كتب : عماد العذري
بطولة : نينا هوس ، رونالد تسيرفيلد
إخراج : كريستيان بيتسولد
قد يكون رأيي غريباً
لكنني لا أخفيكم بأنني افضّل نوعية القصص التي قّدمتها الأفلام الألمانية التي
تناولت فترة الستار الحديدي لألمانيا الشرقية و حقبة جدار برلين و التباين
الحضاري و الاجتماعي و السياسي التي ولدت على جانبيه ، على القصص التي تناولت ألمانيا النازية
و ألمانيا الحرب العالمية الثانية ، أشعر بأن السينما الألمانية –
وغيرها في أوروبا و العالم - قد استنزفت تماماً النوع الثاني و استثمرته أكثر مما
ينبغي .
صحيح أن الثيم العام
لقصص النوعين يبدو متقارباً على الصعيد الدرامي ، حيث الناشطون و المعارضون و حتى
عامة الناس يجاهدون للفرار من بطش القبضة الجبارة للستار الحديدي في النوع الأول (
أتكلم طبعاً بعيداً عن أفلام الـ Ostalgie
أو أفلام الحنين لتلك الحقبة ) ، و حيث وطأة الحرب
التي تعيي كاهل من يعيشونها – و في جزءٍ كبير هم يهود - و تدفعهم للفرار بحياتهم و
الحصول على انعتاقهم خارج ألمانيا النازية في النوع الثاني ، و مع ذلك تبدو النوعية
الأولى الأقل بهرجةً على الصعيد البصري ، و الأقل دموية ، و الأبعد عن صورة الحرب
أكثر جاذبيةً و قرباً من نفسي ، أتذكر كثيراً افلام النوع الأول و بالتأكيد سأتذكر طويلاً هذا الفيلم.
في عمله السينمائي السادس
- الذي مثّل ألمانيا في سباق أوسكار أفضل فيلم أجنبي و فاز بالدب الفضي
لأفضل إخراج في برلين العام الماضي - يحكي لنا كريستيان بيتسولد في
هذا النص الذي كتبه بنفسه قصة باربارا وولف ، الطبيبة الألمانية التي تتعرض للعقاب بسبب
تقديمها طلباً للحصول على تأشيرةٍ لمغادرة ألمانيا الشرقية ، يتم العفو عنها لكن مع ارسالها إلى (مستشفىً / منفىً) ريفي لتكمل مسيرتها الطبية هناك ، تتعلق كل آمالها بخطةٍ سريةٍ تعدها مع
حبيبها يورغ الذي يعيش في ألمانيا الغربية لتأمين هروبها إلى الدنمارك حيث سيكملان
حياتهما هناك ، لكن الأمور لن تكون بهذه السهولة بوجود الضابط كلاوس شوتز
الذي يحيل حياتها الى جحيم من حينٍ لآخر ، و زميلها الطبيب أندريه الذي
تدرك مباشرةً بأنه الطبيب المكلّف بمراقبتها في عملها و تسليم التقارير الدورية عن
حياتها الجديدة .
في فيلمٍ Jerichow قدم كريستيان بيتسولد
صيغةً مدروسةً و غير مستهلكةٍ عن أناسٍ طبيعيين يمرّون بمراحل صعبةٍ نفسياً و
حياتياً من غير ان يغفل الخلفية السياسية المعقدة التي تضرب في عمق التحولات التي تسيّر
حياتهم و دون أن يفقد شخصياته طابعها الإنساني و دون أن يجرد الصورة ككل من ذلك ، و
هي صيغةٌ لا تستدعي عملاً مكثفاً على التحولات الدرامية لتلك الشخصيات بقدر ما
تستدعي عملاً جاداً على التفاصيل التي تغني تلك الشخصيات و ترسم صورةً واضحةً و
دقيقةً لكل ما يجري ، هي في الواقع صيغةٌ فعالةٌ أجادها بيتسولد في Jerichow و يعيد ممارستها بفعاليةٍ
تستحق التقدير فعلاً في Barbara .
النص يتمحور بالطبع كما
هو اسم الفيلم حول باربارا ، لكنه على خلاف الكثير من الأفلام التي تناولت هذه
المرحلة الحساسة من تاريخ ألمانيا لا يقدّم شخصيةً فريدةً أو غريبةً يمكن أن توضع
محوراً لعملٍ كهذا ، شخصيته المحور ليست ناشطةً سياسيةً أو معارضة مقموعة الرأي ،
هي إنسانةٌ عاديةٌ من أولئك الذين نلتقيهم كل يوم ، جريمتها الوحيدة أنها رغبت في
أن تعيش حياةً طبيعيةً في بلدٍ لا يقدّمها ، حاولت الحصول على تأشيرة مغادرة فنفيت
من حياتها ، وجدت نفسها في بلدةٍ صغيرة ، في مستشفى أقرب إلى منفى ، و عليها أن
تبقي عينيها حذرةً تجاه كل تصرفاتها ، جمال النص هنا أنه لا يستنزف من وقته أي
شيءٍ تقريباً للتأسيس لشخصية باربارا و هذا شيءٌ مذهل ، مشهدٌ واحدٌ في افتتاحيته لرجلين
يتناقشان في أمر امرأةٍ يتأملانها من نافذةٍ علويةٍ تجلس على مقعدٍ في الشارع ،
تدخّن سيجارةً حتى يحين الوقت تماماً لدخولها المبنى لمقابلتهم ، لا يحتاج بيتسولد لأكثر
من ذلك التقديم قبل أن يسلّم الشخصية بالكامل للقليل فقط من الحوارات و الكثير و
الكثير من التفاصيل و التخمة من نينا هوس ، تفاصيل النص التي على المشاهد ان يلتقطها تكون
فعّالةً جداً في تصوير البيئة الخانقةٍ التي تعيش فيها باربارا الآن ، لكن
هذا هو ما يتعمد النص أن يجعله يبدو لنا ، هو في الواقع لا يقدّم باربارا و
كأنها كانت تعيش في جنة طردت منها ، لذلك لا يحاول كثيراً أن يبدو مصطنعاً في
تقديمها و كأنما هي تحاول أن تتأقلم مع وضعها الجديد ، تبدو لنا بحذرها و صمتها و
هدوئها المريب و كأنما ولدت وعاشت في تلك البيئة الخانقة أساساً و لن يحدث هذا
المنفى الكثير من الفارق في حياتها ، هذا معمولٌ جداً و ينساب دون أن ندري ، ليس
هذا فحسب بل أنه يتماهى مع صدقه و رغبته من خلال التفاصيل في صناعة واقعٍ حقيقي
فيصنع أفضل صورةٍ سينمائيةٍ شاهدتها للعمل ضمن المستشفيات ، في جميع الأفلام التي تقدم
المستشفى يبقى حاجز الإنفعال موجوداً ، في الإحساس بالملبس و بطبيعة العمل و
بالعلاقة مع المريض و في شعور التخدير الذي يعيشه الطبيب في عمله ، هذا الفيلم
يقدّم الوجبة الأكثر دقةً و حقيقيةً على هذا الصعيد أيضاً ، و يخلق بيئةً متوازنة
و منطقية و سهلة القبول لدى المشاهد ، نحن نلتقط واقع باربارا من خلال التفاصيل
فعلاً .
ما يحسب للنص عقب
ثلثه الأول الذي يمكننا أن نقول فيه بأننا تعرفنا الى باربارا أنه يشغل
نفسه في صنع تدرجٍ حقيقيٍ موزونٍ جداً في بناء شخصيتها ، دون أن ينهج النهج
التقليدي في ذلك ، هو يسلّم شخصيته لمشاهده و ينثر من حولها أيضاً كل التفاصيل
التي تحتاجها دون أن ينهج أي نهجٍ حواريٍ أو تلقينيٍ في جعلنا نتواصل معها ، هو
فقط يتركنا لتفاصيله الغنية التي تتناثر من حول باربارا ، و بالرغم
من أنه يقدم شخصيةً حذرةً و هادئةً و مريبة لكنه لا يصعّب علينا المهمة في التقاط
كم الإنسانية التي تمتلئ بها ، يجعل باربارا أشبه ببركةٍ راكدةٍ يرقد تحت سطحها كوكتيلٌ عجيبٌ من
العواطف و الأحاسيس التي لا يحاول النص أن يبتذلها من خلال اخراجها و اظهارها لنا
بطريقةٍ قد لا تتناسب و جو التوتر و التكتم الذي يجب أن تعيشه باربارا في
بيئتها الخانقةٍ تلك ، علاقاتها بالرغم من قلتها تبدو مدروسةً جداً ، علاقتها
الأكثر بروزاً هي علاقتها اليومية بدراجتها ، مشاهدها معها تصنع صورةً تعلق بالذهن
كثيراً بعد انتهاء الفيلم ، و تكرارها على مدار ساعتي الفيلم يبدو أشبه بترسيخ
صورةٍ أيقونيةٍ للفيلم كله ، تماماً مثل الصورة الأيقونية لمالينا تسير
في بلدتها الإيطالية الصغيرة في فيلم جيوزيبي تورناتوري ، علاقاتها البشرية متباينة و مصنوعةٌ بحذر ، نكاد
نلمح الإبتسامة الأولى على وجه باربارا عند لقائها حبيبها ، لكن ليس هذا ملمح الإنسانية
الوحيد في الشخصية ، هي على الأقل تكره الضابط كلاوس شوتز ، يبدو هذا جلياً من استهجانها أن يقوم زميلها أندريه
بمعالجة زوجته ، هذا لا يعني أنها تخون مهنتها ، على العكس تماماً تبقى أجمل
علاقةٍ تشكلها هي تلك التي تنشأ مع مرضاها ، تهتم لأمر أحدهم عندما يحاول الإنتحار
بسبب حبيبته ، و تصنع أول بهجةٍ منذ زمن في عيني مراهقةٍ محكومةٍ بالأشغال الشاقة
تدعى ستيلا ، هذا الكوكتيل من المشاعر الراكدة لا يتوقف ، علاقة باربارا الأهم
تكون مع زميلها أندريه ، و هي برأيي اذكى ما في الفيلم ، تبدو مزيجاً من
الزمالة ، و تشابه الحال ، و اللطف الذي يبدو مصطنعاً أحياناً من الطرفين ، دون ان
يخفى على المشاهد انجذاب باربارا تجاهه بفعل ثقافته و استنارته و تفانيه في عمله ، مع
ذلك هي لا تحبه ، أو على الأقل لا يمكن أن تقنع نفسها بأنها فعلت ، يبدو في الصورة
الرسمية لها نوعاً من الوقوع في ثنائية (الجاسوس الطيب و الجاسوس السيء) ، نظرياً هو لا يختلف في مراقبته لها عن كلاوس شوتز ،
لكن سابقته التي وضعته في هذا المكان تجعل منه بالنسبة لباربارا خصماً
أليفاً بالرغم من كل محاولاته ألا يظهر بصورة الخصم أساساً ، تبقي نفسها على
احتمالٍ دائمٍ بأن كل تصرفٍ ودودٍ منه قد يحتمل أن يكون وسيلةً لكسب ثقتها تجاهه و
هذا ما لا تستسيغه ، هذا يبقى فعالاً طوال الفيلم ، و النص في هذه الجزئية لا
يحاول أن يخرج بعيداً عن الرتم الذي سار عليه ، لذلك هو يجعل مشاعر باربارا تجاهه
راكدةً و غائصةً تحت السطح ، لا يمكننا أن نحدد ماهيتها بسهولة بطريقةٍ قد تفقد
رتم الفيلم العام القائم على شخصيةٍ كتومةٍ و حذرةٍ جداً منطقيته و اقناعه ، حتى و
هي تقبّله في منزله تبدو من خلال تلك القبلة و كأنما هي تحرر نفسها من ذلك الشعور
أكثر من كونها تؤكده ، و أنا أقدّر النص كثيراً على ما فعله هنا .
اهتمام النص
بالتفاصيل يزيده منطقيةً و قدرةً على التأثير ، لك أن تلاحظ مثلاً أن باربارا التي
تتجنب الجلوس مع زملائها أثناء الطعام تبدأ بالجلوس معهم عندما يعتقد المشاهد
فعلاً بأن الوقت قد حان لتجلس ، لا يحاول النص من خلال هذه التفاصيل أن يجعل
شخصيته تعيش على ايقاعٍ ثابتٍ بالرغم من كل الجمود و الغموض الذي يلفها به ، يبقي
كعادة نصوص بيتسولد أمله بإنسانية الإنسان حياً و يقظاً ، ليس على مستوى باربارا فحسب
بل هو يمد ذلك إلى أندريه الذي يقدمه كمزيجٍ من الشخصية الجذابة و المتفانية في
عملها و المغلوبة على واقعها أيضاً بالرغم من الإبتسامة التي لا تكاد تفارق وجهه ،
هو في الواقع لا يختلف كثيراً عن باربارا و إن كان يتعامل مع وضعه بطريقةٍ تتناسب و شخصيته و
بناءه النفسي ، حتى الضابط كلوس شوتز لا يبدو شخصيةً احادية المسار ، يتعمد النص أن
يجعلنا نراه يبكي في أحد المشاهد بسبب ما جرى لزوجته المريضة ، نصوص بيتسولد لا
تجرّد أحداً من إنسانيته و إنما تضع ضغط الخلفية السياسية وكل تبعاتها فاعلاً جداً في إحداث
التباين الإنساني بين شخصيةٍ و أخرى بناءً على طريقة تفاعل و تقبل كل شخصيةٍ على
حدة .
و مع أن بيستولد يتألق
كثيراً ككاتب نص ، إلا أن عمله هذا كان بحاجةٍ ماسةٍ لمخرجٍ يستطيع أن يجسده في
صورةٍ تعلق بالبال ، و هذا ما يحدث ، إمتيازه الأول يكمن في نقله حس الإختناق
لمشاهده دون مشاهدة شيءٍ حقيقيٍ فعلاً عن قسوة النظام و استبداده ، ينجح في جعلنا نكتفي
بمشاهدة العزلة التي تعيشها باربارا في منزلها ، إنفصالها عن زملائها ، نظراتها المتلصصة
في كل مرةٍ تقود فيها دراجتها ، و بحثها عن لقاء من تحب في غابةٍ أو فندقٍ بعيد ،
كاميرا بيتسولد تجعل كل ذلك مخنوقاً بالفعل ، و هو لا يكتفي بذلك بل
ينجح في خلق إيقاعٍ متصاعدٍ من التوتر يجعل مشاهده ينتظر أن يتحول الفيلم إلى عملٍ
هيتشكوكي في ذروته – كما فعل في Jerichow و Yella من قبل - دون أن يجعل ذلك
التصاعد يفلت منه فيما لو تحوّل الفيلم في ذروته إلى لوحةٍ تأمليةٍ لصراع الإنسان
مع واقعه ، هذا يحسب لبيتسولد دون شك .
مع ذلك فروح كل هذا
هي نينا هوس التي تقدّم برأيي أفضل أداءٍ نسائيٍ رئيسيٍ في
عام 2012 ، لا يمكن تخيّل قوة هذا الفيلم بدون أداء نينا هوس ، نينا في ظهورها
الخامس في ستة أفلامٍ أخرجها بيتسولد تقدم ذلك النوع من الأدوار قليلة الحوارات قليلة
الإنفعال كثيرة التعبير كثيرة الصدق و تتفوق على نفسها في ذلك ، ردود فعلها هنا
مضبوطةٌ بأدق وحدة قياس ، تنجذب لها و تحاول معرفة أي شيءٍ عنها ، تغريك عزلتها و
خوفها و حذرها و عواطفها المكبوتة و رغبتها بالخلاص ، و إنسانيتها المنسلة وراء
ذلك كله ، وجهها تحفةٌ أدائيةٌ بحد ذاته ، لوحةٌ قادرةٌ على التشكل و التعبير عن
كل شيءٍ بأقل الإنطباعات الممكنة ، لا يتغير كثيراً لكنك تشعر به مباشرةً عندما
يستاء ، عندما يحذر ، عندما يخاف ، عندما ينجذب لأحد ، و بالتأكيد عندما يشفق على
أحد ، تدرجها عظيمٌ في الدور ، ميزانٌ حساسٌ جداً في الإنتقال بين المرأة الباردة
برود الثلج عندما نلتقيها أول مرة و تلك الدافئة جداً عندما نراها في مشهد الشاطيء
العظيم عندما تنقذ ستيلا من مصيرها الأسود على حساب حلمٍ أنتظرته لفترةٍ طويلة (
بالرغم من أنني لم أستوعب أساساً كيف وصلت ستيلا إلى منزل باربارا ) ، جمالية هذا التدرج يكمن في أن نينا هوس لا تشعرنا
لوهلةٍ بأن باربارا قد تغيّرت بقدر ما تشعرنا بأنها كشفت بعضاً من دواخلها
لنا ، هذا يضرب في عمق الشخصية و قيمتها و في عمق النص الذي يتأمل في الضغط النفسي
الشنيع الذي تمارسه الأنظمة الإستبدادية على قيمة الإنسان و إحساسه بإنسانيته ، بيتسولد يصنع
أفضل تعاونٍ له مع ممثلته الأثيرة و يستثمر الثيم البصري الممتاز الذي يخلقه مدير
التصوير هانز فروم و يزاوجه مع أداء هوس الحساس جداً لصناعة جوٍ خانقٍ بأقل قدرٍ ممكنٍ من الأدوات
و بأقل كميةٍ من الشحن السلبي تجاه ممارسات الستار الحديدي
لألمانيا الشرقية ، هذه المزاوجة الفعالة جداً بين الصورة و الأداء الرئيسي
هي أعظم ما في هذا الفيلم .
لا أنكر أنني لم
أتحمس لمشاهدة الفيلم لسببٍ لا أعلمه ، احتفظت به لفترةٍ دون أن امتلك الرغبة
بمشاهدته ، و عندما شاهدته شعرت بالأسى ، Barbara فيلمٌ عظيمٌ عن الواقع
القاسي الذي يدوم طويلاً إلى الدرجة التي تكون فيها مقاومة تجفيف منابع إنسانيتنا
الخاضعة له منجزاً بحد ذاتها ، فيلمٌ عن رغبة الإنعتاق و التحرر من خلال ( الآخر ) في
اللحظة التي نعتقد فيها بأن ( الأنا ) هي سيدة الموقف ، واحدٌ من أفضل أفلام العام .
التقييم من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق