كتب : عماد العذري
بطولة : جيرد غيلمان ، كارا هايوارد
، بروس ويليس
إخراج : ويس أندرسون
ما يميز تجربة ويس أندرسون
الإخراجية حتى الآن لا يكمن في مقدار التطور الذي يحدث فيها على غرار تجارب أخرى
مماثلة لمخرجين موهوبين من أبناء جيله ، بل في مقدار التميز الذي يستطيع الرجل أن
يمنحه لنوعية العمل السينمائي الذي يقدمه ، ليس التميز الذي يصنع فارقاً حقيقياً
في هذه التجربة عن سواها من أعمال نظرائه ، بل التميز الذي يجعلها مختلفةً حتى عن
أعمال ويس أندرسون ذاته ، هذا الرجل يتحدى ذاته كثيراً و ينجح في كل
مرة ، نستطيع مع مخرجين موهوبين من جيله أن نتحدث عن عالمٍ خاص بكل واحدٍ منهم ،
عالم كريستوفر نولان أو عالم بول توماس أندرسون ،
الأمر مختلف مع ويس أندرسون ، كل فيلمه أخرجه هو عالمٌ قائمٌ بذاته !!
في فيلمه الجديد الذي
افتتح مهرجان كان السينمائي الدولي هذا العام و بدأ رحلته مع النجاح
هناك يثبت لنا الرجل تماماً أنه لا يوجد ( عالم ويس أندرسون ) ، هناك عالمٌ لكل فيلمٍ من افلام ويس أندرسون ،
و عندما يرى مخرجٌ بقامة مارتن سكورسيزي أن هذا المخرج الشاب – دون سواه – هو سكورسيزي القادم
فالرجل لا يقول ذلك على سبيل المجاملة ، ويس أندرسون استطاع على مدى أفلامه السبعة أن يصنع شيئاً مختلفاً -
بغض النظر عن مقدار تقدير المرء لأي عملٍ من تلك الأعمال - و أثبت لنفسه مكانةً
خاصةً بين ابناء جيله و أصبح لاسمه رنين خاصٌ جداً لا تخطئه الأذن .
في Moonrise Kingdom يحكي أندرسون قصة سام شاكوسكي و سوزي بيشوب اللذين يعيشان بداية مرحلة المراهقة في جزيرةٍ
منعزلةٍ على الساحل الشرقي صيف 1965 ، سام فتىً يتيم في الثانية عشرة من عمره يقيم مع أسرةٍ تتبناه و
يعمل جاهداً على تحقيق ذاته من خلال جديته و انضباطه في العمل الكشفي في معسكر إيفانهو تحت
امرة القائد وارد ، بينما سوزي هي ابنة المحاميين والت و لورا بيشوب الزوجين
على الورق فقط ، سام و سوزي يلتقيان مرةً واحدةً فقط قبل أن تملأ العاطفة قلبيهما مع
استمرارهما في المراسلة ، و بسبب أوضاعهما الحياتية يجدان الهرب الوسيلة الوحيدة
لبدء حياةٍ جديدة ، لكن الهرب لا يبدو خياراً واقعياً فعلاً في جزيرةٍ صغيرةٍ كتلك
.
كتب ويس أندرسون
نص هذا الفيلم بالمشاركة مع رومان كوبولا ( إبن فرانسيس فورد و شقيق صوفيا ) حول أحد مواضيع أندرسون المفضلة على
اختلاف معالجاتها : العائلة ، المعنى و القيم و الروابط التي ولدت معنا و لم نقرر
اختيارها ، الظروف التي تضعنا فيها ، و كيف توجّه مصائرنا استناداً لمقدار ولائنا
و تمسكنا بذلك المعنى ، موضوع تحراه الرجل على اختلاف النظرة و الاسلوب و المعالجة
في The Royal Tenenbaums و The Darjeeling Limited و Fantastic Mr. Fox و في هذا الفيلم أيضاً ، في هذا الفيلم يتعرض أندرسون
للمرحلة الحساسة من حياتنا عندما نشعر – أو نعتقد باننا نشعر – بالحب للمرة الأولى
، سام و سوزي مراهقان في بداية مرحلة المراهقة ، بالكاد يعرفان بعضهما
البعض ، لكن أندرسون يخبرنا بأن تلك المرحلة لا تحتاج لما هو أكثر من ذلك ،
القليل من التقبل و الارتياح كافٍ تماماً لتفسير ذلك بمفهومنا اللحظي إلى مشاعر أو
علاقة حب ، يتناول هذا النص الرائع النظرة الآنية لحياتنا في حينها ، كيف كنا نرى
عالمنا في فترةٍ عمريةٍ كتلك ، كيف كنا نكره سيطرة من هم أكبر منا – و بالطبع من
يعتقدون أنهم أرجح منا عقلاً – على حياتنا ، كيف كنا ننظر لمنافسينا و نظرائنا ،
كيف كنا نجدهم أعداء لنا في حينها ( مشهد المواجهة في الغابة ساحرٌ على هذا الصعيد
) ، كيف كانت أحلامنا بسيطة ، و حبنا من أول نظرة ، و عواطفنا سهلة الترجمة إلى
هروب من عالمنا أو الزواج بمن نحب ، و كيف كانت تبدو عوائق الكبار أمام طموحاتنا
أمراً غير مفهوم أو منطقي ، قبل أن تأتي العاصفة في الختام كفاصلٍ بين كل هذا الذي
يضربنا في تلك اللحظات و بين الإستفاقة و زوال كل شيء ، أندرسون و كوبولا يرتدان
بعنف إلى الوراء ، إلى الغور الأعمق من طفولتنا – و طفولتهم كذلك – ليقدموا معالجةً
مختلفة المنظور لتلك المرحلة العمرية ، ليس بالنظرة التقليدية ، بل بنظرتنا حينها
، أنت تشعر بهذا بقوة ، ينجحان بامتياز في جعلك تعيش الحالة ، و تقتنع بها كما
اقتنعت بها في عمرٍ مماثل سابقاً ، تتحمس لنجاحها ، و تقف مسانداً لهم في امنايتك ،
تتناسى نضجك الحالي ، تتناسى حقيقة الخطأ الذي يقدمون عليه و سذاجة المشاعر التي
يحملونها ، تتجاوز بحسن نية نظرتهم المسطحة للأمور و هوسهم العجيب تجاه خوض
التجربة و البحث عن اول مرةٍ في كل شيء : الموعد ، و اللقاء ، و الهروب ، و القبلة
، و الزواج ، يغمرونك في هوسهم و يشعرونك بأننا لم نكن سخيفين أو أطفالاً عندما
راودتنا تلك الأفعال أو أقدمنا على خطواتٍ كتلك في تلك المرحلة العمرية ، أجمل ما
في علاقة الحب هذه أنها غير مفسرة ، هي تحدث دون حاجةٍ حقيقيةٍ لكلمة ( لماذا ؟ ) ،
لا يوجد بين مقومات الشخصيتين ما يقود لها ، و لو حاول نص أندرسون و كوبولا منحها
تفسيراً مباشراً بعيداً عن العمق الذي يضخانه في تركيبة المرحلة العمرية ذاتها
لربما اختل توازن النغمة الفريدة و الثيم البصري للفيلم ككل ، و في جو بصري بكل
تلك (اللا اعتيادية) سيبدو مختلاً جداً أن تطرح و تعالج بطريقةٍ
اعتيادية ، النص عميقٌ جداً بتركه العلاقة غير مفسرة رامياً بثقله الأكبر على
المشترك الذي سيصنعه بين الحالة التي يعيشها بطلاه في هذه المرحلة العمرية و
التاريخ الذي يحمله المشاهد في ذاكرته الشخصية لتلك المرحلة ، يشعرك النص كم كنا
ناضجين و حقيقيين و نحن نقوم بذلك ، نص ويس أندرسون و رومان كوبولا ينسج أعمق صورةٍ خطها عملٌ من أعمال ويس أندرسون
خصوصاً في تناوله لنظرتنا تجاه الحب و الخسارة ، و هو على هذا الصعيد أكثرها
حميميةً و صدقاً أيضاً ، في جميع أعماله الستة السابقة شعرت بالإنبهار و الإعجاب
على اختلاف المستوى ، هذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها بهذا القدر من الحميمية
، ليس لأن شيئاً ما تغير في الرجل ، بل لأن عالماً قائماً بذاته يُصنع في كل فيلمٍ
من أفلام ويس أندرسون .
مع ذلك ويس أندرسون
المخرج – و ليس الكاتب - هو نجم هذا العمل و نجم كل أعماله ، أفلامه كتلةٌ متحركةٌ
بصرياً و حوارياً و أدائياً ، كتلة واحدة غير قابلة للتجزئة تحمل على غلافها ختم ويس أندرسون ،
عندما يتحرك جزءٌ منها يتحرك كل شيءٍ في الفيلم ، عالمٌ خاصٌ لا يمكن مجاراته أو
تقليده ، الستايل البصري مزيجٌ من الكرتونية و الألوان و اللقطات الواسعة و
الملابس التي تتكلم بمفردها و تعكس حتى نوعية الشخصيات التي ترتديها ، فرادته تكمن
في قدرته الدائمة في جميع أعماله على جعل العالم ذاته الذي يحيط بنا في حياتنا
اليومية يبدو عالماً خيالياً بالكامل دون أن نجرؤ حتى على اختبار تلك الحقيقة
بالرغم من أننا نشاهد أماكن حقيقية و شخصياتٍ حقيقية و حواراتٍ و ردود فعلٍ تنتمي
لعالمنا ، لا أدري كيف يفعلها ويس أندرسون ، عندما أتأمل كادراته المسرحية أشعر بأن الرجل
ساحرٌ حقيقي ، يبدو و كأنما يريد ان نرى العالم من خلال هذا الكادر الذي هو لوحةٌ
فنيةٌ قائمةٌ بذاتها لدى أندرسون ، لكنه في الوقت ذاته يمنحنا شعوراً غريباً بالرغبة في
ازاحة الكادر جانباً و رؤية العالم ذاته الذي يقدمه لكن بصورةٍ أوسع ، و هو هنا
بالذات من خلال الحركة الساحرة للكاميرا بما فيها الحركة ضمن الجدران و اللون
الذهبي الطاغي على الصورة و الانتقال المتطرف أحياناً بين اللقطات الواسعة و
الكلوس آب يمنح عمله تفرداً أكبر على مستوى الصورة و على مستوى خيالية العالم الذي
يرسمه للعالم الحقيقي الذي نعيشه ، تفردٌ أكبر من ذلك الذي وجدناه في The Life Aquatic
with Steve Zissou أو The Darjeeling Limited .
الأمر لا يتوقف عند
الصورة في صنع تلك الكتلة المتحركة ، لدى المخرجين اللذين يندرجون تحت نظرية ( المخرج المؤلف
أو الـ Auteur كما تعرف اصطلاحاً ) هناك علاقة خاصة بين الحوار المكتوب و
الطريقة التي سيقوم بها الممثلون بإلقاء ذلك الحوار ، النص يكتب و هذه الجزئية
مرسومةٌ في الذهن ، و تماماً مثل كوانتين تارانتينو او الكوينز ، ويس اندرسون يجيد هذه اللعبة تماماً و يستخرج من ممثليه
التناغم المطلوب دائماً للحوار المكتوب ، لكن ميزة و مشكلة نظرية المخرج المؤلف في
آن تكمن في أن مخرجيها يؤثرون كثيراً في أداءات ممثليهم ، و هذا لا يتوافق مع
الجميع ، لذلك يكرر ممثلون بعينهم التمثيل مع هؤلاء المخرجين تحديداً ، نتحدث عن هارفي كايتل
أو صمؤيل إل جاكسون أو مايكل مادسن مع كوانتين تارانتينو ، ستيف بوشيمي أو جون غودمان أو جون تورتورو مع الكوينز ، و بيل ميري و جيسن شوارتزمان و أوين ويلسن مع ويس أندرسون ، هذا مفهوم و طبيعي جداً و هنا ربما يكمن مأخذي
الوحيد على الفيلم ، خصوصية التناغم الذي يصنعه ويس أندرسون بين
الحوار و الطريقة التي سيتم أداءه بها كانت أصعب من أن تلتقط تماماً ليس من قبل
ممثلين صغار يؤدون أدوارهم الأولى فحسب تحت ادارته ، بل هم يؤدون أدوارهم الأولى
عموماً في مسيرتهم ، أداءات جيرد غيلمان و كارا هايوارد لا تحقق ما يريده ويس أندرسون تماماً و
ما اعتدناه منه ، تبدو أحادية البعد و مسطّحةً بطريقةٍ لا تتوافق مع شخصياتٍ
مقدمةٍ بهذه الطريقة و وفقاً لهذه المرحلة تحديداً ، أحادية البعد حتى بمنظور
التجريد العاطفي الذي اعتاد ويس أندرسون طبعه على أداءات شخصياته ، بالنسبة لي هذه أغرب
علاقة حب يمكن أن اشاهدها ، لا أتحدث عن الكيفية التي كتبها بها ويس أندرسون بل
عن الطريقة التي أدّيت بها الشخصيات و مقدار الكيمياء الموجودة بين البطلين ،
الروح التي تصلنا من هذه العلاقة نابعةٌ في الواقع من ذاكرتنا التي يلامسها النص
في المرحلة العمرية التي عشناها ذات يوم و لا تصلنا من أداءات بطليها ، جيرد غيلمان و
كارا هايوارد يجاهدان ليكونا ضمن منظومة أبطال ويس أندرسون
لكنهم لا يتجاوزون البعد الأحادي الذي يصلنا منهم ، لذلك نحن لا نتذكر الكثير من
علاقتهما ذاتها قدر ما نتذكر الحالة بأكملها و نقاربها في ذاكرتنا ، و عندما نستذكر
تلك المرحلة من حياتنا نعلم جيداً أنها حدثت لأننا كنا حقيقيين جداً ، عفويين جداً
، و هذا لا يحدث مع سام و سوزي اللذين يبدوان في الكثير من مراحل العمل مسيّرين لفعل
شيءٍ ما أكثر من كونهما مخيّرين تجاهه ، يبدو الحب طقساً لديهم مع أنه في هذه
المرحلة العمرية بالذات و وفقاً لظروف كتلك يكون خاماً و بسيطاً و حقيقياً و
بعيداً عن أي طقوس نتعلمها لاحقاً عندما ننضج و نتقدم في العمر ، هذه الجزئية
حرمتني متعةً كاملةً مع هذا الفيلم خصوصاً و هي تحاط بكمٍ مميزٍ من أداءات ويس أندرسون
المعتادة ، خصوصاً من بروس ويليس الذي يقدم عاماً عظيماً ( إلى جوار أداءه في Looper ) ، بالإضافة لإدوارد نورتون
و تيلدا سوينتن و بيل ميري و فرانسيس مكدورماند و هارفي كايتل و بالتأكيد جيسن شوارتزمان الذي
يمنح العمل بؤرته الكوميدية الألذ .
ربما يبدو غريباً أن
يمتلك هذا الفيلم الرقم القياسي لأكبر إيرادٍ يحققه فيلمٌ غير رسومي من صالة عرض واحدة
، لكنه ليس غريباً على الشريحة الخاصة من مهووسي ويس أندرسون اللذين
هم على استعدادٍ للسفر آلاف الكيلومترات من أجل عرضٍ اول لفيلمه ، هوسٌ لم يأتِ من
فراغ ، بل جاء من سبعة أعمال مميزة و فريدة قبل أن تكون أي شيءٍ آخر ، كل منها
عالمٌ مستقلٌ بذاته ، و في كلٍ منها مخرجٌ فائق الموهبة اسمه ويس أندرسون .
التقييم من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق