كتب : عماد العذري
بطولة : بهروز وثوقي ، مونيكا
بيلوتشي ، بيرين سات
إخراج : بهمان غوبادي
لكل نظامٍ سياسي
ضحاياه ، يرمون في السجون ، تسحقهم السنون ، تمضي بهم الى غير رجعة ، أحياناً بجرم
فعلي من وجهة نظر ذلك النظام ، و أحياناً بجرمٍ لم يرتكب حتى لو تصالحنا مع فرضية
كونه جرماً ، و عندما تكون جريمتك هي قصيدتك التي لم تكتبها ، تكون الحروف أبسط من
تجسيد تلك الطعنة التي تصيب شاعراً و ترميه وراء القضبان لثلث قرن ، ربما لم يكن
لأداةٍ أن تجسد ألم شاعرٍ أكثر من قصيدة ، و لم يكن لوجدان شاعرٍ أن يختزل على
الشاشة سوى بصورةٍ لها كل هذه الشاعرية ، هكذا تكلّم بهمان غوبادي .
قصةٌ طويلةٌ و مؤلمةٌ
من المعاناة وصلت ببهمان غوبادي إلى هنا ، أحد أبرز الأسماء في الجيل الثاني من
الموجة الإيرانية الجديدة يكاد لا يوازيه ذكراً و أهمية سوى أصغر فرهادي و
بشكلٍ أقل رافي بيتس ، رجل الوثائقيات الشهير في إيران و الذي عمل مخرجاً
مساعداً لأهم رموز الجيل الأول من الموجة الإيرانية عباس كياروستامي في
فيلمه الشهير The Wind will Carry us عام 1996 و تحوّل للأعمال الروائية الطويلة عام 2000 عندما قدم من
خلال باكورة أعماله A
Time for Drunken Horses أول عملٍ سينمائيٍ طويل
باللغة الكردية ، يقدّم هنا عمله الروائي السادس و الأول خارج بلاده بعد معاناةٍ
طويلة مع حكومة الجمهورية الإسلامية بدأت مع فيلمه الرابع Half Moon الذي أخرجه عام 2006 و قوبل بردة فعلٍ عنيفةٍ من قبل الحكومة
الإيرانية منع على إثرها من ممارسة عمله في بلاده ، لكنه ضرب بقرار المنع عرض
الحائط و مضى ليخرج فيلمه الخامس No One Knows about Persian Cats عام 2009 و الذي خلق له مشكلةً كبيرةً مع نظام بلاده حوكمت على خلفيته
صديقته الأمريكية روكسانا صابري بالسجن لثمانية أعوام قبل أن تخرج لاحقاً بعد
قضائها ثلاثة أشهر ، يومها ذهب غوبادي بفيلمه إلى مهرجان كان و لم يعد بعدها .
عندما قرأت قصة غوبادي قبل
عامين أحسست بكم يبدو الأمر قاسياً على الفنان عندما يضطر لمغادرة بلاده بسبب فنّه
، و أدركت حجم الأسى الذي تحمله كلمات الرجل الذي بدى حينها و كأنما يميل ليتخلى
عن كل شيء لأنه يعيش في سجنٍ مهما اختلف مكان اقامته ، ثم سعدت كثيراً عندما قرأت
قبل عامٍ تقريباً حواراً له يتحدث فيه عن استقراره في تركيا و رغبته في العمل على
مشروعٍ جديد يختزل معاناة ثلاثة أشخاص مع قسوة المنفى الروحي و الجسدي بسبب فنهم ،
حقيقةً لم أهتم كثيراً بالتفاصيل حينها خصوصاً و أن الموضوع برمّته لم يكن سوى
مجرد فكرةٍ في رأس صاحبها ، ثم فوجئتُ في افتتاحية هذا الفيلم أن الرجل يستند إلى
قصة رجلٍ واحد ، شاعرٌ كرديٌ تربطه علاقة صداقةٍ بعائلة غوبادي يدعى صادق كامنغار
قضى 27 عاماً في سجون الحكومة الإيرانية بسبب تهمةٍ ملفقة ، في الواقع هناك شخصان
آخران فعلاً يستلهم هذا النص معاناتهما .
الحكاية عن ساحل فرزان ،
شاعر سنّي كردي من الشعراء الشباب لحقبة الشاه ، و مينا دراخشاني إبنة
عائلةٍ شيعيةٍ نافذةٍ في حكومة الشاه ، يقعان في الحب و يتزوجان ، سائق مينا الذي
يدعى أكبر واقعٌ في حبها أيضاً ، و مع قيام الثورة الإسلامية
الإيرانية تتشابك علاقات أكبر مع النمو المضطرد للمد الثوري و ينال مكانةً مهمةً ضمن
القوى النافذة الجديدة في البلاد ، و بتحريضٍ من أكبر يسجن ساحل بتهمة كتابة
قصائد سياسية ضد حكومة الثورة ، يغيّب في السجن 30 عاماً و تسجن زوجته مينا لعشر
سنوات بتهمة التعاون مع زوجها ، بعد خروجها تسأل عنه فتعلم أنه مات في سجنه ،
تلملم جراحها و تتزوج أكبر الذي يبوح لها بمشاعره و يلح في ذلك ، و تغادر إيران مع
زوجها و ابنائها بإتجاه اسطنبول ، بعد عشرين عاماً يطلق سراح ساحل و يبدأ رحلة
بحثه في ماضيه .
في صورته البسيطة لا
يمثّل هذا العمل بأي حالٍ من الأحوال فيلم سيرةٍ ذاتيةٍ لشاعرٍ مجهول قهره جحيم
السجن لثلاثة عقود ، هو في صورته البسيطة قصة حبٍ على خلفية التغيرات السياسية
العميقة التي أحدثتها الثورة الإسلامية في إيران ، و في صورته الأوسع هو نظرةُ شاعريةُ من
عيني شاعر على المحنة العظيمة التي عاشها بين نزوة حقدٍ شخصية قلبت
حياته رأساً على عقب و وضعٍ سياسي جديد قلب بلاده رأساً على عقب ، لكن بالطبع دون
إغفال التعامل مع الهوية الكردية الذي كان ديدن بهمان غوبادي في سائر أفلامه الستة .
في هذا النص يقدم بهمان غوبادي
رجلاً خسر كل شيءٍ في حياته ، بالمعنى الحرفي للكلمة ، خرج من سجنه بعد ثلاثين
عاماً ، دون مأوى ، دون عمل ، دون تاريخ ، دون مستقبل ، دون بلد ، دون عائلةٍ أو
أصدقاء ، لكن رفقة شيءٍ واحدٍ فقط : الذاكرة ، و هي هنا ليست مجرّد ذاكرة ، إطلاق سراح شاعرٍ بكل
ما يملكه الشاعر من حسٍ و ذاكرة بعد ثلاثين عاماً من الظلم ربما هو أشد قسوةً من
السجن ذاته ، هل ينسى ؟ هل يتخلى عن ماضيه ؟ ، هل يعلم تماماً بحقيقة ما جرى له ؟
و هل يغفر لو علم ؟ نعم هي ذاكرة شاعر ، تلتمس ما نعجز نحن عن التماسه ، تبقيه
حياً برغم السنوات و وطأة الجرح ، و ذاكرته هذه تتوازى مع فضوله ، تماماً مثل Oldboy ، فضول تجاه اسئلةٍ
كثيرةٍ بحاجةٍ لإجابات ، ما الذي جرى في غيابه ؟ ، أين ذهبت مينا ؟ ، هل أنجب ؟ ، و الأهم من كل ذلك : من كان وراء كل هذا ؟!
مع حكايةٍ كهذه يكون
التجسيد الدرامي بحد ذاته مفجعاً ، لكن الصورة الشاعرية التي ينتهجها غوبادي في
فيلمه تخفف كثيراً من فجاجة ذلك التجسيد ، لكنها تزيده بالمقابل حرقةً و قسوة ، أنت
تتأمل و تمعن في تأمل الوجع و هو يرسم على الشاشة ، النص بالرغم من تراجيدية تلك
الحكاية لا يقدم نفسه كعملٍ عن الحبكة ، و إنما عن الطريقة التي ترى بها شخصية
الفنان و رهافة حس الشاعر حجم المأساة التي تعرضت لها ، كل لوحات النص المرصوفة
إلى جوار بعضها هي إنعكاسٌ للطريقة التي يتأمل بها و يتجول بها ساحل في
دواخله ، لا ينهج النص نهجه الشاعري الصامت في معظمه تجنباً لحوارٍ قد يفقده بعضاً
من قيمته بقدر ما هو ينهج ذلك تماشياً مع القيمة الفنية للشعر كوسيلةٍ و كأدواتٍ
تعبيريةٍ / بيانيةٍ / تصويريةٍ / رمزيةٍ / مؤثرة ، معالجة النص لمحنة ساحل فرزان
فاتنةً جداً ، حتى و هو يحقق إنتقامه يكون الفيلم شاعرياً في ذلك ، صحيح أن ذلك
يكون مفرطاً في بعض المواضع التي تهز من قيمته بالذات عندما يتعامل مع الشخصيات
الأخرى في الفيلم ، كما هو الحال في محاولة تجاوز الإبتذال في تشكّل العلاقة بين ساحل و
المومسات و التي تبدو هشة التوليف مع الجرعة الشاعرية العالية في الفيلم بالرغم من
أنها قابلةٌ للتصديق ، خصوصاً و أن النص لا يحاول أصلاً أن ينساب و لو قليلاً خارج
ذلك النفس الشاعري الصامت في تعامله معها ، و بالتالي يبدو حزن الشخصيات الأخرى بالنسبة
لنا محمّلاً بذات العبق الشاعري لحزن ساحل و صمته بالرغم من التباين الشديد في التركيبة النفسية
لشخوص الحكاية ، مع ذلك فعظمة الصورة تخدمه كثيراً في الحفاظ على ايقاعه و ربما
تخدير المشاهد تجاه ذلك التعامل الشاعري الفائض أحياناً ، و هذا في اعتقادي نابعٌ
من حميمية الحكاية بالنسبة لغوبادي نفسه ، الكثير من تأملات ساحل الشعرية هي
إنعكاسٌ لغوبادي ذاته ، يبدو في منفاه التركي و كأنما يستذكر بأسى –
كما يستذكر ساحل – ماضيه و أعماله السينمائية ، تلتقط كاميراه القطط في
شوارع اسطنبول و كأنما يستذكر فيلمه الخامس No One Knows about
Persian Cats ، نشاهد بطله يتأمل سلحفاةً تحاول استعادة وضعيتها في يومٍ ماطر و كأنما يستذكر
فيلمه الثالث Turtles Can Fly ، ثم نشاهد حصاناً يدخل رأسه في سيارة ساحل و كأنما بغوبادي يتذكر
فيلمه الأول A Time for Drunken Horse ، بحث ساحل عن الإنعتاق في رحلته نحو إسطنبول هي إنعكاسٌ لرحلة
غوبادي ذاته الذي أبعد – اختيارياً - من بلاده لجرمٍ لم يرتكبه
قبل أن يستقر في تركيا التي أنتجت له فيلمه هذا ، إحساسُ غوبادي
بالحكاية عالٍ جداً ، يبدو أكبر بكثير من احساس سيناريست بقصةٍ حقيقيةٍ قرر
تحويلها إلى فيلم ، و هذا لا يتوقف عند غوبادي ، هالني جداً - عندما حاولت أن أعرف القليل عن بطل الفيلم
بهروز وثوقي - اكتشاف المسيرة العظيمة التي حققها الرجل في
السينما الإيرانية قبل الموجة الجديدة و التي كان واحداً من أهم أساطيرها و حقق
لها 90 فيلماً قبل أن يغادر البلاد مع الثورة الإسلامية الإيرانية و يكتفي بأدوار صغيرةٍ لا تليق
بقيمته ، هنا فقط أدركت ما الذي كان يعنيه بهمان غوبادي عندما قال أنه استلهم فيلمه هذا من محنة ثلاثة
أشخاص ، و استلهام بهمان غوبادي لمحنة صادق كامنغار بكل ما فيها من تقاطعاتٍ مع محنته الذاتية و
إسناد الدور بالذات لبهروز وثوقي هو ذروة ما يمكن أن يناله فيلمٌ كهذا من سطوةٍ و تأثيرٍ
في المشاهد ، الفيلم يقول الكثير دون أن يتكلم ، لا يحتاج لأي رسالةٍ سياسيةٍ ليهجو
ما حصل لهذا المثلث ، و لا يحاول أصلاً أن يقوم بشيءٍ من هذا القبيل ، خلفية
حكايته بحد ذاتها أبلغ من أي رسالة ، و تأملنا لبهروز وثوقي بشعره
الأبيض و صمته المطبق أبلغ من أي شيء ، نراه موجوعاً ، كثير الشرود ، مشوشاً ،
لكن رغبته تجاه ماضيه يقظة ، حتى عندما يمضي بنا النص تجاه النهاية التي تبدو إنتقامية
– على خلاف ما يوجّهنا النفس الشاعري طوال الفيلم – يثبت لنا أنه لا يهتم برغبات
رجلٍ قضى ثلاثة عقودٍ في السجن قدر اهتمامه بنظرة ذلك الرجل للعالم بعد كل تلك
المدة ، و على هذا المستوى هو ينجح جداً في ذلك .
نجاح الفيلم الأهم
برأيي هو تجسيد شاعرية النص الصارخة بصرياً ، هنا بالذات يثبت بهمان غوبادي أكثر من
أي مرةٍ سابقة أنه الأكثر شاعرية و الأكثر خصوصيةً على الصعيد البصري بين كافة أبناء
الجيل الثاني من الموجة الإيرانية أمثال ماني حقيقي و بابك بيامي و رافي بيتس و أصغر فرهادي حتى لو اختلفنا على مكانته بينهم ، صورة الرجل لا
تضاهى ، سلاحه الأول في ذلك هي كاميرا تورجاي آصلاني التي تتفهم جداً شاعرية القصة و تختزل اللون بشدة
و توازن الظلال و ضوء الشمس بطريقةٍ تعكس نظرةً شاعريةً حميميةً من عيني رجلٍ قضى
ثلاثين عاماً بعيداً عن ضوء الشمس ، التصوير هنا سحرٌ حقيقي ، عندما تلتقط السجن
تجعله جحيماً حقيقياً خارجاً من قصةٍ من قصص القرون الوسطى أو لوحةً من لوحات أمير بلاد فارس
، ثم لقطة وراء لقطة و كادراً إثر آخر ، و كأنما خرج ساحل فرزان من سجنه
ليدعونا إلى معرضٍ تشكيليٍ يتناول صوراً من حياته ، لا تدرك بعد هذا العيد البصري كم لقطةً عظيمةً هنا ؟!
، كم كادراً لا ينسى ؟! الكثير و الكثير ، حتى عندما تشعر في بعض
المواضع بأن العمل تحوّل بهدفه إلى درسٍ تصويريٍ في طرق التعبير البصري أو امتلاك
اللقطة يبقى لديك الإحساس بعظمة ما تقدمه الصورة قوياً و غامراً مهما حدث ، واحدٌ
من أفضل أعياد الصورة في عام 2012 .
فيلم بهمان غوبادي
السادس هو عملٌ للذكرى ، إفراطه الشاعري الذي يسلبه جزءاً من جمال معالجته يخفت
أمام القيمة الجمالية الرفيعة لحكاية الماضي و الذاكرة التي تغازل خيال شاعرٍ جريح
خصوصاً مع أشعاره التي تتناثر علينا مضفيةً من خلال صوت الراوي قيمةً جماليةً
مهمةً للفيلم ، أدواته التقنية نصرٌ حقيقيٌ لسينما 2012 ، مشاهدة مونيكا بيلوتشي
في أكثر أداءاتها نضجاً و أكثر ملامحها تعباً قيمة اخرى تضاف لها و له ، و مشاهدة
اكثر أعمال بهمان غوبادي خصوصيةً في اكثر حالات فتنته البصرية سطوةً و
تأثيراً هو أمرٌ يستحقٌ فعلاً ، سينما !!
التقييم من 10 : 8.5
0 تعليقات:
إرسال تعليق