا يمكن أن نلتقيهم ربما سوى لمرةٍ واحدةٍ فقط في العمر كله , لكن ملامحهم لا تفارقنا طوال العمر , تبقى ملامح الصدمة التي نقلوها لنا , أو تلك التي تلقوها منا محفورةً في الأذهان إلى الأبد , ردود فعل مختلفة : غضب , حسرة , ألم , صدمة , إنكار , إمتصاص , عنف , الفيلم يتجاوز التركيز التقليدي على حجم الفاجعة التي يمكن أن تتعرض لها عائلة سعيدة عندما تتلقى خبر وفاة إبنها في الحرب , ليركز هنا أيضاً على رد الفعل الذي يبديه ناقل الخبر , لطالما شاهدنا في الكثير من الأفلام الحربية شخصاً يقوم بهذا الدور , و لطالما هزنا رد الفعل الذي نشاهده لدى أولئك الأقارب , لكن لم يخطر ببالنا بأن أولئك الذين ينقلون الخبر بالأساس هم بشر , هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها هذا الموقف الصعب من عيني ناقل الخبر , حجم الحسرة و الألم الذي يتملكه تجاه عائلة شخصٍ كان يمكن بطريقةٍ ما أن يكون هو , الفيلم يتبنى تيمة ( خرّاب البيوت ) بطريقةٍ مختلفةٍ عن تلك التي يقدمها Up in The Air هذا العام , على خلاف شخصية رايان بينغهام في ذلك الفيلم : بطل هذا الفيلم لا يستمتع بعمله , هو يعاني الكثير , لا يجد هنا بأن الفرق كبير بين الدمار الذي يحدثه موت صديقك في حجرك , أو ذلك الذي يحدثه بكاءُ أمٍ ولدها الوحيد , أو بكاءُ أبٍ إبنته الموعودة بالجنسية الأميركية , أجمل ما في الفيلم ربما هو كونه يتأمل في مخلفات الحرب , و ليس من عيني الجندي هذه المرة , بل من عيني عائلته و أقاربه و ذويه , و من عيني الزميل الذي ينقل لهم خبر الفاجعة , يتأمل مقدار الشرخ الذي تخلفه الحرب في المجتمع الأمريكي اليوم , يراقب – من منظورٍ إنساني – إنعكاسات الحرب على المجتمع في الجبهة الداخلية و قلةٌ هي بالفعل الأفلام التي فعلت ذلك , الفيلم لا يعلق على الحرب : سياستها , و مبرراتها , و صلاحيتها , و منطقيتها , هذا الفيلم هو فيلمٌ عن الإنسان في الحرب و عن الإنسان ما بعد الحرب , و ليس عن الحرب بحد ذاتها كلعبةٍ سياسية .
الفيلم يقدم في جوهره شخصياتٍ حقيقية , شخصيات توضع في أسوأ وظيفةٍ يمكن أن ينالها إنسانٌ حي , و يقدمها لنا على الطريقة التقليدية , النقيب توني ستون الذي سبق له و قاتل في عاصفة الصحراء , و لم يواجه أي معركةٍ منذ ذلك الحين , و الرقيب ويل مونتغمري المقاتل العائد من حرب العراق بإصابةٍ في عينه , و وسام بطولةٍ تقديراً لما فعله هناك , رجلان عسكريان يوضعان في مهمة مشتركة , مهمة واحدة و عقليتان مختلفتان , تمثل هذه المهمة المواجهة المنطقية بين القوانين و الضوابط من جهة , و الغريزة الإنسانية من جهةٍ أخرى , المواجهة بين الواجب و الإنسانية , يبدو الفيلم و كأنما يبحث عن الإنسانية في مهمةٍ تفتقر لها , و هو من خلال هذا التباين الذي يحدث بين عقليتي بطليه يقدم إختباراً حقيقياً لردود الفعل المتلقاة , و يمكننا بسهولة مع تقدم الأحداث إدراك الهشاشة الداخلية التي تستعمر توني ستون , توني ستون إنسانٌ قبل كل شيء , لكنه إنسانٌ خدرته هذه المهمة , عندما نسمعه يملي على مونتغمري قوانين مهمته ( لا تحتضنهم , هذا جيد لك , و جيد لهم , إنهم يحتاجون للخبر , و ليس لصديق جيد ) , يخيل إلينا فقط إنضباط الرجل و إلتزامه بمهمته , و مع المضي قدماً في هذه المهمة , ندرك تماماً سبب إصرار مونتغمري على البقاء بعيداً عن ذوي القتلى , نعم ( هذا جيد لك ) , يبدو ستون و كأنما إختبر هذه المهمة لسنوات , و عانى بسببها و بسبب علاقات زواجه السابق الكثير من المشاكل مع الكحوليات , قبل أن يخوض رحلةً عسيرةً للخلاص منها , ستون يدرك جيداً بأن ردود الفعل التي سيتلقاها مونتغمري ستكون كفيلةً بتحويل حياته إلى جحيم لو إستسلم لها , نشاهد إصرار ستون على البقاء بعيداً عن كل ما هو إنساني في هذه المهمة بما في ذلك مونتغمري نفسه , نشاهده مجرد موظفٍ تحت إمرته في البداية , لكنه لا يلبث أن يميل إليه مع إستمرار مهمتهما , بالمقابل لا تراوغنا صورة شخصية ويل مونتغمري , بإنقسامها و هشاشتها , ويل مونتغمري ترك صديقته و ذهب إلى حرب العراق , و عاد الآن بإصابةٍ في عينه , و أصدقاءٍ رءآهم يموتون أمام عينيه , و صديقةٍ تركته لتعيش مع غيره , يوضع بعد كل هذا في مهمةٍ عسيرةٍ على بشر , إنسان طبيعي جداً وضع رهن تجارب قاسيةٍ في الحرب و عندما إعتقد بأنه إستفاق من هول تلك الكوابيس وجد أمامه في الديار كابوساً لا يقل قسوة , يحاول النص أن يتجول مع شخصيتيه خارج أوقات دوامهما , يراقب محاولاتهما المملة حماية أنفسهم من ذلك الألم الذي تغذيهم به مهمتهما , و محاولاتهما – اليائسة في كثيرٍ من الأحيان – تجاوزه و نسيانه .
و على الرغم من جودة هذا البناء , لم يكن أورين موفرمان موفقاً تماماً في عمليته الإخراجية الأولى , و لم يستطع أن يمنح بعض المشاهد قيمتها الحقيقية , خصوصاً مشاهد الحانات , علاوةً على كونه تقصد وضع بعض المشاهد الخاطفة لإضفاء بعض الواقعية على الفيلم لكنها بدت في النتيجة مجرد مشاهد فائضة و لا تقدم شيئاً للعمل ( مثل حوارٍ مع مجند ميكانيكي , أو آخر مع شرطي مرور ) , قبل أن يشعر المشاهد بنوعٍ من الضياع في بداية الثلث الأخير من الفيلم , خصوصاً في مرحلة النهر , بالإضافة إلى ذلك لا يمكن للمشاهد أن يتأقلم كثيراً مع شخصية كيلي عشيقة مونتغمري السابقة , كيلي - التي تؤديها جينا مالون في إختيارٍ لا يبدو موفقاً و لا يبدو بالنسبة لي أكثر من دورٍ جنسي قبلته من أجل وضع إسمها على الأفيش - تفقد على الشاشة قيمتها الموجودة في النص , النص يفترض بأن كيلي تترك فراغاً مهماً في حياة مونتغمري , وهو الفراغ الذي يدفعه لخطبته المجنونة في حفل خطوبتها , فراغ يحاول ملئه من خلال أوليفيا أرملة المجند الأسود التي أبلغها بخبر وفاته , على الرغم من أن كيلي لا تقدَّم في الفيلم بطريقةٍ تجعلها تبدو للمشاهد حدثاً مهماً في حياة مونتغمري , هذه النقطة و إن كانت موجودة بوضوح بالنسبة للشخص المتمعن تزال بفعل كمية الحزن التي يقدمها الفيلم للمشاهد , الحزن و السوداوية التي تسيطر على بطله مع كل عملية تبليغٍ يقوم بها , فيبدو إندفاعه نحو أوليفيا نوعاً من الشفقة و التكفير تجاه الألم الذي سببه لها , أكثر بكثير من كونه نوعاً من الهروب من علاقةٍ فاشلةٍ مر بها , هذا التوازن هو ما أبقى الفيلم محافظاً على جوهره بالرغم من وضوح الخلل في هذه الجزئية , الفيلم يقدم كميةً هائلة من الحزن , و على الرغم من أنك تراها في معظم مشاهده , إلا أنه لا يبدو لك و كأنما يتعمد أن يفعل ذلك , و لا يبدو مبتذلاً على الإطلاق في هذا المسعى , يخدمه أورين موفرمان بمشهدية من الطراز الأول , خصوصاً في كافة مشاهد الإبلاغ , التي تقدم للمشاهد مبرراً منطقياً كافياً لمراقبة الإنهيار التدريجي الذي يتعرض له رجلٌ بدأ مهمته هذه و هو شبه منهارٍ في الأساس .
علاوةً على ذلك يأتي جزءٌ من بريق الفيلم من أداءاته , هذا الفيلم يقدم واحداً من أفضل طواقم 2009 , بن فوستر يؤكد الآمال التي وضعت عليه في أفلامه السابقة , خصوصاً في Alpha Dog و 3:10 To Yuma , و على خلاف أدواره هناك يقدم فوستر هنا شخصيةً منقسمةً بعنف , وهشةً بالفعل , على الرغم من بعض الإفتعالية التي تطرأ على أداءه في بعض المشاهد و التي تكاد تطيح بالشخصية أحياناً , وودي هارلسون ممتازٌ في هذا الدور , تبدو ملامح وجهه بحد ذاتها كفيلةً للحديث عن الدور : الإنضباط و الجدية و الصرامة التي تحملها الشخصية أثناء قيامها بواجبها , قبل أن تتكشف أبعادها الأخرى عن مدمن كحولياتٍ سابق حاول الهرب إليها من هول ما رءآه في الحرب و من وطأة علاقات الزواج الفاشلة التي مر بها , سامانثا مورتون تقدم واحداً من أفضل الأداءات المساعدة هذا العام , و تسرق كل المشاهد التي تظهر فيها , ترويض عجيب تقدمه ملامح هذه البريطانية ( السوبر موهوبة ) للحالة النفسية الهلامية التي تمر بها إمرأةٌ فقدت أهم إنسانٍ في حياتها , تمتص الصدمة بطريقةٍ عجيبة , و تجد نفسها تقاد دون وعي في حميميةٍ عاطفيةٍ تجاه الشخص الذي أبلغها بالفاجعة , ربما بدافعٍ من عاطفةٍ أبداها تجاهها و حرمت منها لأشهر , أو بدافعٍ من فراغ , أو كنوعٍ من الشعور بشفقةٍ تحتاجها الآن بشدة , كل هذه الإحتمالات ينقلها أداء مورتون ببراعة , قبل أن تخبره في أجمل مشاهد الفيلم بأنها ( لا تستطيع ) .
كثيرةٌ تلك الأفلام التي جعلتنا نعيش إنعكاسات الحرب في الجبهة الخارجية , و تأثيرها على الجنود في ساحة المعركة , The Hurt Locker هو مفخرة العام على هذا الصعيد , لكن قلةٌ تلك الأفلام التي تناولت إنعكاسات الحرب و تأثيرها العميق على الجبهة الداخلية , The Messenger هو واحدٌ من أفضلها .
التقييم من 10 : 8.5
بطولة : بن فوستر , وودي هارلسون , سامانثا مورتون
إخراج : أورين موفرمان
باكورة أعمال المخرج أورين موفرمان , يحكي قصة ويل مونتغمري , جندي عائدٌ من حرب العراق , محملٍ ببطولةٍ لا يفهمها , و وسامٍ يرى بأنه لا يستحقه , و إصابةٍ في عينه , يعود إلى بلده باحثاً عن عملٍ عسكري مريح , و يعتقد بأنه نجا من الجحيم الذي عاشه هناك , لكنه يكتشف الآن بأن وظيفته الجديدة هي العمل في مكتب إبلاغ الفواجع التابع للجيش الأمريكي , و المسئول عن إعلام ذوي الجنود المقتولين في الحرب بفاجعة فقدان أبناءهم , تجربةٌ عنيفةٌ سيعيشها و هو يراقب قشور الإنعكاسات العميقة التي يحدثها خبر كهذا على عائلةٍ هانئة , إنتظرت لأشهرٍ و أشهر عودة إبنها المقاتل , لكنه لم يعد .
هذا الفيلم هو التجربة الإخراجية الأولى لأورين موفرمان بعد بضعة سيناريوهاتٍ كتبها , لعل أهمها I'm Not There و Married Life و Jesus' Son ( الذي قامت ببطولته سامانثا مورتون أيضاً ) , و هو هنا يكتب السيناريو بالمشاركة مع أليساندرو كامون , و لا يبدو من الصعوبة - إنطلاقاً من خلفية موفرمان كسيناريست - الملاحظة باكراً أن هذا فيلمٌ عن النص و ليس عن الصورة , يبدو بوضوح و منذ لحظاته الأولى بأن مخرجه هو كاتب سيناريو ممتاز أكثر بكثير من كونه مخرجاً ممتازاً , موفرمان في هذا الفيلم يقف بشكلٍ واضح عند حدود نصه , و لا يحاول أن يتخطاه كثيراً , يحافظ على نصه ( وهو نصٌ قوي ) و لا يحاول أن يتجاوزه كثيراً على الصعيد الإخراجي , فيتعثر الفيلم أحياناً في بعض منعطفاته عندما يحتاج لمخرجٍ محنك يربط جزئيات هذا السيناريو ببعضها , لكنه يتعثر دون أن ينزلق بحيث يفقد قيمته الفنية , يحافظ على جودته و عمقه من خلال هذا السيناريو الممتاز , و كمية الحزن التي تملأه , و جودة الأداءات التي يقدمها .
يتعرض الفيلم في جوهره الأساسي للتباين الإنساني في واحدةٍ من أقسى الإختبارات التي يمكن أن يوضع الإنسان فيها : تلقيه خبر وفاةِ قريبه في الحرب , تتباين ردات الفعل الإنسانية هنا , كل شخصٍ يتلقى الخبر بطريقةٍ معينة , و يتلقى ناقل الخبر ردة الفعل تلك بطريقةٍ مختلفة , الفيلم يتناول مجموعةً خاصةً من الأشخاص , لا يمكن أن نلتقيهم ربما سوى لمرةٍ واحدةٍ فقط في العمر كله , لكن ملامحهم لا تفارقنا طوال العمر , تبقى ملامح الصدمة التي نقلوها لنا , أو تلك التي تلقوها منا محفورةً في الأذهان إلى الأبد , ردود فعل مختلفة : غضب , حسرة , ألم , صدمة , إنكار , إمتصاص , عنف , الفيلم يتجاوز التركيز التقليدي على حجم الفاجعة التي يمكن أن تتعرض لها عائلة سعيدة عندما تتلقى خبر وفاة إبنها في الحرب , ليركز هنا أيضاً على رد الفعل الذي يبديه ناقل الخبر , لطالما شاهدنا في الكثير من الأفلام الحربية شخصاً يقوم بهذا الدور , و لطالما هزنا رد الفعل الذي نشاهده لدى أولئك الأقارب , لكن لم يخطر ببالنا بأن أولئك الذين ينقلون الخبر بالأساس هم بشر , هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها هذا الموقف الصعب من عيني ناقل الخبر , حجم الحسرة و الألم الذي يتملكه تجاه عائلة شخصٍ كان يمكن بطريقةٍ ما أن يكون هو , الفيلم يتبنى تيمة ( خرّاب البيوت ) بطريقةٍ مختلفةٍ عن تلك التي يقدمها Up in The Air هذا العام , على خلاف شخصية رايان بينغهام في ذلك الفيلم : بطل هذا الفيلم لا يستمتع بعمله , هو يعاني الكثير , لا يجد هنا بأن الفرق كبير بين الدمار الذي يحدثه موت صديقك في حجرك , أو ذلك الذي يحدثه بكاءُ أمٍ ولدها الوحيد , أو بكاءُ أبٍ إبنته الموعودة بالجنسية الأميركية , أجمل ما في الفيلم ربما هو كونه يتأمل في مخلفات الحرب , و ليس من عيني الجندي هذه المرة , بل من عيني عائلته و أقاربه و ذويه , و من عيني الزميل الذي ينقل لهم خبر الفاجعة , يتأمل مقدار الشرخ الذي تخلفه الحرب في المجتمع الأمريكي اليوم , يراقب – من منظورٍ إنساني – إنعكاسات الحرب على المجتمع في الجبهة الداخلية و قلةٌ هي بالفعل الأفلام التي فعلت ذلك , الفيلم لا يعلق على الحرب : سياستها , و مبرراتها , و صلاحيتها , و منطقيتها , هذا الفيلم هو فيلمٌ عن الإنسان في الحرب و عن الإنسان ما بعد الحرب , و ليس عن الحرب بحد ذاتها كلعبةٍ سياسية .
الفيلم يقدم في جوهره شخصياتٍ حقيقية , شخصيات توضع في أسوأ وظيفةٍ يمكن أن ينالها إنسانٌ حي , و يقدمها لنا على الطريقة التقليدية , النقيب توني ستون الذي سبق له و قاتل في عاصفة الصحراء , و لم يواجه أي معركةٍ منذ ذلك الحين , و الرقيب ويل مونتغمري المقاتل العائد من حرب العراق بإصابةٍ في عينه , و وسام بطولةٍ تقديراً لما فعله هناك , رجلان عسكريان يوضعان في مهمة مشتركة , مهمة واحدة و عقليتان مختلفتان , تمثل هذه المهمة المواجهة المنطقية بين القوانين و الضوابط من جهة , و الغريزة الإنسانية من جهةٍ أخرى , المواجهة بين الواجب و الإنسانية , يبدو الفيلم و كأنما يبحث عن الإنسانية في مهمةٍ تفتقر لها , و هو من خلال هذا التباين الذي يحدث بين عقليتي بطليه يقدم إختباراً حقيقياً لردود الفعل المتلقاة , و يمكننا بسهولة مع تقدم الأحداث إدراك الهشاشة الداخلية التي تستعمر توني ستون , توني ستون إنسانٌ قبل كل شيء , لكنه إنسانٌ خدرته هذه المهمة , عندما نسمعه يملي على مونتغمري قوانين مهمته ( لا تحتضنهم , هذا جيد لك , و جيد لهم , إنهم يحتاجون للخبر , و ليس لصديق جيد ) , يخيل إلينا فقط إنضباط الرجل و إلتزامه بمهمته , و مع المضي قدماً في هذه المهمة , ندرك تماماً سبب إصرار مونتغمري على البقاء بعيداً عن ذوي القتلى , نعم ( هذا جيد لك ) , يبدو ستون و كأنما إختبر هذه المهمة لسنوات , و عانى بسببها و بسبب علاقات زواجه السابق الكثير من المشاكل مع الكحوليات , قبل أن يخوض رحلةً عسيرةً للخلاص منها , ستون يدرك جيداً بأن ردود الفعل التي سيتلقاها مونتغمري ستكون كفيلةً بتحويل حياته إلى جحيم لو إستسلم لها , نشاهد إصرار ستون على البقاء بعيداً عن كل ما هو إنساني في هذه المهمة بما في ذلك مونتغمري نفسه , نشاهده مجرد موظفٍ تحت إمرته في البداية , لكنه لا يلبث أن يميل إليه مع إستمرار مهمتهما , بالمقابل لا تراوغنا صورة شخصية ويل مونتغمري , بإنقسامها و هشاشتها , ويل مونتغمري ترك صديقته و ذهب إلى حرب العراق , و عاد الآن بإصابةٍ في عينه , و أصدقاءٍ رءآهم يموتون أمام عينيه , و صديقةٍ تركته لتعيش مع غيره , يوضع بعد كل هذا في مهمةٍ عسيرةٍ على بشر , إنسان طبيعي جداً وضع رهن تجارب قاسيةٍ في الحرب و عندما إعتقد بأنه إستفاق من هول تلك الكوابيس وجد أمامه في الديار كابوساً لا يقل قسوة , يحاول النص أن يتجول مع شخصيتيه خارج أوقات دوامهما , يراقب محاولاتهما المملة حماية أنفسهم من ذلك الألم الذي تغذيهم به مهمتهما , و محاولاتهما – اليائسة في كثيرٍ من الأحيان – تجاوزه و نسيانه .
و على الرغم من جودة هذا البناء , لم يكن أورين موفرمان موفقاً تماماً في عمليته الإخراجية الأولى , و لم يستطع أن يمنح بعض المشاهد قيمتها الحقيقية , خصوصاً مشاهد الحانات , علاوةً على كونه تقصد وضع بعض المشاهد الخاطفة لإضفاء بعض الواقعية على الفيلم لكنها بدت في النتيجة مجرد مشاهد فائضة و لا تقدم شيئاً للعمل ( مثل حوارٍ مع مجند ميكانيكي , أو آخر مع شرطي مرور ) , قبل أن يشعر المشاهد بنوعٍ من الضياع في بداية الثلث الأخير من الفيلم , خصوصاً في مرحلة النهر , بالإضافة إلى ذلك لا يمكن للمشاهد أن يتأقلم كثيراً مع شخصية كيلي عشيقة مونتغمري السابقة , كيلي - التي تؤديها جينا مالون في إختيارٍ لا يبدو موفقاً و لا يبدو بالنسبة لي أكثر من دورٍ جنسي قبلته من أجل وضع إسمها على الأفيش - تفقد على الشاشة قيمتها الموجودة في النص , النص يفترض بأن كيلي تترك فراغاً مهماً في حياة مونتغمري , وهو الفراغ الذي يدفعه لخطبته المجنونة في حفل خطوبتها , فراغ يحاول ملئه من خلال أوليفيا أرملة المجند الأسود التي أبلغها بخبر وفاته , على الرغم من أن كيلي لا تقدَّم في الفيلم بطريقةٍ تجعلها تبدو للمشاهد حدثاً مهماً في حياة مونتغمري , هذه النقطة و إن كانت موجودة بوضوح بالنسبة للشخص المتمعن تزال بفعل كمية الحزن التي يقدمها الفيلم للمشاهد , الحزن و السوداوية التي تسيطر على بطله مع كل عملية تبليغٍ يقوم بها , فيبدو إندفاعه نحو أوليفيا نوعاً من الشفقة و التكفير تجاه الألم الذي سببه لها , أكثر بكثير من كونه نوعاً من الهروب من علاقةٍ فاشلةٍ مر بها , هذا التوازن هو ما أبقى الفيلم محافظاً على جوهره بالرغم من وضوح الخلل في هذه الجزئية , الفيلم يقدم كميةً هائلة من الحزن , و على الرغم من أنك تراها في معظم مشاهده , إلا أنه لا يبدو لك و كأنما يتعمد أن يفعل ذلك , و لا يبدو مبتذلاً على الإطلاق في هذا المسعى , يخدمه أورين موفرمان بمشهدية من الطراز الأول , خصوصاً في كافة مشاهد الإبلاغ , التي تقدم للمشاهد مبرراً منطقياً كافياً لمراقبة الإنهيار التدريجي الذي يتعرض له رجلٌ بدأ مهمته هذه و هو شبه منهارٍ في الأساس .
علاوةً على ذلك يأتي جزءٌ من بريق الفيلم من أداءاته , هذا الفيلم يقدم واحداً من أفضل طواقم 2009 , بن فوستر يؤكد الآمال التي وضعت عليه في أفلامه السابقة , خصوصاً في Alpha Dog و 3:10 To Yuma , و على خلاف أدواره هناك يقدم فوستر هنا شخصيةً منقسمةً بعنف , وهشةً بالفعل , على الرغم من بعض الإفتعالية التي تطرأ على أداءه في بعض المشاهد و التي تكاد تطيح بالشخصية أحياناً , وودي هارلسون ممتازٌ في هذا الدور , تبدو ملامح وجهه بحد ذاتها كفيلةً للحديث عن الدور : الإنضباط و الجدية و الصرامة التي تحملها الشخصية أثناء قيامها بواجبها , قبل أن تتكشف أبعادها الأخرى عن مدمن كحولياتٍ سابق حاول الهرب إليها من هول ما رءآه في الحرب و من وطأة علاقات الزواج الفاشلة التي مر بها , سامانثا مورتون تقدم واحداً من أفضل الأداءات المساعدة هذا العام , و تسرق كل المشاهد التي تظهر فيها , ترويض عجيب تقدمه ملامح هذه البريطانية ( السوبر موهوبة ) للحالة النفسية الهلامية التي تمر بها إمرأةٌ فقدت أهم إنسانٍ في حياتها , تمتص الصدمة بطريقةٍ عجيبة , و تجد نفسها تقاد دون وعي في حميميةٍ عاطفيةٍ تجاه الشخص الذي أبلغها بالفاجعة , ربما بدافعٍ من عاطفةٍ أبداها تجاهها و حرمت منها لأشهر , أو بدافعٍ من فراغ , أو كنوعٍ من الشعور بشفقةٍ تحتاجها الآن بشدة , كل هذه الإحتمالات ينقلها أداء مورتون ببراعة , قبل أن تخبره في أجمل مشاهد الفيلم بأنها ( لا تستطيع ) .
كثيرةٌ تلك الأفلام التي جعلتنا نعيش إنعكاسات الحرب في الجبهة الخارجية , و تأثيرها على الجنود في ساحة المعركة , The Hurt Locker هو مفخرة العام على هذا الصعيد , لكن قلةٌ تلك الأفلام التي تناولت إنعكاسات الحرب و تأثيرها العميق على الجبهة الداخلية , The Messenger هو واحدٌ من أفضلها .
التقييم من 10 : 8.5
0 تعليقات:
إرسال تعليق