كتب : عماد العذري
بطولة : وليام هولدن ، بيتر فينش ،
فاي دوناواي ، روبرت دوفال
إخراج : سيدني لوميت
عام 1976 هو واحدٌ من
الأعوام القلائل التي تمنّيت لو عشتها سينمائياً ، تمنيت لو كنت هناك ، أشاهد ذلك
الكم من الروائع التي جاد بها صناع السينما علينا ، لا أعلم على وجه التحديد
الكيفية التي تقبّل به الناس العاديون ما صرنا نتعامل معها اليوم على أنها
كلاسيكيات ، و ربما يبدو مثيراً لأي منا أن يسهر في احدى ليالي الشتاء المتأخرة من
عام 1977 ليشاهد كلاسيكياتٍ من طراز Rocky و Taxi Drive و All The President’s Men و Network تتنافس تحت سقف قاعة دوروثي تشاندلر في لوس أنجلوس على الظفر
بأوسكار أفضل فيلم ، كان عاماً لا ينسى .
قبل هذا الفيلم كان سيدني لوميت
قد حقق مسيرةً سينمائيةً محترمةً للغاية ، باكورةُ أعمالٍ مخلّدة اسمها 12 Angry Men أدار فيها الأسطوري هنري فوندا ، و عملين
كلاسيكيين مع آل باتشينو في Serpico و Dog Day Afternoo ، و سمعةٌ ممتازةٌ في أوساط العمل السينمائي بفضل روحه المرحة و قربه
الواضح من نفوس من عملوا تحت إدارته ، في Network بدى الرجل و كأنما بلغ
ذروة مسيرته المهنية ، ليس فقط لمقدار القبول و الإستحسان الذي حظي به الفيلم ، أو
للترشيحات العشرة التي نالها للأوسكار ، أو للأوسكارات الأربعة التي فاز بها ، كل
ذلك كان مهماً ، لكن ما هو أهم هو مقدار التفرد و التميز الذي حققه هذا العمل
كهجائيةٍ لوسائل الإعلام ، جزئية يكاد لا يجاريه في نفوذه فيها أي فيلمٍ آخر في
تاريخ هوليوود .
عند الحديث عن Network عادةً
ما يكون كاتبه باد تشايفسكي محور الحديث أكثر من سيدني لوميت ، ليس
انتقاصاً من قيمة العمل الاخراجي للوميت في هذا الفيلم ، بقدر ما هي الألمعية الواضحة لسيناريو تشايفسكي
الذكي ، و بالرغم من أن كثيراً من الكلام قد أثير هو تشايفسكي (اليهودي و
المتعصب لليهود و لإسرائيل) و عن قصته الشهيرة مع الديم فينيسا ريدغريف المدافعة
الشرسة عن حقوق الفلسطينيين ، إلا أن هذا لا يمكن أن ينفي بأي حالٍ من الأحوال أن
الرجل كان واحداً من قلةٍ من الكتاب اللذين برزوا بذات القدر على المسرح و
التلفيزيون و السينما ، أعماله المسرحية الناجحة و مسلسلاته التي بقيت في الذاكرة
وقفت على نفس القدر من الأهمية أمام أعماله السينمائية التي جلبت له الشهرة الأعرض
، خصوصاً و أنها جعلته السيناريست الوحيد الفائز (بمفرده) بثلاث جوائز
أوسكار في فئات السيناريو ، عمله في Network كان السيناريو السينمائي
الحادي عشر في مسيرته ، و الأهم دون شك .
القصة عن هوارد بيل
عميد مذيعي الأخبار في محطة UBS الذي يحال للتقاعد بسبب
تقدمه في العمر و تراجع أداء برامجه على مستوى النقاط التي يحققها ، ماكس شوماخر
المدير التنفيذي للأخبار في المحطة و رفيق درب بيل هو من ينقل له
هذا الخبر ، بيل لا يستوعب ما يجري و يقع تحت ضغط شديدٍ من هكذا نهاية
تحملها مسيرته التي امتدت لأكثر من ربع قرن ، بيل يعلن لمشاهديه في
الحلقة التالية بأنه سيقدم على الإنتحار على الهواء مباشرةً في الحلقة الأخيرة من
برنامجه ، قرارٌ جنوني يدفع مرؤوسيه لإقصاءه فوراً من العمل لكنهم سرعان ما
يتراجعون عندما يقفز ذلك الإعلان بنقاط البرنامج إلى القمة و تبدأ الأرباح تصب في
خانة المحطة ، هوارد بيل يعاد للعمل وفقاً لمنظومةٍ جديدةٍ تقف وراءها مديرة
البرامج في المحطة ديانا كريستنسن حوّلته إلى نبيٍ معاصرٍ هاجسه التمرد على
الثوابت السلبية التي رسّخت في المجتمع عموماً ، و في الإعلام خصوصاً ، بيل يكسب الكثير
من المناصرين ، و جمله التحريضية تتحول إلى ما يشبه طوفاناً في الشارع الأميركي ، و
المحطة تستفيد من كل ذلك ، لكن الأمور لا تسير على ما يرام عندما يثير جنون هوارد بيل حنق
القوى العليا في المحطة .
