كتب : عماد العذري
بطولة : فرانسوا كلوزيت ، عمر سي
إخراج : أوليفييه نقاش ، إريك
توليدانو
بالرغم من كم
التحولات التي طرأت على السينما الفرنسية عبر تاريخها ، أسماء المخرجين العظام
الذين قدمتهم ، الكلاسيكات الخالدة التي جادت بها ، إلا أنها لم تكن بالرغم من كل
ذلك سينما جماهيرية ، صحيح أن أفلامها تحقق نجاحاتٍ مهمةً على الصعيد المحلي أو
على الصعيد الفرانكفوني ان صح التعبير ، لكنه من النادر أن فرضت وجودها الجماهيري
على مستوى العالم ككل ، و مع ذلك يفلت فيلمٌ ما من هذه القاعدة من حينٍ لآخر ، قبل
11 عاماً تحول Amelie إلى ما يشبه العاصفة الجماهيرية في الولايات المتحدة قبل أن يرشح لخمس جوائز
أوسكار ، و أواخر العام الماضي قدمت السينما الفرنسية الفيلم الأنجح على الإطلاق
في دنيا الأفلام غير الناطقة بالإنجليزية .
هذا فيلمٌ مبهج ،
ستختلف معه أو ستتفق ، سيبقى في ذاكرتك أو سيزول منها ، ستقدره كثيراً أو ستراه مجرد عملٍ جيد ،
لكن من الصعب أن تلتف على فكرة أنه فيلمٌ مبهجٌ فعلاً تماماً كما كان Amelie قبل أحد عشر عاماً ، هذه
النوعية من الأعمال يحبها الجمهور و يقدرها ، ليس لأنها بسيطة أو قريبة من القلب ،
بقدر ما هو الشعور بالإرتياح و التفاؤل الذي تحصل عليه أثناء إنفاقك هاتين
الساعتين في مشاهدته ، لذلك لا يبدو من الصعب تقبل حقيقة أن يصبح فيلمٌ كهذا – و بـ
364 مليون دولار - العمل السينمائي الأنجح بين كل الأفلام غير الناطقة بالإنجليزية
حول العالم و في جميع الأزمان ، اصبح أقرب إلى الظاهرة في بلده الأم و في البلدان
الأوروبية المجاورة ، حقق إيراداتٍ في شباك التذاكر الفرنسي لم يتفوق عليه فيها
سوى فيلمٍ فرنسيٍ واحدٍ فقط ، رشح لتسع جوائز سيزار العام الماضي ، و جعل من بهجته
الحقيقية ، الممثل عمر سي ، أول فرنسي أسود يفوز بسيزار أفضل ممثل طوال تاريخ
الجائزة ، قبل أن تعلنه فرنسا ممثلها الرسمي في سباق الترشح لأوسكار أفضل فيلم
أجنبي ، و يرشح يوم أمس لجوائز الأوسكار الأوروبي ، قصة سيندريلا حقيقية
حققها هذا الفيلم غير المكلف ، غير المبهرج ، و البسيط جداً ، مستخدماً سلاحه
الفتاك الوحيد : الكثير و الكثير و الكثير من البهجة .
روح قصة الفيلم بسيط و
مكرور و غير مبهر ، فيليب ثريٌ فرنسيٌ مصابٌ بالشلل الرباعي ، يعيش حياته مداراً
من قبل ثلاثة أشخاص : سكرتيرة ، و ممرضة ، و مرافق ، و لأن الوظيفة الأخيرة تبدو
الأصعب بالنظر لصعوبة شخصية فيليب و صعوبة حالته الصحية أيضاً ، يبدو أنه ما من أحدٍ قادرٍ
على تحمل البقاء فيها لأسبوعين كاملين ، المرافق الحالي ترك عمله و فيليب يجري
مقابلاتٍ الآن باحثاً عن مرافق ، دريس شابٌ بمشاكل عديدة قادمٍ من عائلة مهاجرة مكافحة يتقدم
لهذه الوظيفة بحثاً فقط عن توقيعٍ يفيده في الحصول على الضمان الإجتماعي ، لكن
فظاظته و عدم مبالاته بالوظيفة يجعلان فيليب يفضله على غيره ، ربما من باب التغيير ، لكن سرعان ما
ينسج الرجلان بينهما صداقةً غريبةً و غير متوقعة بالنظر للتباين الواضح بين
الشخصيتين .
كتب مخرجا الفيلم أوليفييه نقاش و إريك توليدانو نص هذا الفيلم الذي ذكرني في بعض تفاصيله بفيلم جوليا روبرتس
و ريتشارد غير Pretty Woman ، ينتمي نص الفيلم إلى نوعية النصوص التي يمكن أن نطلق عليه إسم
النصوص المريحة ، ذلك النوع الذي يأخذ حبكة تقليديةً يمكن لأي مشاهدٍ عادي أن
يتوقع إلى حدٍ بعيد كيف ستمضي ، يحاول أن يمنحها بعض العمق ، و يكثف جهوده بشكلٍ
أكبر على خلق توليفةٍ مريحةٍ ، و محفزةٍ ، و ملهمةٍ و الأهم مبهجة للمشاهد ، هذا
يحدث بإمتياز ، لكن هذه النوعية من الأفلام تحتاج في الواقع لما هو أكثر من ترك
انطباعٍ حسن أو اشعارك بالإرتياح ، و النص لا يبذل الكثير من الجهود على هذا
المستوى ، فيبدو في الكثير من مراحله أقل واقعيةً مما يفترض أن يكون من نصٍ يستند
إلى قصةٍ حقيقية ، يبقى أصعب من تقبله كفيلمٍ واقعي ، و جزء من براعة الأفلام
الملهمة أو المريحة يكمن في عدم وقوفها عند الإرتياح الذي تصنعه و تجاوز ذلك نحو
جعل تلك البهجة و ذلك الإرتياح واقعياً و حقيقياً ، النص جميل على مستوى القيمة
التي يريد تقديمها عن حياة الروح ، هو بالنسبة لي سهلٌ ممتنع على هذا الصعيد ،
يقدم الكثير عن استمرارية الحياة بالرغم من كل القيود التي تحيط بها ، لكنه يقدمها
بطريقة تبدو مفرطةً في الحلم ، في بداية الفيلم يكون المشترك بين الشخصيتين
محدوداً جداً ، لا يكاد يتجاوز ربما عشقهما للموسيقى ، لكن دريس يروق لفيليب ربما
لإختلافه عن جميع من عملوا معه ، على جانبي المشترك المحدود الذي يجمعهما نرى فيليب الذي
يحاول تجاوز رحيل زوجته من خلال بدء حياةٍ جديدةٍ عبر المراسلة ، و دريس الذي
يحاول مراقبة شقيقه و عائلته بحذر دون معرفة والدته ، نرى هذا على جانبي المشترك
المحدود نوعاً ما ، لكننا سرعان ما نشاهد ذلك المشترك يتمدد بسرعةٍ رهيبة ، فيبدو
تحول دريس أسرع من أن يصدّق ، و تبدو جدية فيليب أوضح من أن
تُهتك بهذه السرعة ، ليس هذا فحسب ، بل أن النص لا يحاول إطلاقاً أن يجعل لمنشأ دريس أو بيئته
أو لونه أي تأثيرٍ على مدى تقبله في بيئة فيليب الجديدة بالنسبة له ، و هذه تبدو نظرةً أفلاطونيةً إلى
حدٍ بعيد ، صحيح أن النص يلعب على وترٍ مهم يمنح شخصية دريس تميزها ضمن هذه
البيئة الجديدة تكمن في (حقيقية) دريس ، فيبدو دريس لنا شخصية حقيقيةً جداً ، حيويةً و مبهجةً و مريحة جداً ،
لكن النص يقع في تناقض غير مفسر عندما يظهر ازدواجية الشخصية في نشرها هذه البهجة
من حولها ، دريس لا يفعل ذلك لعائلته ، يبدو مقيتاً و بغيضاً و غير مريحٍ
في منزله بالرغم من كونها الجزء الأكثر حقيقيةً في حياته ، و يظهر على النقيض في
البيئة الجديدة التي تدفع له ليعمل فيها ، إنفصامٌ لا يبدو مبرراً ، دريس لا يظهر
بمظهر الشخص المريح الذي ينشر البهجة من حوله أينما ذهب بغض النظر عن الظروف
السيئة التي تمر بها عائلته ، هذا لا يحدث ، و إزدواجية الشخصية على هذا المستوى
تبدو صارخةً جداً و لا يمكن الإلتفاف عليها ، صحيح أن نوعية نصوصٍ كهذه لا تلتزم
الحفر العميق في نفوس شخصياتها ، لكنها تبقى ملزمةً على الأقل بجعلها مقنعةً
بالنسبة للمشاهد ، و الكلام هنا ليس على مستوى بنية الشخصية فقط ، بل أيضاً على
مستوى الحدث ، و مواقف من قبيل جنون دريس أثناء الغناء في السيارة مطلع الفيلم ، أو موقفه الحاد من
إبنة فيليب و تصرفه مع حبيبها ، أو موقفه في الاوبرا ، كلها مواقف
يتقبلها المشاهد فقط بفعل الأدائين البراقين لنجمي العمل أكثر من تقبلها لواقعيتها
أو منطقيتها ، و هنا مكمن القصور في النص .
بعيداً عن ذلك يبقى
أقوى ما في النص أنه لا يتفرع مطلقاً ، يجعلنا نعرف شيئاً عن علاقات فيليب بالمراسلة
، و عن علاقة دريس بعائلته ، و عن ولع دريس بالسكرتيرة ، و
عن مشاكل إبنة فيليب ، يمر على تلك النقاط بطريقةٍ تبقيها في الهامش و تقدم
فقط ما يراد منها لخدمة محور العلاقة بين دريس و فيليب دون أن تتحول إلى أحداثٍ بحد ذاتها ، و هذا ما يجعل
تكثيف النص على رسم تفاصيل هذه العلاقة قوياً و يستحق التقدير .
و على خلاف أفلامٍ
أخرى مماثلة لا يعتمد الفيلم كثيراً على الصورة الكبيرة ، و التي تبدو عاديةً عند
الإرتداد للوراء و تأمل ما شاهدنا ، هو يعتمد بشكلٍ واضح على المشاهد أو اللحظات
أو التفاصيل الصغيرة المرصوفة إلى جوار بعضها البعض ، لذلك هو ممتعٌ أثناء
المشاهدة و ليس من الضروري أن يضمن الديمومة على هذا الصعيد ، صحيح أن كوميديا
الفيلم تحاول كثيراً إبقاء حيويته حيةً في ذاكرتنا ، إلا أن أفلاماً كهذه تحتاج في
الواقع لما هو أعمق و أكثر تأثيراً في مشاهده ، كوميديا الفيلم صعبة ، ذلك النمط
الذي يحاول أن يجد لنفسه مكاناً ثابتاً بين عمق النص و العاطفة التي يحاول توليدها
فينا عن الأرواح التي لا تموت ، لكنها بطريقةٍ ما تتفوق على الجزئيتين معاً و تطغى
عليهما و لا تكون كافية لاحقاً لحفر مكانٍ واضحٍ للفيلم في الذاكرة .
و بالرغم من قصور
نصهما إلا أن نقاش و توليدانو يتمكنان بالنتيجة من تجسيد صورةٍ مبهجة و منعشةٍ
فعلاً للمشاهد ، خصوصاً من خلال التركيز على المشاهد النهارية التي تمنح كثرتها
العمل إشراقاً بصرياً مهماً ، و حتى تلك المشاهد الليلية القليلة – كمشهد الإفتتاح
مثلاً – تبقى مشاهد مبهجةً للبصر ، لكن بهجة الإخراج الحقيقية تكمن في إطلاق
العنان لنجمي العمل فرانسوا كلوزيت و عمر سي لقيادة ذلك كله ، و من الصعب تخيل كم كان الأمر صعباً
بدونهما ، عمر سي كتلة مندفعة من الحيوية و الفرح و البهجة تعم أرجاء
المكان بطريقةٍ لا تستطيع تجاهلها أوغض الطرف عنها ، و كلوزيت – الذي يحاكي داستن هوفمان
كثيراً على المستوى الشكلي هنا - ينهار بفيليب بطريقةٍ مكابرة و أنيقةٍ جداً و يدخله بتدريجٍ محنك في
عالم دريس الساحر ، و الكيمياء التي يصنعانها معاً تبدو أقوى و اكثر
فعاليةً بكثير من قيمة كل أداءٍ بمفرده ، و هناك في أدائهما وحده يكمن الفيلم كله
، ذكاء هذا العمل أنه لا يجعلنا نرفضه مهما قدّم ، و نتقبل منه كل ما نراه ، و
نتفاعل معه بالطريقة التي يريد ، لا يبحث كثيراً عن أي شيءٍ قد يمنحه ما هو أعمق
أو أكثر نفاذاً ، هو يحاول فحسب أن يكون منعشاً و مبهجاً و مريحاً للمشاهد ، و قد
تحقق له ما أراد .
التقييم من 10 : 7
0 تعليقات:
إرسال تعليق