•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الخميس، 18 أكتوبر 2012

Barton Fink

كتب : عماد العذري

بطولة : جون تورتورو ، جون غودمان ، جودي ديفيز
إخراج : جويل كوين

هناك سحرٌ لا يقاوم في أفلام الكوينز ، كان هذا عهدهم مع الجمهور منذ فيلمهما الأول Blood Simple الذي وضع اسمي الرجلين بقوة على المسرح الهوليوودي في الثمانينيات ، لم يكن الأمر ضربة حظ لطالما تكررت في أفلامٍ اولى عظيمة قدمها مخرجون كثر في هوليوود ثم ما لبثت مسيرتهم أن اضمحلت ، ضربوا بقوة في 1987 من خلال Rising Arizona ، و كانوا شامخين عام 1990 عندما قدموا Miller’s Crossing ، و وقفوا على قمة العالم في 1991 عندما حققوا الإكتساحية الوحيدة في مهرجان كان السينمائي الدولي عبر تاريخه من خلال Barton Fink .

كان Barton Fink عملاً مهماً جداً في مسيرة الكوينز ، ليس فقط لأنه كان ترسيخاً لنوعٍ مميزٍ من الحبكات و المعالجات و الشخصيات التي أصبحت أشبه بالماركة المسجلة بإسم الأخوين جويل و إيثان ، بل لأنه جلب لفنهما الإعتبار و التقدير العالمي الواسع و لفت الأنظار بقوةٍ إلى فن الكوينز اللذين لم يحققا سوى أربعة أفلامٍ فقط لكنها كانت كافيةً تماماً لخلق الشيء الذي يجعل من ذكر اسمهما بمفرده اشارةً إلى عملٍ مهم ، سلّط هذا الفيلم الأنظار بقوةٍ على الأخوين بعدما فاز بثلاث جوائز في مهرجان كان السينمائي الدولي عام 1991 للمرة الأولى و الوحيدة ، أعراف المهرجان التي يعرفها القاصي و الداني تقسم الجوائز كل عام بين أبرز الأفلام المشاركة ، لكنها كانت المناسبة الوحيدة التي تقوم فيها لجنة تحكيم المهرجان بمنح فيلمٍ ما جائزتي أفضل إخراج و ممثل علاوةً على تتويجه بالسعفة الذهبية كبرى جوائز المهرجان السينمائي الأشهر ، كان تكريماً مميزاً لصناعة سينما مميزة استمر الرجلان في تقديمها على مدى عقدين لاحقين أيضاً .

القصة عن بارتن فينك ، الكاتب المسرحي الذي تحقق مسرحيته الأخيرة نجاحاً مهماً في برودواي أربعينيات القرن الماضي ، الأمر الذي يجعل العروض تنهال عليه للعمل في هوليوود ، الرجل يمقت هوليوود ، يمقت فيها نظام الاستديو الذي يحوّل الإبداع الى نوعٍ من التبعية و العبودية و يسطّح القيمة الحقيقية للفن و النجومية ، لكنه يفكر جدياً في الموضوع كمرحلةٍ مؤقتة قد تجلب له بعض الصيت الجيد الذي سيسمح له لاحقاً بتقديم الفن الذي يريد ، ينتقل إلى هوليوود بنتيجة عرض من ستوديو كابيتول الذي يديره رجلٌ صاخبٌ غريب الأطوار يدعى جاك ليبنيك يطلب منه العمل على نصٍ لفيلم مصارعة مقابل ألف دولار أسبوعياً ، لكن المشكلة أن فينك يقع أسيراً لعقمٍ روائيٍ عجيب ، الأمر الذي يضطره للجوء إلى أودري تايلر سكرتيرة الكاتب الكحولي المرموق دبليو بي مايهو لمساعدته في ايجاد الطريق الذي التمسه رئيسها من قبل في أعماله الناجحة ، طبعاً مع وجود تشارلي ميدوز مندوب بوليصات التأمين المتجول الذي يقطن الغرفة المجاورة له في الفندق و الذي يزوره كل ليلة ليحكي له بعض قصصه .

من وجهة نظرٍ معينة يبدو هذا الفيلم هجائيةً ممتازة للعمل الهوليوودي ، تستلهم الكثير من التفاصيل و تعيد صياغتها و تقديمها ضمن قالبٍ من الكوميديا السوداء اللذيذة التي تحمل مذاق الكوينز ، النص يكثف جهوده بشكلٍ ملفت على هذه الجزئية ، بارتن ينتقل من المنظومة الإبداعية التي قدم من خلالها فنه في برودواي إلى منظومةٍ استعباديةٍ مختلفة تتجسد في نظام الستوديو ، حيث يصبح الكاتب و المخرج و النجم رهينةً لنزواتٍ مجنونةٍ من قبل السلطات الأعلى في هذه المنظومة – و لا مانع أن يجسدها مالك ستوديو يهودي غريب الأطوار – دون أي قيمةٍ حقيقيةٍ للفن الخالص و الحقيقي ، يصور النص أيضاً صراعاً صريحاً بين الافكار الجديدة الطموحة و التقاليد التي تحكم هذه الصناعة و تقيدها ، يصنع النص كوكتيلاً ممتازاً من طموحات الفن و غرابة المنتجين و غوغائية المدراء التنفيذيين ضمن اطارٍ من الكوميديا السوداء ، يبدو العقم الروائي الذي يصيب بارتن فينك من وجهة نظرٍ ما أشبه بنتيجةٍ منطقيةٍ لهذا الصراع بين العمل الهوليوودي كفنٍ خالص أو كصناعةٍ تدر الأموال .

على مستوى الحبكة ذاتها الأمور أعمق من مجرد تناول هذه الهجائية ، كعادة جميع حبكات الكوينز : لا شيء يبدو كما هو عليه ، و لا شيء يسير كما هو مخططٌ له ، و عادتهما في الغوص عميقاً من خلال نصوصهما في المنابع النفسية و النتائج الأزلية للحالات التي تمر بها شخصياتهم لا يتم التخلي عنها هنا ، يبقيان على عادتهما ذاتها ، بارتن فينك ترك برودواي و رحل إلى هوليوود (بحثاً عن شيءٍ مختلف) كما يقول ، محاولةٌ ما لفتح أفقٍ جديدٍ أرحب أمام عقل و تفكير البطل ، لكن الرجل لم يكن يتخيل أن انتقاله إلى نظام الستوديو في هوليوود سيشكل قفزة غريبةً إلى هذا الحد في حياته ، يتعرض بارتن فينك لدفقةٍ من الاستغراب و الدهشة المركّزين من عالمه الجديد ، ربما صدمة ، لذلك هو يحاول منح عقله الفرصة الكافية للتأقلم معها ، و لذلك تغريه أي فرصةٍ مهمة للتواصل مع أي شيٍ حقيقي من حوله ، يبدو جاره ماديو لطيفاً و مقبولاً بالرغم من غرابة أطواره ، و تبدو سكرتيرة مايهو اقرب إلى طوق نجاةٍ في طريقه ، ذلك الإحساس الغريب للإوزة التي خرجت من السرب ، أو للسمكة التي قفزت إلى اليابسة ، شعور الطالب في اليوم الأول من المدرسة : هذا ليس مكاني و أنا لا أنتمي إلى هنا ، يبدو هذا الدافع مبرراً منطقياً جداً لحالة العقم الأدبي الذي تضرب عقل بارتن ، يبدو الفيلم بالنسبة لي و من هذا المنظور أبعد من الصورة الظاهرية لهجائيةٍ كوميديةٍ عن المنظومة الهوليوودية ، يبدو الفيلم هجائيةً لهواجس العقل ذاته ، بارتن – بالرغم من كابوسية الفيلم – ليس شخصاً مجنوناً ، أو مريضاً ، أو فاشلاً حتى ، بارتن فينك شخصٌ ناجحٌ و طموحٌ و يتمتع بكافة قواه العقلية ، لكنه يجد نفسه فجأةً في المكان الذي لا يتمناه ، للقيام بالشيء الذي لا يحبه ، عقله الباطن يرفض الحركة ، يتوقف عند نقطة الجمود ، لذلك نجده يتحدث لشارلي عن العقل الذي (لا توجد له خارطة) ، أشبه بالدهليز الذي عجز عن حل شفرته و فك عقدة هذا العقم الذي أصابه ، و لذلك أيضاً تبدو عبارة تشارلي عندما يتحدث عن نفسه كبائع لبوليصات التأمين (تستطيع أن تقول أنني أبيع راحة البال) في محلها تماماً ، لذلك تصوّر صدمة بارتن فينك العقلية شارلي كنوعٍ من الملجأ أو الرفيق ، على الرغم من أن شارلي لا يختلف عنه كثيراً ، قصصه اليومية تظهر أيضاً بأنه يخفي فراغاً كبيراً وراء جسده الضخم و يبدو مثل بارتن تماماً مسخراً للقيام بأمرٍ لا يحبه ، و التكثيف الكابوسي الواضح في النص على ورق الحائط الذي يتقشر و البعوض و صوت سقف الغرفة و ليلة العاشقين في الغرفة المجاورة هو تكثيف ممنهج لرسم هواجس العقل بحيث يبدو الإهتمام بها نابعاً في الأساس من اهتمام عقل بارتن بها ، اشعاره بأنه واقعٌ تحت الضغط و لذلك هو لا يكتب ، اشعاره بأنه يعاني ، و أن الإبداع بحاجةٍ ماسةٍ إلى معاناة ، تصويرٌ للمعاناة التي تولد في عقولنا قبل أن تولد في واقعنا ، نبالغ بها و نضخمها حتى تصبح كائناً مجسداً ، النص يبدع فعلاً على هذا المستوى ، يذهب أبعد بكثير من الصورة النمطية لهجائية هوليوود – التي يبرع فيها أيضاً – إلى صورةٍ أعمق في الهواجس العقلية التي تصيبنا عند شعورنا بأننا في المكان الذي لا ننتمي إليه أو نقوم بالعمل الذي لا نرغب به ، فتكون النتيجة صدمةً فعليةً تضربنا ، أو استحواذاً عقلياً يقنعنا بأن شيئاً ما يعترض طريقنا و يقف في وجهنا .

جويل كوين يستفيد كثيراً من تجربة العقم الأدبي الذي أصابه مع شقيقه عند عملهما على Miller’s Crossing قبل عام ، هذه الإستفادة تنعكس بوضوح على الكابوس السريالي المعمول الذي تجسده الصورة (في ذات العام الذي قدّم فيه الكندي الكبير ديفيد كرونينبيرغ رحلةً كابوسيةُ لكاتبٍ أيضاً في Naked Lunch) ، صحيح أنه يستخدم في الاساس كوميديا سوداء غنية على مستوى الحبكة بسيطة على مستوى التكنيك السردي ، إلا أنه يقارع في تنفيذها أقوى الصور الإستحواذية عن المصير و المأزق و رغبة الخلاص في افضل أفلام ديفيد لينش أو لويس بونويل ، و يخلق مزيجاً فريداً جداً و من النادر ان تتذكر شبيهاً له من الهجائية و الإثارة و الكوميديا السوداء و الرعب أيضاً ، يعمل كثيراً على الاهتمام بالتفاصيل المطلوبة لخلق الإحساس المدروس تجاه كل شيء بحيث يصل إلى المشاهد كما يراد له تماماً ،  على الأخص من خلال العمل التصويري العظيم من الرائع دوماً روجر ديكنز في أول أفلامه مع الكوينز ، ديكنز يصوّر نوعاً من التناقض الصارخ بين المشاهد الخارجية المبهجة في الفيلم و المشاهد الداخلية الكابوسية في غرفة الفندق ، لإعطاء الشعور بالمقابل الذي يفترضه العقل كثمنٍ لأي حلمٍ نسعى وراءه و نضطر أن نضحي بالكثير من اجله ، الكاميرا ضمن الغرفة الضيقة ، في الممرات ، في المصعد ، الطريقة التي تلتقط بها الحدث و تهتم بالتفاصيل ، قرع الباب ، متابعة حركة الجار من وراء الجدران ، كلمات الجار ، ورق الحائط ، و التناسق الذي تخلقه في هذه اللوحات الكابوسية المتتالية مع سكون و رهبة المكان ذاته .

مع ذلك سُلبت بهجتي مع الفيلم – و للمشاهدة الثانية – بإصرار الكوينز على إبقاء مشاهد ذروتهم غامضةً و غير واضحة المعالم حتى بمفهوم الكوينز ذاته ، في جميع أفلام الثنائي لا تمثل شخصيات العمل ذاتها فحسب ، و تبقى صلة الوصل بينها و بين الذات البشرية ذاتها عبر العصور قائمةً دائماً ، لكن وفق حبكةٍ تراعي ذلك و تستطيع أن تعيد تلك الشخصيات لأن تصبح ذاتها فحسب في الختام ، أمرٌ لمسناه في أفلامهما العظيمة جميعها ، لكنه لا يتحقق هنا بالصورة المطلوبة ، تبقى جريمة القتل غامضةً تماماً بالنسبة لنا حتى النهاية ، و تبقى منطقية الحدث – على مستوى الذروة – مشكوكاً بأمرها ، حتى لو حاول المرء تبني نظرية أن كل ما جرى هو اختلاقٌ محضٌ من قبل ذهن بارتن المصاب بالكبت و هي نظريةٌ أميل لها بشدة لإعتباراتٍ عدة تتعلق بالمكان و الشخصيات و التفاصيل المتعلقة بالعقل التي تتناثر هنا و هناك و الربط الواضح بين ورق الحائط الذي يبارح مكانه مع كل ظهورٍ لشارلي الذي يمكن أن يكون الحاجز العقلي الذي ابتكره خيال بارتن و طلب منه الكف عن رواية قصصه المسائية في إشارةٍ ربما إلى رفض بارتن الداخلي السماح لعقله برواية القصة المطلوبة بالطريقة التي يريد و رغبته أن يوجد شيئاً مختلفاً يتناسب و طلب منتجيه الذي هو بالنتيجة فيلمٌ مصارعةٍ متواضع ، ذات العقل الذي ابتكر أيضاً شخصيتي أودري و مايهو  و شخصيتي المحققين دوتش و ماستريونوتي قبل أن يسمح لشارلي بالقضاء عليهم جميعاً عندما ينتهي من روايته في ذروة الفيلم و يسمح له في الختام من تحريره من قيده (حرفياً و مجازياً) ليمضي في حياته ، نظريةٌ تبرز بقوة بالنظر للجو الكابوسي الخانق الذي عاشه بارتن فينك في ذلك الفندق المريب إلا أنها تبقى نظريةً غامضةً و غير واضحة المعالم على خلاف ما اعتدنا من الكوينز ، و هذا وحده ما جعلني أشعر بجرعة الاشباع ناقصةً في هذا الفيلم .

لكن ذلك لا يخفف في الختام من قيمة العمل العظيم للكوينز في هذا الفيلم ، التكنيك الخاص و الفريد الذي يحولان من خلاله تصوراتهما للنص الذي كتباه إلى حقيقةٍ ملموسةٍ يكاد لا يجاريهم فيه أحد ، و اختيارهما لنجومهما في الفيلم أكبر اثباتٍ على ذلك ، هذا الفيلم شهد أكثر اختيارات الممثلين تقليديةً في مسيرتهما كلها ، جون تورتورو و جون غودمان و ستيف بوشيمي في الأدوار التي تشعر بأنهم لطالما قاموا بأدائها منذ بدء الخليقة ، الكاراكتر الذي قولبوا أنفسهم فيه منذ ظهورهم أول مرة ، يبدو عمل الكوينز على مستوى هذه الجزئية براقاً ، خصوصاً مع أداءاتٍ أخرى ملفتة من جودي ديفيز و مايكل ليرنر الذي يصنع واحداً من أجود كاراكترات الكوينز طوال مسيرتهما و يخطف ترشيحاً أوسكارياً يتيماً لهذا الفيلم .

في الختام يبقى هذا الفيلم أكثر من مجرد هجائيةٍ عظيمةٍ للعمل الهوليوودي ، نظرةٌ في الهواجس العقلية التي تحكمنا و توجهنا تحت الضغط ، و مقدار الجمود و التقييد التي تخلقه من خلال كم العوائق التي ترسمها و تتفنن في تصويرها لنا ، و نظرةٌ أخرى في صورة الكوينز الأزلية التي لطالما جسداها في أفلامهما عن الإنسان السائر في طريق الظلال باحثاً عن مهربٍ من مصيره المحتوم .

التقييم من 10 :


هناك 3 تعليقات:

  1. الفيلم مكثف جدا وكل مشهد او جملة حوارية لها معنى ومغزى وداخل فى تكوين الحبكة لدرجة تجعلك فى الاساس لا تشعر بحبكة بل فقط بمعاناة البطل الفيلم تحس انه فعلا بيخليك تفكر قد ايه هى معاناة الكاتب قصدى المخرج صاحب الفيلم نفسه

    ردحذف
  2. صحيح .. على فكرة هذا هو العمود الفقري دائماً لنصوص الكوينز

    ردحذف

free counters