قوة النص – الذي منح تشايفسكي
أوسكاره الثالث – لا تأتي في الواقع من تميزه السردي ، بقدر ما تأتي من العمق
الواضح الذي يقدمه الفيلم أثناء تحريه و هجاءه لقوة الإعلام و نموه المضطرد ، حبكة
الفيلم مستويةٌ و بسيطة في ظاهرها و لا تحمل الجديد الذي يستحق الذكر ، لكن النفس
الهجائي العالي للنص و قدرته على توظيف الهجائية في خدمة الصورة التي يرسمها كان
أمراً يستحق الحماس فعلاً ، خصوصاً و أنه – على خلاف السواد الاعظم من الهجائيات –
أصر على تقديم ذلك دون الولوج في الكوميديا أو الإقتراب منها ، و هي معادلةٌ لا
تبدو سهلة التحقق إذا ما استندنا على الاسس التقليدية التي لطالما بنيت عليها
الهجائيات ، حيث المبالغة ، و الكوميديا السوداء ، و الشخصيات الكرتونية ان صح
التعبير ، و غرائبية الحدث ، كل هذا يضعه تشايفسكي جانباً ، جمال نصه يكمن في أنه يؤسس لشخصياتٍ حقيقيةٍ
، ضمن ظروفٍ حقيقيةٍ ، تحركها دوافع حقيقيةٍ ، تقود إلى نتائج حقيقية ، النص لا
يلجأ للمبالغات المعتادة ، لا يستخدم الكوميديا و لا حتى جزءاً بسيطاً منها ، و لا
يهمل دوافع أي شخصيةٍ من شخصياته في أي منعطف من منعطفات الفيلم ، و هي برأيي
معادلةٌ تبدو صعبة الإنجاز ضمن الهجائيات تحديداً ، شخصيات تشايفسكي هي
شخصياتٌ من لحمٍ و دم ، هوارد بيل رجلٌ وجد ربع قرنٍ من مسيرته المهنية ترمى في سلة
المهملات فتصرف وفقاً لرد الفعل الذي يناسب حياته المجوفة الفارغة ، لا يعنيه
كثيراً أن ينتحر ، و قد يبدو جميلاً لو انتحر على الملأ ، حتى عندما تعود الفرصة
لتجده في برنامجه الجديد نجده بذات جنونه و بذات اندفاعه ، لا يعنيه كثيراً اذا ما
حقق البرنامج الجديد النقاط المرجوة ، لا يهمه كثيراً ان رضي عنه مرؤوسوه ، لذلك
لا توجد سوى وسيلةٍ واحدةٍ لإيقافه هي ذاتها التي فكر بها أول مرة ، ديانا كريستنسن
كما تختزل نفسها في إحدى عباراتها ( كل ما أريده من الحياة هو 30 سهماً و 20 نقطة ) ، نموذجٌ معقدٌ
و مباشر للوصولية التي تبنى عليها مؤسساتٌ كهذه ، حيث الإعلام يبدو مجرد مهنةٍ
قيمةُ العمل فيها هو مؤشر النقاط التي تحصدها برامجك ، بعيداً عن ذلك أنت لا تساوي
شيئاً ، نشاهد كريستنسن تستغل فرصة الضربة الاعلامية المجنونة التي يحققها هوارد بيل كي
تسيطر على البرامج الإخبارية علاوةً على استحواذها على قطاع البرامج في المؤسسة ،
تبحث عن المزيد و لا تتوقف ، و لديها القدرة و الجرأة على فعل أي شيءٍ من أجل
تحقيق ذلك ، بما في ذلك علاقتها مع ماكس شوماخر التي تبدو جزءاً من كل هذا ، تبدو صورة الإعلام
الشرس الذي تجسدها مع رئيسها فرانك هاكيت أشبه بطاحونةٍ عملاقةٍ من الجشع و الوصولية و حب
السيطرة ، طاحونة لا تأبه لشيء و لا تهتم بالعواقب كأحداث تسيّر حياتها قدر
اهتمامها بالكيفية التي ستستغل فيها تلك العواقب لمصلحتها ، مهما كان الثمن طبعاً
، حتى لو كان ذلك من خلال تسليط الضوء على أعمال مجموعةٍ أرهابية طالما أن ذلك
سيحقق المرجو منه ، صورة واضحة للإعلام القادر على بث أي شيء من أجل نقاطٍ أكثر ، بينما
تجسد شخصية ماكس شوماخر التوازن بين الشخصيات الثلاثة المحيطة بها ، هو
عجوزٌ و ذو تاريخٍ حافل مثل صديقه هوارد بيل ، لكنه ليس مجنوناً مثله ، قياديٌ مثل رئيسه فرانك هاكيت
لكنه ليس متسلطاً بقدره ، و عمليٌ مثل ديانا كريستنسن لكنه ليس وصولياً مثلها ، شخصيته المتوازنة
تبدو مزيجاً ملفتاً من الخبرة و الذكاء و الحميمية و عدم الإكتراث تجعلها بجدارة
الشخصية الاقرب للمشاهد في هذه الكوكتيل الذي يشاهده .
أجمل من استغلال النص
للبناء الجيد لشخصياته في التقاط التفاصيل المهمة التي تحكم هذه الصناعة هو امعانه
في التهكم عليها ، لا يكثف لدى مشاهده أهمية حقيقة أن صراع النقاط و الشعبية و
تحريك الشارع هي ما تدفع ببرامج معينةٍ إلى القمة على حساب أخرى ، بقدر ما يكثف
لديه أهمية الآلية و المدى الذي يمكن أن يذهب إليه القائمون على هذه الصناعة من
أجل الوصول إلى ذلك حتى لو كان ذلك من خلال ابتزاز الجمهور عاطفياً و أخلاقياً ،
يبدو النص و كأنما يقف على الحاجز الفاصل بين المثاليات التي يبحث عنها الجمهور في
الوسيلة الإعلامية كوسيلةٍ بالغة التأثير في حياته ، و بين البرامج التي يرغب
فعلاً – في دواخله و دون أن يدري – في مشاهدتها ، كوكتيل من برامج الفضائح ، و الصدمات
، و الحوادث غير المعقولة ، و العنف ، و خبايا الأمور ، و غيرها ، الفقاعات
الاعلامية التي تتناثر من حولنا كل يوم ، و تبقى مع ذلك مجرد فقاعةٍ قصيرة الأمد
لا نلبث أن ننساها و نبحث عن غيرها ، كما سيفعل جمهور هوارد بيل ، تبدو
هجائية تشايفسكي للمنظومة الاعلامية بالغة العنف لدرجةٍ لن تستطيع
معها تجنب الإحساس بأنك في مؤسسةٍ عسكرية أو ضمن سوقٍ للبورصة ، و على الرغم من أن
النص لا يتعمق في تقديم مشروع ديانا مع الارهابيين الذي يبدو مبتوراً الى حدٍ ما ، إلا أنه
يستخلص منه ما يريد تماماً : بعده الهجائي ، الآلية التي تحتار معها المنظومة
الاعلامية في ترويجٍ مشروعٍ ما فتبقيه حبيس الأدراج حتى اللحظة المناسبة التي
تغتال فيها الجمعية الارهابية هوارد بيل فتصبح مادةً جيدةً لبرنامجٍ جديد ، و على الرغم من
أن النص يبالغ قليلاً قرب نهايته ، و يفتعل نوعاً ما خصوصاً في تصوير علاقة شوماخر بكريستنسن
التي لا تبدو مبررةً بشكلٍ كامل من جانب شوماخر ، إلا أن هذا يبقى جزءاً من طقوس الهجائيات التي لا
ترتكز كثيراً على تبرير الحدث ، صحيح أن النص لم يقدم شخصية شوماخر
كشخصيةٍ تحتاج إلى علاقةٍ من هذا النوع ، خصوصاً لرجلٍ مستقرٍ في زواجه الذي دام
ربع قرن ، إلا أنه يخفف من ذلك الأثر من خلال احساس شوماخر ذاته بأن
الموضوع لن يعدو كونه مجرد نزوة ، و ثقته بأنه سيعود ذات يومٍ لمنزله ، و أن من هم
مثل ديانا ليس لديهم عاطفةٌ حقيقيةٌ ليقدموها ، النص يستخلص البعد
الهجائي للعلاقات الوصولية التي تحكم المهنة و لا يكترث كثيراً لتبريرها من منطلق
هجائيته .
سيدني لوميت – الذي سبق له و
تعامل مع القوة الفعالة للإعلام من خلال فيلمه Dog Day Afternoon – كان قادراً على ادارة النص كما يجب له أن يكون ، صحيح أنه استخدم
الأدوات الإخراجية الابسط ، و لجأ للإضاءة في حدها الأدنى ، و استخدم المقدار
الابسط من حركة الكاميرا ، و لم يوظف أي موسيقى تصويرية ، إلا انه قدّم بالرغم من
ذلك الإدارة الأمثل للنص ، تفاصيل الشخصيات لا تفلت من المشاهد ، و منعطفات القصة
تصل دون جهد ، و مشهدية الفيلم كانت من
أفضل ما يمكن ، خصوصاً في برنامج هوارد بيل التلفيزيوني ، علاوةً على أن ادارة الرجل لنجومه
كانت أمراً للذكرى ، هذا الفيلم هو واحدٌ من اربعة أفلامٍ فقط نالت خمس ترشيحاتٍ
لجوائز الأوسكار التمثيلية ، و ثاني فيلم – بعد A Streetcar
Named Desire – يفوز بثلاثٍ من جوائز الأوسكار التمثيلية الاربع ، يبدو هذا مؤشراً
مهماً على نوعية الأداءات التي يمكن أن ننتظرها من هذا الفيلم ، خصوصاً في وجود
مدير ممثلين بحجم سيدني لوميت ، ويليام هولدن يجسد التوازن الذي تحققه شخصية ماكس شوماخر
بالطريقة المثالية التي تجعلها بحق أقرب شخصيات العمل للمشاهد ، فاي دوناواي
تقدم أعمق ما في دايانا كريستنسن المكتوبة على ورق تشايفسكي ، مزيج حذق
من الوصولية و الجاذبية الطاغية و الذكاء الواضح مع انكسارٍ داخليٍ دفين ، تبقى افكارها
و جاذبيتها بالنسبة لنا مبرراً كافياً ربما لفهم علاقة شوماخر بها ، روبرت دوفال دفعٌ
حقيقيٌ لشخصية فرانك هاكيت التي لم نكن لنكترث لها كثيراً لولا قوة الأداء
الذي يبرزها من خلاله الرجل ، بيتر فينش – الذي أصبح أول ممثلٍ يفوز بالأوسكار بعد وفاته – يبدو ساحراً
بحق ، كوكتيل من التقدم في العمر و الماضي الحافل و لمسة الجنون و النقمة على كل
شيء دون أن يجعلك تلاحظ في أي منعطفٍ من الأحداث أي فصلٍ بين تلك الامور ، يبدو
كتلة حقيقيةً فعلاً من كل تلك التفاصيل ، بياتريس سترايت في دور زوجة ماكس شوماخر تنال
جائزة أوسكار عن أصغرٍ دورٍ يتوّج بها على الإطلاق ، مونولوج واحدٌ فقط و خمس
دقائق كانت كافيةً لمنح سترايت تمثال هوليوود الأغلى ، بينما يبدو نيد بيتي - الذي
ينال ترشيحاً للأوسكار هنا - مثالاً صريحاً على قوة مشهدية سيدني لوميت و
براعته في ادارة ممثليه ، نيد يجسّد في مشهده الحقيقي الوحيد القوة الخفية ، الحكومات
الحقيقية التي تحكم العالم ، البيزنس ، رجال الأعمال و الشركات العملاقة التي تمسك
خيوط اللعبة كلها من الأعلى في مشهدٍ للذاكرة .
مونولوج (Television is not
The Truth) الذي نسمعه على لسان هوارد بيل في احدى حلقات برنامجه يبدو نظرةً تلخيصية للأمر كله
، نظرةٌ هجائيةٌ عميقةٌ في البشر الذين يمارس الإعلام سطوته عليهم إلى الدرجة التي
ينسون فيها أنهم هم الشيء الحقيقي في الموضوع برمته ، و مع أنه أطلق في عام 1976
إلا أن اسس عمله الهجائيات (المستندة إلى لمسةٍ من المبالغة) تجعله أقرب إلى نظرةٍ
تنبؤيةٍ قويةٍ في حال الإعلام اليوم ، يبدو معها ملائماً جداً ليكون فيلماً
معاصراً عن اعلام اليوم أكثر مما كان قائماً قبل 36 عاماً ، اشاراته القوية حول سطوة
الإعلام (خصوصاً في مشهد الإغتيال الختامي الذي يبدو نبؤةً واضحةً بتلفيزيون
الواقع) و منعطفات قصته السلسة ، و شخصياته الممتازة ، و مشهديته الرفيعة ، و
أدائاته التي تستحق الإحترام جعلت منه مع مرور السنوات أكثر من مجرد عملٍ سينمائي
ممتاز يقدم هجائيةً عظيمةً للإعلام المعاصر ، التفرّد ربما كلمةٌ تفي بالغرض .
التقييم من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق