•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الأربعاء، 7 مارس 2012

A Separation

كتب : عماد العذري

بطولة : بيمان معادي ، ليلى حاتمي
إخراج : أصغر فرهادي

في العشرين من فبراير من العام المنصرم بدأت الحكاية ، كان يوماً تاريخياً في مسيرة السينما الإيرانية ، مخرج The Beautiful City و About Elly أصغر فرهادي فرض عمله السينمائي الجديد A Separation أبرز المرشحين للفوز بالدب الذهبي كبرى جوائز مهرجان برلين السينمائي الدولي ، التكريم ذهب أبعد من ذلك ، فيلم فرهادي الجديد أصبح أول فيلمٍ في تاريخ المهرجان يحصد ثلاثة دببة ، و على مدى عام كامل تقريباً أصبح الفيلم ملء السمع و البصر بطريقةٍ فرضته إلى حدٍ بعيد أكثر أفلام العام مديحاً ، و بعد عامٍ من بدايتها إنتهت الحكاية في السادس و العشرين من فبراير الماضي عندما أصبح الفيلم أول فيلمٍ إيراني يفوز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي ، بل و أول فيلمٍ يجمع هذه الجائزة مع دب برلين الذهبي منذ أن فعلها فيتوريو دي سيكا قبل أربعين عاماً .

لو افترض المرء جدلاً أن عقله قد سمح له بالتفكير قليلاً فيما قد تحمله سنة 2011 للسينما الإيرانية فإن ضربةً كهذه كان يفترض أن تكون من نصيب عباس كياروستامي أو مجيد مجيدي أو محسن مخملباف أو جعفر بناهي أو غيرهم من مخرجي الجيلين الأول والثاني في الموجة الإيرانية الجديدة ، لكنه كان عام أصغر فرهادي بإمتياز ، المخرج الذي لم يكمل عامه الأربعين و لم ينجز سوى أربعة أعمالٍ فقط نال إثنان منها إستقبالاً نقدياً و جماهيرياً جيداً ، ما عدا ذلك لم يتجاوز أصغر فرهادي حقيقة أنه ينتمي إلى الجيل الثالث من تلك الموجة ، و هو جيلٌ على الرغم من تعدد أسمائه إلا أنه لم يقف بعد على أولى خطوات المجد التي قادها أسلافه العظام ، نتحدث عن أسماء شابة مثل رافي بيتس و بهمان غوبادي و ماني حقيقي و بابك بيامي ، بينهم جميعاً يبدو بأن أصغر فرهادي بأفلامه الخمسة قد وضع قدمه فعلاً ضمن الأسماء الكبيرة التي تقود السينما الإيرانية اليوم .

القصة - كما يحملها العنوان الفارسي للفيلم – تتمحور حول نادر و سيمين ، زوجان من الطبقة العاملة في طهران المعاصرة ، حياتهما لا تسير على ما يرام لأن سيمين سئمت الحياة في البلد و تريد أن تغادر بعائلتها إلى دولةٍ توفر لها الحياة الكريمة ، سيمين حصلت على عقد عمل و أصبحت مهيأةً لتحقيق الحلم الذي انتظرته ، المشكلة أن نادر يرفض فكرة السفر ، حجته في ذلك رغبته في تنشئة إبنته في بلدها الأم و رعاية والده العجوز المصاب بالزهايمر ، سيمين لا تتقبل رفض نادر فتطلب الإنفصال عن طريق المحكمة ، و المحكمة ترى في الطلب أمراً تعسفياً طالما أن حياة الزوجين يمكن ألا يعكرها ما قد يجعل من الطلاق أمراً حتمياً .

لو قررت تقييم الإنجازات الإخراجية مختزلةً فقط في التوليفة التي تجمع كيفية إفتتاح فيلمٍ ما و كيفية إغلاقه فسيكون أصغر فرهادي صاحب الإنجاز السينمائي الأعظم لعام 2011 ، منذ اللحظة الأولى لآلة تصوير مستندات تلتقط صورتي جوازي سفر قبل أن نرى بطلي فيلمنا في قاعة المحكمة يتناولان – بكثيرٍ من المنطق – مبررات كل منهما في طلب الإنفصال أو الإمتناع عنه و حتى لحظة الختام الفاتنة لا يفقد المشاهد إحساسه بالعمل و شخصياته ولو قليلاً ، لا أبالغ إذا ما قلت بأن أصغر فرهادي من خلال شخصياته الخمس الرئيسية - و التي تملأ الشاشة بإشباع لم أشاهد له مثيلاً طوال العام – إستطاع أن يخلق عالماً خاصاً من الغنى ، شخصيات العمل غنيةٌ جداً ، حقيقيةٌ إلى درجةٍ لا تصدق ، أصغر فرهادي ينسج خيوط شخصياته الاربع ( إذا ما إستثنينا شخصية الطفلة تيرمه ) حول محورٍ خفيٍ يوحدها و يربطها ببعضها (ظاهرياً) و يباعدها عن بعضها بشدة (داخلياً) : الفخر ، الكبرياء ، الإعتداد بالنفس ، شخصيات العمل الأربع تتشبث – على مسافاتٍ مختلفة – بهذا المحور ، تدور حوله كلٌ بحسب قيمته و مقداره لديها و تتصادم مع بعضها بسببه ، الكيفية التي جعل بها أصغر فرهادي هذه الجزئية توحد الشخصيات الأربع و تفرقها في آن جعلتني أفرك رأسي دهشةً عند إنتهاء الفيلم ، أي نصٍ هذا ، عادةً ما يحاول السيناريست الذكي تقمص روح شخصياته و محاولة فهم ردود فعلها وفقاً للبنية التي أسسها عليها ، فرهادي لا يفعل ذلك إطلاقاً ، بل أنه لا يهتم حتى بفكرة التأسيس و ينقلنا إلى مركز الإعصار مباشرةً ، و مع ذلك يقدم لنا شخصياتٍ حقيقيةً جداً في بنائها ، منطقيةً جداً في ردود فعلها ، صادقةً جداً في تواجدها ، شخصيات تجدها في حيك أو حارتك ، في الطابق السفلي من بنايتك أو في المنزل الجميل الموجود على ناصية الشارع ، شخصيات الفيلم تكابر و هذا هو سحرها ، ليست سعيدةً في حياتها ، و لا يوجد على المدى القريب ما يمكن أن يجعلها سعيدة ، ليست جيدةً في ما تقوم به ، و لا يوجد ما يدفعها للإعتقاد بأنها كذلك ، لكنها تعتقد بأنها كذلك ، شخصيات فرهادي في هذا الفيلم ترتدي قناع المكابرة إلى الدرجة التي تنسى فيها جلدها ، سيمين حوّلت فكرة مغادرة البلاد إلى هدفٍ عوضاً عن كونها وسيلة لحياةٍ افضل ، صارت المغادرة منجزاً بحد ذاته خصوصاً لو كانت ستغير بالذات من تصلب رأي زوجها ، تبحث عن حياةٍ افضل من خلال أن تجعل حياتها أسوأ ، عقدةٌ لا يمكن تفسيرها لكن لا يهم ، نادر تأقلم بشكلٍ حقيقي مع فكرة أنه لا يرغب في مغادرة البلاد أملاً في أن تترعرع إبنته في بلده ، على الرغم من أن ذلك قد يتحقق بوجود أحد والديها فقط ، يتوحد مع فكرة أنه لا يستطيع ترك والده ، بعيداً عن إحساسنا بإقتناعه بذلك أم لا ، قد ننفر منه عندما نرى الطريقة التي تعامل بها مع رزية المغلوبة على أمرها ، لكننا لا نملك إلا أن نتقبل ما فعل فالرجل قبل كل شي هو والده ، يرفض الإعتراف بخطأه ، يكابر و يكذب ، ثم يشعر بورمٍ هائلٍ في الكبرياء عندما يعلم بأن سيمين تريد أن تدفع الدية لتنهي هذه الأزمة ، لكنه مع ذلك سرعان ما يستأصل ذلك الورم ، رزية و زوجها هودجات لا يختلفان عنهما كثيراً ، يعيشان حياةً بائسة لكن الأمر لا يهم طالما أنهما يعيشانها بكرامة ، و طالما أن لقمة العيش لا تأتي مغمسةً بالذل ، أو هكذا يرون ، لكنهما مع سير الأحداث يتخليان عن تلك الكرامة ، يكتشفان أنهما فقدا جزءاً منها و يصران مع ذلك على أن ما حدث لم يكن على ذلك النحو ، سحر العمل الحقيقي أن شخصياته الأربع تعتقد بأنها مثالية إلى درجةٍ لا تصدق ، ليس الإعتقاد الداخلي اليتيم النابع عن الضعف أو غلبة الآخر ، بل الإعتقاد الذي يجعلها تجاهر – أو تفاخر – بمثالية لم تلامس قشورها على الأقل ، وحدها تيرمه ( تؤديها بتلقائية مقدّرة سارينا إبنة أصغر فرهادي ) هي من تحمل تلك المثالية المفقودة دون حتى أن تدرك أو تفاخر ، نلتقط وجهها المعجون بالذنب عندما تكذب من أجل أن تنقذ والدها ، لكنها لا تستطيع أن تلتف بسهولة على حقيقة أنها كذبت ، و هي في ذلك قصةٌ بمفردها خصوصاً عندما تشاهد مقدار الصدق الذي صنعت به الشخصية بحيث تحمل كل هذا الإنقسام – بذات القدر – بين أبيها و أمها ، لا أدري حقيقةً كيف صنع فرهادي شخصيات هذا العمل ، لكنني أجزم بأنني لم أشاهد مثيلاً لعمقها و صدقها و حقيقيتها طوال عامٍ كامل مضى و فيها بالذات تكمن عظمة هذا العمل .

حول ذلك المحور يثبّت فرهادي الكثير من الأوتاد ، و بالرغم من أن العمل يتناول قضية طلاقٍ بسبب الهجرة خارج إيران إلا أنه لا يتطرق لإيران المعاصرة بالصورة التقليدية الفجة ، لا يوجه أي رسالةٍ سياسيةٍ بالطريقة التي اعتدناها لكنه لا يخفي حقيقة أنه إيران بذاتها ، أصغر فرهادي يبقي محور حبكته صلباً و لا يتزحزح و يرسم من حوله و على مسافاتٍ متباينة – قد تكون بعيدة جداً في بعض الأحيان – الكثير من التفاصيل التي تغنيه عن إيران المعاصرة ، لا يكثف بطريقةٍ قد تفقده مصداقيته و حقيقيته ، و إنما يجعل تلك الأوتاد تُثبّت بإنسيابيةٍ حقيقية مع جريان الأحداث دون أن تعدو كونها إلتقاطاً لتفاصيل الحياة اليومية لأسرةٌ إيرانيةٍ متوسطة ، أمرٌ صعبٌ جداً و قد يفلت من يديه نعم ، لكنه ينجح تماماً هنا ، قد لا يكون فيلماً سياسياً لكنه اعمق من كثيرٍ منها على هذا الصعيد ، ينظر بذكاء و دون إسراف في تأثير البعد الديني على الحياة في إيران المعاصرة ، في شرقية إيران ، و حتى في الصراع الفارسي العربي ، فقط من خلال التفاصيل ، يلعب اكثر على مستوى التفاصيل ولا يحاول أن يتجاوزها بتاتاً نحو تناولٍ مباشرٍ قد يهزٌ إلى حدٍ بعيد من قوة النص الكامنة في حقيقية و صدق شخصياته ، ضمن تلك التفاصيل المنثورة يخلق نص فرهادي في مشاهده حالاتٍ متتاليةً من الإهتمام ، يستحوذ عليك في كل لوحةٍ يقدمها ، مرةً تلو الاخرى ، دون أي حواجز ينبع الحدث من سابقه ، يتفرع عنه ، و ينمو ليتفرع عنه فرعٌ آخر ، كل ذلك دون أن يحجب الرؤية عن المحور الرئيس للحدث و الذي يتناول تبعات الإنفصال في تلك الأسرة البسيطة .   

قلة تلك الأفلام التي أثرت فيّ خلال العام الماضي كما فعل فيلم اصغر فرهادي ، على الرغم من أنه لم يكن عملاً إستثنائياً على مستوى التكنيك أو اللغة الإخراجية إلا أنه كان فيلماً عظيماً على مستوى التحكم بالسرد و الإيقاع الداخلي للشخصيات ، عندما أتأمل مشاهد المحاكمة في واقعيتها و قربها من النفس أستحضر روح رائعة عباس كياروستامي التي لا تنسى Close-Up ، و عندما أتأمل النهاية العبقرية للعمل أستحضر عبارة أحمد في رائعة فرهادي الأخرى About Elly ( نهايةٌ مرّة أفضل من مرارةٍ لا تنتهي ) ، يوماً ما عندما أرغب بتذكر عام 2011 سينمائياً سأكون سعيداً لأن A Separation سيخطر ببالي قبل أي شيٍ آخر .

التقييم من 10 : 9


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters