•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الثلاثاء، 21 ديسمبر 2010

Get Low

كتب : عماد العذري

بطولة : روبرت دوفال , بيل ميري , سيسي سبيسك
إخراج : آرون شنايدر


مشاهدة ثلاثةٍ من النجوم الذين تعشقهم في فيلمٍ واحد هو أمرٌ يفوق الوصف بحد ذاته , و مشاهدتهم تحت إدارةِ مخرجٍ يقدم عمله السينمائي الأول هو أمرٌ يبعث على الترقب و ربما الخوف من خيبة الأمل , و مشاهدة نتيجةٍ كهذه هو أمرٌ يبعث السعادة في النفس فعلاً , القصة عن ناسك تينيسي الغامض فيليكس بوش , العجوز الذي يعلن ذات يومٍ بأنه يريد إقامة جنازةٍ له على الرغم من كونه ما يزال على قيد الحياة , الأمر الذي يغري متعهداً للجنازات يدعى فرانك كوين لتدبير الأمر مقابل الغلة الوافرة التي سيحصل عليها من العجوز الخرف .

في الواقع فيليكس بوش لم يكن عجوزاً خرفاً , كان نجاراً بارعاً لكنه غادر بلدته الصغيرة ذات يوم قبل 40 عاماً , و ذهب ليعيش في منزلٍ بعيدٍ بناه بنفسه , دون زوجة , دون أولاد , و حتى دون أصدقاء , أربعون عاماً لم تذكر فيها البلدة عنه سوى القصص السيئة , قيل بأنه كان مجرماً خطراً , و قيل بأنه لم يكن يدخل البلدة إلا بذلك المظهر المخيف : الملابس الرثة و اللحية الطليقة و البندقية المذخّرة , لكن وراء كل ذلك هناك قصة , و من أجل هذه القصة التي عاشت دفينةً في قلبه 40 عاماً , يريد الرجل جنازةً مهيبةً يحضرها كل من روى قصةً سيئةً عنه في يومٍ من الأيام , و يريد أن يتحدث فيها شخصٌ ما بالنيابة عنه أمام كل أولئك البشر ليروي لهم الحقيقة الغامضة وراء فيليكس بوش .

هذا الفيلم غاية في الشاعرية , منذ مشهده الأول لرجلٍ يهرب بينما منزلٌ بأكمله يحترق من وراءه , وصولاً إلى لحظته الختامية , ليس ذلك النوع من الشاعرية الذي نراه عند تيرينس ماليك مثلاً , إنه نوعٌ مختلف , نوعٌ يستمد قوته من ذلك الإحساس القوي الذي يتملك مشاهده و يدفعه للإنجذاب نحو سرٍ خفيٍ أخفاه عجوز غريب الأطوار مدة 40 عاماً , و حقيقةً فإن ما أدهشني فعلاً أثناء مشاهدتي لهذا العمل هي الكيفية التي خلق بها آرون شنايدر البعد التشويقي لعمله , نص هذا العمل له بعدان داخليان : الأول - و هو الأكبر - يتعلق بما نراه من حياة فيليكس بوش و هو بعدٌ غنيٌ بالأحداث و الجاذبية , و الثاني يتعلق بما لم نره من حياة فيليكس بوش و هو بعدٌ غامضٌ و مشوق على الرغم من صغره و ظهوره من حينٍ لآخر , المدهش في الموضوع هو أن البعدان مدموجان بطريقةٍ ممتازة لدرجةٍ لا يمكن إستشفاف فاصلٍ بينهما إطلاقاً , و يمكن لكليهما أن يكثفا بطريقةٍ مستقلة ليصنعا قصةً منفردة و ناجحة , وجدت نفسي في هذا الفيلم مفتوناً أولاً بما يحدث لفيليكس بوش , و بالطريقة التي يحاول بها التحضير لجنازته , و بالوضع العام الذي يعيشه الرجل في بلدته , و في الوقت ذاته وجدت نفسي منجذباً أيضاً و بقوة نحو الجزء الغامض من حياته , و هو ميزان لا ينجح التعامل معه غالباً في مثل هذه النوعية من النصوص , فإما أن يتم التكثيف على البعد الأول ليتحول الفيلم إلى دراسةٍ سلوكيةٍ محضة عن العزلة و رغبة التكفير عن الذنب , أو يتم التكثيف على البعد الثاني للنص فيتحول الفيلم إلى عملٍ تشويقيٍ خالص عن حقيقةٍ غامضةٍ لا تلبث أن تتكشف في الختام , آرون شنايدر يبدو هنا كصائغ بارعٍ يجيد التعامل مع هذا الميزان و مع نوعية الجواهر الثمينة التي يمتلكها تحت يديه , هو يوظف بصورةٍ مثاليةٍ الأداء الفولاذي الذي يقدمه الأسطوري روبرت دوفال لشخصية فيليكس بوش و يعتمد عليه بشكلٍ شبه كلي في تثقيل البعد الأول , فتبدو شخصيةٍ فيليكس جذابةً بالفعل بالنسبة للمشاهد , يهتم بحياتها , و بتفاصيلها , و بطريقة كلامها و تعاملها الغريب مع من يحيطون بها , و الأهم برغبتها في إجراء هذه الجنازة بأي طريقةٍ من الطرق , و في الوقت ذاته يوظف شنايدر بطريقةٍ موزونة المشهدية العالية التي يتمتع بها النص ليخلق عمقاً حقيقياً على مستوى البعد الثاني , سواءاً في مشهد لقاء فيليكس بالقس تشارلي جاكسون , أو في مشهد الإعتراف التمهيدي الذي يقوم به فيليكس أمام ماري في منزلها , الأمر الذي يجعلنا نشعر بل و نثق تماماً بأن هناك معنى لكل ما يجري أمامنا , و لا يخيّب شنايدر أملنا بهذا الخصوص .

فيليكس بوش رجلٌ ملأته عقدةُ ذنبٍ كبيرةٍ و حولت حياته إلى جحيم , عاش 40 عاماً يحملها على كتفيه , معزولاً دونما أهلٍ أو ولد , دونما صديقٍ أو مكانة , 40 عاماً من الغموض و القصص السيئة التي لم يرغب ربما في أن يفندها أو ينفيها , عاش مع حقيقة أن ( الناس يختلقون القصص عادةً كي يشعروا بالأمان ) , تركهم يشعرون بالأمان من خلال أكاذيبهم عنه , لكنه يخبرهم بعد أربعين عاماً بأن الحقيقة هي أسوأ ربما من الأكاذيب التي إختلقتموها , عقدة ذنبٍ فتكت به لعقود لكنه رضيها لنفسه , أحس بأنها نوعٌ من جلد الذات و ضربٌ من التكفير , لم يطلب البراءة , و لم يذهب للإعتراف في الكنيسة طالباً السماح , شعر فقط بأن كتمان ما حدث هو جزء من تكفيره عما حدث , و عندما يعترف بذلك جزئياً أمام ماري , تنتابه – في تحولٍ مدروس – رغبةٌ في إلغاء الجنازة , ربما لأنه شعر بأن جزءاً كبيراً من الثقل قد أزيح عن كاهله , ثم يقرر أن يحكي كل شيء في ذروة الفيلم , أمام الجميع , في مشهدٍ صنع منه العملاق روبرت دوفال واحداً من إشراقات العام التي لا تنسى , لا أتذكر أنني شاهدت خطاباً سينمائياً يحمل كل هذا القدر من العاطفة و الحميمية و الصدق , مغلفةً - و ياللعجب - ضمن قالب الشخصية الفجة و الجامدة و الغريبة الأطوار التي إكتسبها فيليكس بوش على مدى 40 عاماً , يا إلهي , من أين تأتي بكل هذا يا دوفال ؟

و على الرغم من أن الفيلم يفقد إيقاعه للحظات ( خصوصاً بين إعتراف فيليكس في منزل ماري و الجنازة ) و على الرغم من أن بعض التفاصيل – التاريخية ربما – تبدو دخيلةً بشكلٍ واضحٍ على العمل , إلا أن النتيجة النهائية تتفوق على ذلك كله , عملٌ عظيمٌ و حميميٌ و شاعريٌ عن الأشياء السيئة , كل الأشياء السيئة التي تحدث في لحظة , و نفقد معها كل شيء , كل شيء في لحظة , قلة تلك اللحظات التي شعرت بها أثناء مشاهدة عملٍ سينمائي في عام 2010 بمشاعر توازي تلك التي شعرت بها أثناء مشاهدتي لهذا الفيلم , و أعلم أنه ليس من الضرورة أن تشعروا بشعوري ذاته , ربما لسببٍ بسيط قد لا يشاركني الكثيرون إياه : أنا أعشق روبرت دوفال .. أعشقه حتى الثمالة , و في هذا الفيلم حصلت على جرعةٍ كبيرةٍ منه .. بعد زمن .

التقييم من 10 : 9

free counters