•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الأربعاء، 3 نوفمبر 2010

The Social Network

كتب : عماد العذري

بطولة : جيسي إيزنبيرغ , أندرو غارفيلد , جاستن تامبرليك
إخراج : ديفيد فينشر

تجربتي مع فيلم ديفيد فينشر الجديد هي واحدة من التجارب السينمائية التي لن أنساها في حياتي , ربما لأنني إلتقيته – مع صديقٍ لي - في ختام يومٍ منهكٍ جداً , و بعد سلسلةٍ من المواقف المضحكة التي قد لا يصدقها البعض , إختارنا ركنٌ قصيٌ في صالة السينما , شاهدته بكل الحماس الذي يمكن أن يملأ قلب شخصٍ يعشق السينما لفيلمٍ بلغ مديح النقاد و الجمهور له ذروته , و أحياناً يبدو من الرائع بالنسبة لمن يتابع السينما و يعيشها أن تصدق توقعاته و لا يخيب أمله بخصوص فيلمٍ إنتظره لفترةٍ طويلة , يبدو أمراً ربما يبعث على الإنشراح أن تجد مجموعة الأعمال السينمائية التي ترقبت صدورها منذ مطلع العام و هي تصر على إرضاء كل التوقعات التي رافقتها , و ما أتذكره الآن أكثر من أي شيء جرى خلال ذلك اليوم اللاهث هو أن ختام يومي – مع هذا الفيلم – كان مميزاً وجميلاً بالفعل .

في فيلمه الثامن يتطرق الرائع ديفيد فينشر عن نصٍ كتبه آرون سوركين ( كاتب حلقات The West Wing ) للفترة الفاصلة بين تحول موقع التواصل الإجتماعي الشهير Facebook من وسيلةٍ للتواصل بين مجموعةٍ من طلاب جامعة هارفرد إلى عملاق التواصل الإجتماعي الحديث و أحد أضخم و أهم مواقع الويب في الشبكة العنكبوتية , مراقباً عن كثب التغيرات النفسية الكبيرة التي عاشها مؤسسه الشاب مارك زوكيربيرغ , و الضغوط التي تعرض لها و هو يواجه أقرب المقربين إليه و أعز أصدقاءه في حملات الدفاع عن الحقوق الفكرية التي يمتلكها في الموقع , و المنازعات القانونية التي واجه فيها زميل دراسته إدواردو سافرين الذي ساهمت مشاركته المالية السخية في وضع البذور الأولى لإنتشار الموقع الناشيء , و الدور الذي لعبه مؤسس Napster شون باركر في تلك الحقبة المصيرية من تاريخ الشبكة العنكبوتية .

نجم العمل الأول دون منازع هو هذا النص الممتاز الذي كتبه آرون سوركين للفيلم , إقتباساً عن كتاب The Accidental Billionaires للكاتب بن ميزريتش , و الذي على الرغم من أنه لا ينهج نهجاً جديداً أو حتى مميزاً على مستوى تقنية السرد , إلا أنه يستغل التقنية التي يستخدمها ليقدم أحداثاً مفعمةً بالحيوية تنفذ بقوة في العمق الذي يقصده في تحري ملامح الصداقة في الألفية الجديدة , و المدى الذي يمكن أن تصمد فيه في وجه إغراءات المال و السطوة , يعري النزعة الإيكولوجية الطاغية في جيل الألفية حيث هوس المال و الشهرة و الجنس و المكانة و النفوذ من خلال واحدٍ من أهم رموزها اليوم , مارك زوكيربيرغ , الملياردير العصامي الأصغر في التاريخ , الشاب الذي جمع نصف مليار شخصٍ تحت مظلة أضخم موقعٍ للتواصل الإجتماعي و بناء الصداقات في العالم , على الرغم من كونه كان – للأسف – رجلاً دون أصدقاء .

أصعب ما في هذا النص أنه أخذ شخصية ذات هالةٍ مميزة , أقرب إلى الأسطورية , مليئة بالغموض , و ضاربةٍ بعمق في حياة الكثيرين اليوم , و حقيقةً لا أبالغ إذا إعتبرت بأن سوركين يرسم من خلال مارك زوكيربيرغ واحدةً من أفضل الشخصيات بناءً خلال الربع قرن الأخير , و من أكثرها إحكاماً و جودة , قلةٌ تلك الشخصيات التي إمتلكت حياةً حقيقية مكتملة الملامح كما إمتلكته هذه الشخصية , سوركين كعادة شخصيات السينما العظيمة يخلق ملامح زوكيربيرغ بطريقة محترمةٍ و تستحق الثناء , ليس لأنه جعلنا نتفهم زوكيربيرغ , بل لأنه تجاوز ذلك إلى جعلنا نعيش زوكيربيرغ , نعيش ملامح شخصيته أكثر من كوننا نكتفي فقط بمشاهدتها و تأملها , جعلنا نعيش ثقتها بنفسها , هوسها بما تفعله , نرجسيتها , الآمال الصغيرة التي تنفذ إلى أحلامٍ كبيرة , إيمانها بحقها الذي يحاول الآخرون سلبها إياه أو حتى مشاركتها فيه , إيمانها الكامل بمشروعية ما فعلت , و شعورها بأن المسألة مسألة حق أكثر من كونها مسألة مادة , سوركين ينظر عميقاً في البدايات : الحاجة إلى المعرفة , و للتواصل مع الآخرين , و للحب , و التوق للتحرر من العزلة الجسدية ( نعم الجنس ) و العزلة الروحية , و أحياناً تجاوز الرغبة في معرفة الآخر إلى الرغبة في هتك خصوصية الآخر , في نظرةٍ أعم على مجتمع الألفية ككل , جعلنا سوركين هنا نعيش الدافع الذي ولد هذه الأركان الجوهرية في شخصية زوكيربيرغ : إيمانها في الأساس بعبقريتها , بتتفردها , الفيلم من خلال نص سوركين لا يلقن , لكنه يقول الكثير رغم ذلك , يرسم المثلث الأهم الذي يشكل ملامح هذه الشخصية , يرسمه بوضوح , و يجعل أركانه الثلاثة : العبقرية , و العزلة , و الوصولية , مترابطةً ببعضها بطريقة جعلتني أفكر كثيراً بعد إنتهاء العرض في الكيفية التي صنع بها سوركين كل ذلك , أدهشني فعلاً نص سوركين , شخصية زوكيربيرغ مؤمنةٌ بالمشروعية الكاملة فيما فعلت , إيمانٌ نابعٌ في الأساس من إيمانها - الذي يكاد يبلغ الهوس - بعبقريتها , و لا يكتفي سوركين فقط بتصوير ذلك , بل يصر على التأمل في نواتج الهوس بعبقرية ما يقوم به زوكيربيرغ : العزلة , الفيلم يتبنى النظرية التي تقول بأن أكثر الناس عزلة هم أكثرهما تفرداً , ربما لأن حدود العبقرية الفذة قد لا تتواءم عادةً مع من يحيطون بها , زوكيربيرغ إنسانٌ معزول , يجد صعوبةً في التواصل مع من يحيطون به , ليس لعدم رغبته بذلك , بل لعدم قدرته على ذلك , نص سوركين يرى بأن العبقرية هي جزء لا يتجزأ من السلوك الإجتماعي , و السلوك الإجتماعي يحتاج عادةً لما يكافئه أو يحتويه لخلق تواصلٍ إجتماعيٍ حقيقي , لذلك نجد زوكيربيرغ يفشل في هذه الجزئية مع صديقته إريكا أولبرايت , أو مع صديقه المقرب إدورادو سافرين , لكنه ينجح في خلق ذلك التواصل مع شون باركر , و الأجمل أن النص لا يخبرنا بذلك , و لا يحاول – حتى على سبيل المحاولة – تلقيننا أي شيء من هذا القبيل , لكنه يجبرنا بختام العمل على التأمل فيه بعينٍ فاحصة , قبل أن يلجأ لتأكيده عندما يغلق المثلث من خلال الضلع الثالث : الوصولية , مارك زوكيربيرغ شابٌ غاية في الطموح , ربما ليس لطموحه حد , طموحٌ أرضيته العبقرية الهائلة التي يتمتع بها في مجاله , و بناؤها العزلة الواضحة التي تلف حياته , و من خلال هذين الضلعين يأتي الضلع الثالث براقاً و متألقاً ليرسم الصورة الختامية لواحدةٍ من أفضل الشخصيات التي جادت بها الشاشة الكبيرة مؤخراً , مارك زوكيربيرغ على إستعداد لفعل أي شيءٍ من أجل تكريم عبقريته تلك , من أجل إشعارها بقيمتها و بما تستحق , من خلال جعل الآخرين ينحنون لها و يقدرونها , و يرفعون قبعاتهم مصفقين لها , نص سوركين يصنع ذلك بعبقريةٍ أدهشتني و جعلتني أفكر في تلك التفاصيل ملياً , بل أن ما حدث قبيل الإطلاق الرسمي لفيلم ديفيد فينشر يبدو إثباتاً غير مقصود على ذكاء و عبقرية سوركين في بناءه لشخصية زوكيربيرغ , عندما أعلن مارك زوكيربيرغ عن تبرعه بمبلغ 100 مليون دولار لإصلاح نظام التعليم في نيوجيرسي , تبرع بمبلغ لا يجرؤ الكثير من الأثرياء اليوم على التبرع به , و لولايةٍ لا يمت لها بأي صلة , فقط من أجل إبقاء صورة مارك زوكيربيرغ لامعة و كبيرةً و مهمة , نص سوركين يصر على إقناعنا بأن المسألة ليست مسألة مال , و من يملك نصف أسهم الفيسبوك هو إنسان ثري قطعاً كحال من يملك ربع الأسهم أيضاً , أو ثمنها أو عشرها , المسألة كما يراها الفيلم لم تكن عن المال , بل كانت عن الصورة الكبيرة , الصورة التي أعيقت بوجود إدواردو سافرين و وجدت طريقها نحو الإكتمال بوجود شون باركر , الفيلم يصر على أن المال لم يكن هاجس زوكيربيرغ في كل ما حدث , خصوصاً و هو يصر على تصوير حياة زوكيربيرغ المتواضعة و البسيطة قبل و بعد إطلاق الفيسبوك , إصراره على تجنب ظهور الإعلانات في موقعه خلال الفترة التي نشأ فيها , موافقته على تسويةٍ بقيمة 65 مليون دولار مع أشخاص لطالما إدعوا نسبة الفكرة إليهم , نص سوركين يحاول أن يقول بأن الموقع بحد ذاته كان هاجس زوكيربيرغ الدائم , تحقيقه لذاته و إرضاؤه لعبقريته من خلاله , ينزعج من تخلي صديقته إريكا عنه , فيقوم بنشر النواة الأولى لموقعه في تلك الليلة المجنونة , ثم يفاجأ بعد أشهر برفض إريكا له فيقرر على إثر ذلك التوسع ليشمل جامعاتٍ خارج الولايات المتحدة , و في الختام لا يجد بداً من إضافتها كصديق على الرغم من أنه أصبح يمتلك كل شيء , مارك زوكيربيرغ وفقاً لنص سوركين – كإستعارةٍ لكل شباب الألفية - هو إنسانٌ يبحث عن ذاته و عن إرضاء نرجسيته و ثقته المفرطة بما يفعل في عصرٍ بلغت فيه المادية الجوفاء ذروة مجدها , عبقرية مارك زوكيربيرغ التي لا يريد الفتى لأي أحدٍ آخر أن يجاريها و يدعي فضله عليها , عبقريةٌ إستغلها بنجاح لكسر حاجز العزلة الذي يحيط به , لذلك نجده يرد على إدعاء الأخوين وينكلفوس ( كان لديهم فكرة , و كان لدي فكرةٌ أفضل ) , هذا الضلع الثالث – الوصولية – المبني أساساً على الضلعين الآخرين : إيمانه بعبقريته و بأنه الوحيد الذي يستحق جني ثمار هذه العبقرية , و شعوره بالعزلة , يتجلى لاحقاً من خلال تخليه عن صديقه المقرب و الوحيد إدواردو سافرين , نقطة التحول التي بدت مبهمةً في الفيلم كما هي في الواقع , أتت في الحقيقة من إيمان زوكيربيرغ بأحقيته بفكرته , رفضه الداخلي مشاركة أحدٍ فيها , أو الإستمرار مع شخص يضر هذه الفكرة أكثر من أن يخدمها , عزلة الرجل تزداد هنا , و تشعره بالذنب , و بالمقابل جاء إنجراف زوكيربيرغ في تيار شون باركر كنوعٍ من التأكيد على أضلاع المثلث , وصولية زوكيربيرغ هنا نابعةٌ أيضاً من قناعته بأن شخصاً مثل شون باركر هو قادر على خدمة هذه الفكرة و تغذيتها , لكنه لا يلبث أن يتخلى عنه بمجرد أن تبلغ فكرته ما تستحق , و الأجمل في كل ذلك أن عزلة مارك زوكيربيرغ التي يتبناها النص تبنى في الأساس وفقاً لأسس الشخصية ذاتها دون أي تلقينٍ أو إصطناع , عزلةٌ نابعةٌ في الأساس من عبقريته و شعوره بالتميز عمن سواه على الرغم من حاجته و جوعه لتواصلٍ إنساني حقيقي , لكن وفقاً لنرجسية زوكيربيرغ التي لمسناها و تبناها النص فإن هذه الشخصية لا تحاول أن تنجذب للآخرين , و إنما تحاول أن تجذب الآخرين إليها , و عندما تخبره المحامية في المشهد الأخير للفيلم ( أنت لست أحمقاً , لكنك تحاول أن تكون كذلك بقدر ما تستطيع ) يبدو سوركين و كأنما يضع رشة البهارات الختامية على شخصية بطله العبقرية , المنعزلة , الوصولية , النرجسية , في عبارة ختاميةٍ تتويجية , قلةٌ تلك الشخصيات التي شاهدتها تبنى على الشاشة بمثل هذا التمكن و النضج و الإحترافية .

إبداع النص لا يتوقف عند حدود رسم شخصية زوكيربيرغ فقط , جزء من عظمته الحقيقية هو أنه لا يهيء نفسه بحيث يصبح هدفاً لعشاق الفيسبوك ( على الرغم من كونهم يشكلون 7.5 بالمئة من سكان الكوكب و أكثر من نصف مشاهدي الفيلم ) , الفيلم يقفز على هذه الجزئية , يحافظ على جوهر قيمته الحقيقية التي تتحرى الحاجز الخفي بين الصداقة و الخيانة بمفهومها التقليدي المعتاد لكنه بالمقابل يتجاوز ما يتوقعه منه المشاهد و يقفز خارج إطار الصورة , و خارج النسق المعتاد , بأحداثٍ و إن كانت حقيقيةً إلا أنها كانت قويةً جداً و نافذة التأثير فعلاً , أحداث من قبيل توريط سافرين في قضية الدجاج , و تهمة حيازة المخدرات التي وجهت لشون باركر , و هوس النوادي , هي أحداث قضت علي تماماً و أنا أشاهد الفيلم , جعلتني أنبهر حتى الثمالة بقدرة سوركين بناء تحولاتٍ جوهريةٍ في نصه على أحداثٍ مجنونةٍ كهذه , بل و جعل كل ما يجري أمامنا منطقياً على الرغم من صعوبة تصديقنا له , عملية توازت و إعتمدت بشكلٍ أساسي على بناء شخصياتٍ محكم و موزون , خلق لها مبرراتها و طريقة تفكيرها و تفاعلها مع ما يجري من حولها , ربما كمحاولة إثبات بأن هذه الشخصيات جميعها لم تكن تعي تماماً ما تفعله و ما يدور من حولها خلال تلك القفزة الجبارة في حياتها , و على الرغم من أن الفيلم مليء بالحوارات ( السريعة غالباً و المليئة بالمعلومات أحياناً ) إلا أن هذه الأمور ليست هي ما يصنع عمق العمل الحقيقي بقدر ما تفعل الأحداث و الأحاسيس التي يحاول ديفيد فينشر زرعها فينا أثناء مشاهدته , و بالمقابل أيضاً لا يهتم الفيلم مطلقاً بالتفاصيل الفيسبوكية , و هذا جزء مهم من عبقرية نص سوركين , لا يهتم بالظروف التي هيأت لها , و إن كان يفعل ذلك في مناسبتين إستهلاكيتين على الرغم من وجود ما يبررهما , و عندما نشاهد سافرين يحاول تفسير عدم تغييره لحالته الإجتماعية في حسابه على الموقع يبدو النص و كأنما يحاول خلق إستعارةٍ للفجوة الواضحة التي كانت بين سافرين و الموقع الذي ساهم في إنطلاقه و الذي يعتبر نظرياً أحد مؤسسيه , و على الرغم من أن أحد الأمور المهمة التي يمكن أخذها على فيلمٍ يتناول نشأة الفيسبوك هو – و ياللسخرية – ولاءه تجاه تقديم بعض التفاصيل الفيسبوكية المتناثرة هنا و هناك , إلا أن الصورة الكبيرة للفيلم قد تجعلنا نتصالح بسهولةٍ مع تلك التفاصيل المستهلكة , و ننظر إلى الإستعارة الأعم عن الأحداث التي تسير الشبكة العنكبوتية اليوم ( كإسقاطٍ مصغر على الحياة الإجتماعية ككل في الألفية الجديدة ) : كيف نؤثر , و نتأثر , بفعل بعض النزوات العاطفية و فورات الأدرينالين المفاجئة .

النقطة الذهبية في بنية العمل الأساسية تكمن في إخلاص ديفيد فينشر للغرض الأساسي في نص سوركين , و محاولة القفز على المناطق الرمادية بطريقةٍ تستغل جهل المشاهد بالمناطق السوداء و البيضاء في الأحداث , ليس هذا فحسب بل إعدام المناطق الرمادية في الأحداث من خلال عملية توحيد كاملة – و ذكية فعلاً بشكلٍ مدهش – للمناطق البيضاء و السوداء فيها , حصل معها بالنتيجة على فيلمٍ كل ما فيه يحتمل الخطأ , و كل ما فيه يحتمل الصواب , ربما لأن القصة الأصلية بحد ذاتها بنيت في مجملها – كما يحاول السيناريو أن يفعل – على مشاعر و أحاسيس و ليست على حقائق , الأمر الذي جعل من الصعب أحياناً تحديد نقاط تحولٍ حقيقية في منعطفاتها الرئيسية , خصوصاً تلك التي تتناول العلاقة بين شخصيات الفيلم الثلاثة الرئيسية , ربما لأن الكتاب الذي يستقي منه الفيلم مادته قائمٌ في الأساس على آراء إدواردو سافرين وحده فيما حدث , بسبب رفض مارك زوكيربيرغ التعاون مع الكاتب بن ميزيريتش , الأمر الذي ولد عدداً كبيراً من المناطق الرمادية التي كان يمكن أن تشكل ثغراتٍ واضحةً بالنسبة للنص , لكن ديفيد فينشر تمكن بفضل نصٍ ممتاز لسوركين من إعدام المناطق الرمادية تماماً في الفيلم خالقاً عملاً أشبه بالنتيجة الحتمية التي لا يمكن المساومة عليها .

لكن على الرغم من أن تلك الجزئية تمثل النقطة الذهبية للنص , إلا أنها بالمقابل تمثل مأخذي الرئيسي عليه , فمحاولة القفز على المناطق الرمادية في فيلم يمتلك بعضاً من النكهة التوثيقية ولدت بعض الفجاجة أو الفظاظة في التعامل مع شخصيةٍ على حساب أخرى , و مع أن ذلك لم يكن واضحاً في شخصيات زوكيربيرغ و الأخوين وينكلفوس , إلا أنه بدى صارخاً بشدة فيما يخص شخصيتي إدواردو سافرين و شون باركر , الذين تم تقديمهما هنا بطريقة النقيضين إلى درجةٍ قد لا تتناسب مع شخصين من لحمٍ و دم ساهما بشكلٍ أو بآخر في الوصول بهذه الشبكة المصغرة إلى العالمية , سافرين و باركر يبدوان في بعض مراحل العمل أشبه بملاكي الخير و الشر اللذين يحيطان بزوكيربيرغ و يسيران حياته , ربما بسبب مرجعية الفيلم لآراء و إعترافات إدواردو سافرين , الأمر الذي ولد تبايناً صارخاً و مزعجاً نوعاً ما بينهما , فظهرت شخصية إدواردو سافرين مغلوبةً على أمرها و مغدورةً من قبل أعز أصدقاءها , بينما ظهرت شخصية شون باركر أقرب إلى الشر المحض , إضافةً إلى أن النص يقدم شخصية شون باركر بطريقةٍ منقوصة و غير مشبعة على خلاف جميع شخصيات الفيلم , و بالرغم من كونه يقر أيضاً ضمن أحداثه بأن قيادية شون باركر هي من أوصلت الفيسبوك إلى العالمية و ليس نظريات إدواردو سافرين الإقتصادية .

بالمقابل ينجو نص سوركين من هذه الورطة عند تعامله مع شخصية التوأم وينكلفوس ( يؤديهما بإمتياز آرمي هامر مع أداءٍ جسدي مساند من جوش بينس ) , و مع أن النص يفترض حقيقة ما جرى في صراعهما مع زوكيربيرغ , إلا أنهما لا يبدوان صورةً شريرةً أو جيدةً بمطلقها , يبدوان و كأنهما الشخصية المساندة لشخصية الفيلم الأساسية ( شخصية تكتب لإظهار حقيقةٍ أو تأكيد نقطةٍ ما في الشخصية الأساسية ) , حيث ذات الهوس , و ذات الإيمان بالحق , مع فارق الأرضية و كمية التعاطف .

كوميديا الفيلم قصةٌ أخرى , أصعب أنواع الكوميديا برأيي هي تلك التي ينهجها نص سوركين هنا , الإنطلاق ضمن حدود الأحداث , و ضمن البناء المحكم للشخصيات , لرسم صورةٍ مأساويةٍ مبهجةٍ لما يجري , أمرٌ يضاهي تماماً ما كان يفعله ويليام شكسبير في مسرحياته الشهيرة , الكوميديا هنا لا تبتذل , و لا تحاول أن تضيف ما لا يمكن إضافته للأحداث , و لا تحاول أن تهز من إيقاع شخصياته , و جدية موضوعه قيد شعرة , و مع ذلك تجبرك أن تضحك على الرغم من الحزن و البؤس الذي تحمله الصورة القاتمة لثنائية الصداقة و الخيانة التي ترسم هنا , و هي معادلةٌ تجعله بالنتيجة العامة فيلماً مثيراً و شيقاً و مؤثراً , لكنه مسلٍ أيضاً .

فوق كل هذا لم يكن لنص سوركين العبقري ( الذي سيسعدني جداً مشاهدته يتوج بجائزة أوسكار في ختام الموسم ) لولا التفهم المحنك من ديفيد فينشر لروح هذا النص , و للقيمة التي يحاول أن يقدمها , و للعمق الذي يحاول أن يضرب فيه , و ما يثيرني بشكلٍ رئيسي في عمل ديفيد فينشر على هذا النص هو قدرته في الختام صناعةٍ فيلمٍ متماسكٍ جداً , قليل الثغرات , مشوق , و نابض , و حي , و مثير من خلال مادةٍ سينمائية لا يفترض أن تكون مثيرةً في الأساس , فوق ذلك ديفيد فينشر يقدم عملاً أنيقاً جداً سواءاً من خلال تصوير جيف كرونينويث الساحر في ثالث تعاونٍ يجمعهما , أو موسيقى ترينت ريزنور , أو مونتاج كيرك باكستر و أنغس وول الممتاز , أو من خلال إدارةٍ على أعلى مستوى لثالوث الأداء الرئيسي في الفيلم , جيسي إيزنبيرغ سيجعل الكثيرين سعداء بمشاهدة الممثل الشاب الموهوب متواجداً في حفل الأوسكار المقبل بفضل أداءٍ ممتاز و يستحق الإحترام لشخصيةٍ بالغة التعقيد كتلك التي يقدمها أرون سوركين في مارك زوكيربيرغ , أندرو غارفيلد من خلال شخصية إدواردو سافرين هو نصير المشاهدين في الفيلم من خلال أداءٍ أخاذ و مؤثر و غير متكلف لشابٍ يجد نفسه في موقفٍ لا يحسد عليه و هو يشاهد المشروع الذي تبناه في مهده يسرق من بين يديه , جاستن تامبرليك رائع , ينجح بجدارة في دور شون باركر بالرغم من حجم الشر الصارخ الذي ملأ به سوركين هذه الشخصية و الفراغ الملموس الذي إشتملت عليه , ينجح في أن يكون صورةً مجسدةً لشباب الطموح الخالي من القيمة الإنسانية الخالصة في الألفية الجديدة , يجسدها في أصرخ صورها و أكثرها حدية .

علاوةً على ذلك راقتني كثيراً المشهدية الممتازة التي يطرز بها ديفيد فينشر فيلمها هذا من خلال نص آرون سوركين , من ذلك على سبيل الذكر لا الحصر المشهد الإفتتاحي عن الحواجز الإجتماعية بين مرتادي النوادي المختلفة , و الفوارق الطبقية بين جامعتي هارفرد و بوسطن , المشهد الذي شوشني للحظات في المشاهدة الأولى ثم ما لبث أن إستحوذ علي تماماً في الثانية , و من ذلك مشهد سباق هينلي الكبير للتجديف الذي يبدو قطعةٍ من جنةٍ سينمائيةٍ في تصويره و مونتاجه و صمته , على الرغم من إفتقاره الحقيقي للوصول بقيمته المفترضة و ترسيخ الفارق الشاسع بين العالم البراق و الفاتن الذي يعيش فيه الأخوان وينكلفوس و عالم العزلة و الخواء الذي يعيشه مارك زوكيربيرغ , و لو من خلال قطعةٍ فنيةٍ جميلةٍ و فريدةٍ عن كل المشاهد الأخرى في الفيلم , و ختام ذلك بالمشهد الختامي الساحر و البسيط و التقليدي و العظيم للشاب الذي جمع 500 مليون شخص في أكبر موقعٍ لتشكيل الصداقات في الشبكة العنكبوتية يجلس أمام شاشة الكومبيوتر منتظراً قبول طلب صداقة , في تتويجٍ أحببته لهذه المأساة الشكسبيرية المعاصرة .

بالخلاصة : الفيلم السينمائي الثامن لديفيد فينشر هو ليس فيلماً عن الفيسبوك , أو عن إختراع الفيسبوك , هو فيلمٌ عن شباب الألفية الجديدة , رغباتهم , و هواجسهم , و فورات الأدرينالين التي تسير حياتهم , من خلال واحدٍ من أهم رموزهم اليوم , فيلمٌ عن الحاجز الرقيق للغاية بين الصداقة و الخيانة في أكثر عقود المادية الإنسانية طغياناً , و أكثر عقود الروحانية البشرية إنحطاطاً و خفوتاً , فتنني ديفيد فينشر في عمله الثامن , جده و هزله , إثارته و تشويقه , شخصيته العميقة و النادرة و أداءاته المميزة , و فوق ذلك قيمته الفنية الرفيعة و عمقه الذي لا غبار عليه , و على الرغم من عدم ثقتي بأن تقييمي لهذا الفيلم سيبقى ثابتاً مع مرور الزمن , إلا أن ما أثق به تماماً بعد مشاهدتي لهذا العمل هو أنني شاهدت فيلماً عظيماً بحق , و أحببته بحق .

التقييم من 10 : 9


free counters