•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الثلاثاء، 19 مارس 2013

Chungking Express

كتب : عماد العذري

بطولة : توني ليونغ ، بريجيت لين ، تاكيشي تانيشيرو
إخراج : وونغ كارواي

العديد من مشاهداتنا السينمائية في الواقع يعود بشكلٍ أو بآخر لتأثرنا بآراء غيرنا و انطباعاتهم تجاه أفلامٍ بعينها ، سواء كان هؤلاء الأشخاص نقاداً أو متابعين أو مجرد مشاهدين عاديين. وعلاقة الرغبة بمشاهدة فيلمٍ ما نابعةٌ في جزءٍ منها من علاقتنا بذوق الآخر ورؤيته. لذلك تغرينا أكثر تلك الأفلام التي يتأثر بها من تروق لنا مفضلاته السينمائية أو يعجبنا فيه ولعه الشديد بالسينما. على هذا يمكن لكم أن تتخيلوا تأثير فكرة أن شخصاً مثل كوانتن تارانتينو بكى (منبهراً بالسينما) أثناء مشاهدته الأولى لهذا الفيلم !

تارانتينو يحب سينما وونغ كارواي وهو يبوح بذلك دائماً ويعترف بمدى تأثير فيلميه الأولين على سينماه وكيف استمر ذلك التأثير مع بقية أفلام كارواي ، لذلك لم يكن مستغرباً أن قام الرجل بتقديم العمل الإخراجي الثالث للمخرج المغمور لدى جمهور السينما في هوليوود. كان الأمر أشبه برد الجميل لذلك التأثير والعشق والهوس الذي يحمله الرجل للمخرج الصيني الشاب. ويبدو أن رد الجميل كان فعالاً ويستحق التذكر. لم يكن الفيلم في أجندة كارواي أساساً وإنما مجرد إستراحةٍ عابرة من الجدية التي رأى كارواي بأنها طبعت فيلمه الجديد Ashes of Time لذلك استغل فترة توقف التصوير فيه لظروفٍ إنتاجية وقام بتصوير اسرع أعماله. فوراً وعلى مدى 23 يوماً متصلة. كان يكتب المشاهد نهاراً ويصورها ليلاً أو العكس. لم يكن الرجل يعلم أن هذا العمل سيغري مخرجاً أمريكياً يعشق فن كارواي على التقاطه رفقة الفيلم التالي Ashes of Time لتقديمه للجمهور الأمريكي. وحتى لو علم كارواي بذلك لم يكن ليخطر بباله أن الفيلم سيغدو ربما أكثر أفلامه شهرةً وتأثيراً حتى يومنا هذا .

في هذا الفيلم يعرض لنا كارواي قصتين مختلفتين عن شرطيين في هونغ كونغ يجمع بينهما مطعمٌ للوجبات السريعة يدعى Midnight Express (تيمناً ربما بفيلم آلان باركر). في القصة الأولى يكافح الشرطي 223 لتقبل فكرة انفصاله مؤخراً عن حبيبته ، ويحاول التأقلم مع الفكرة بصعوبة وأحياناً بنصائح من مالك ذلك المطعم ، قبل أن تظهر في طريقه امرأةٌ غامضةٌ تدير بعض أعمال الجريمة. في القصة الثانية يعاني الشرطي 633 الهجر العاطفي الذي يعيشه مؤخراً مع عشيقته مضيفة الطيران ، يحاول أن يجد تعويضاً عن ذلك غير مدركٍ للألفة الغريبة التي تشعر بها تجاهه فتاةٌ لطيفةٌ تعمل في ذات المطعم .

هذا الفيلم يقدم واحداً من أفضل السيناريوهات التي صوّرتها السينما ! يتلاعب فيه وونغ كارواي بحريةٍ مطلقةٍ في البنية التقليدية للسرد دون حواجز أو قيود ، وهذا كان أمراً غريباً وغير اعتياديٍ اطلاقاً خصوصاً لفيلمٍ قادمٍ من هونغ كونغ في فترةٍ كان كل المنتظر من سينما تلك المنطقة هو أفلام الأكشن والإثارة التي طغت في الثمانينات والتسعينيات. كارواي كسر تلك القوقعة. لم يرسخ من خلاله صورته كمخرجٍ مهم على الساحة العالمية ، وإنما رسخ خصوصيته هو ضمن مخرجي آسيا من خلال الحكايات المختلفة التي يسردها عن الحب والذاكرة والعزلة والأزمات العاطفية في المجتمع المعاصر ضمن عالمٍ لا يصنعه سواه. وهو هنا يقدم ذلك في أكثر صوره بريقاً. قيمة هذا النص برأيي تكمن في هيكله العام وليس في تكنيك السرد بمفرده أو في بناء الشخصيات بمفرده. ادراك التجربة الإنسانية وتقاطعاتها اليومية من خلال العدد الهائل من الشخصيات التي تتصادم ببعضها في هذه الحياة كل يوم، حيث كل قصةٍ تنزلق من الماضي الى الحاضر نحو المستقبل. من بين ذلك العدد الهائل من القصص هناك بالتأكيد قصتان متشابهتان تجمعهما نقطةٌ زمنيةٌ معينة ونقطةٌ مكانيةٌ معينة ! المكان هو ذلك المطعم والزمان هي تلك اللحظة التي تلتفت فيها فاي لترى 223 يقف وراءها للحظة بينما 633 يقف هناك بقرب المطعم ! يلغي كارواي من خلال حكايتيه حاجتنا للنتائج ولمعرفة الى اين مضت تلك القصص. هو يركز فقط على كيفية حدوثها وعن مقدار ترابطها مع عشرات التجارب الأخرى. وبالتالي لن يهمنا كثيراً كيف تسير القصتان قدر اهتمامنا باستخلاص عمق التجربة الإنسانية التي تعاد في ظاهرها وتختلف في عمقها .

في القصة الأولى التي تستمر على الشاشة لأربعين دقيقة ينفصل 223 عن حبيبته بعد خمسة أعوام. تركته في الأول من أبريل ، واعتقد لوهلة أنها كذبة أبريل ، ثم لما أدرك ما جرى ترك مجالاً للعودة حتى يوم عيد ميلاده في الأول من مايو. خلال ذلك واظب على شراء مأكولها المفضل : معلبات الأناناس ! كان يختار المعلبات التي تنتهي بنهاية المهلة في الأول من مايو. أثناء ذلك تفشل المرأة ذات الشعر الأصفر في عملية تهريب مخدراتٍ ويترك لها الزعيم علبة سردين تنتهي في الأول من مايو للدلالة على الفرصة الأخيرة التي تمتلكها لإيجاد حلٍ لخطأها. يخبرك كارواي من خلال هذه الثنائية المرتبطة بذات التاريخ ألا تفكر في عناصر القصة ومنطقيتها قدر تفكيرك في الهيكل العام لها والتداخل الذي يحدث فيها والكيفية التي ترسم من خلالها. يصبح الأول من مايو نهايةً لكليهما أو ربما نهايةٍ لشطرٍ ما من حياتهما. و كارواي يقطع من حينٍ لآخر على صورةٍ مقربةٍ لساعةٍ تذكرنا بإقتراب الوقت. عشية الأول من مايو يلتقيان في الحانة ، آخر ما يمكن أن يفكر فيه المشاهد في هذه اللحظة أن من يجلس هناك هما شرطي ومجرمة ! يفشل 223 في صنع تواصلٍ حقيقي معها لكنه يقودها الى فندق عندما تتعب. يقضي الليل وهو يراقبها نائمةً ، ينظف احذيتها ، ثم يغادر ، وتصله رسالةٌ تيلفونيةٌ منها تتمنى لها عيد ميلادٍ سعيد. يقول (في الأول من مايو 1994 تمنّت امرأةٌ لي عيد ميلادٍ سعيد ، والآن سأتذكرها طوال حياتي ، لو كانت الذكريات تأتي معلّبة ، لكنت تمنيت ألا يكون لها تاريخ انتهاء). تمضي الشقراء وتقتل الزعيم وتترك له علبة السردين وتهرب ملقيةً بشعرها المستعار . هنا يظهر لك كارواي أن فيلمه هذا ليس عن الحب بصورته المعتادة. هو عن تلك الإنطباعات العميقة جداً التي تحدث بسبب أشياء بسيطةٍ جداً ، غير متوقعةٍ جداً ، وغير معتادةٍ جداً ، عند شعورنا بالإحتياج العاطفي ! كان لبقاً معها تلك الليلة وكانت لطيفة معه عندما تذكرت عيد ميلاده. تلك الأمور البسيطة جداً كانت عميقةً جداً في الإنطباع الذي تخلفه وراءها في تلك النهايتين المتداخلتين لمرحلتين مختلفتين من حياتهما .

في القصة الثانية التي تستمر لساعةٍ كاملة يعيش 633 الأيام الأخيرة في علاقة حب جمعته بمضيفة طيران. ما يقوم به في منزله هو محاولةٌ لإبقاء تلك العلاقة موجودة وحية وإبقاء الإقتناع بوجودها قائماً. لذلك هو يخاطب صابونته كيلا تفقد المزيد من وزنها، ويخاطب خرقةً مبلولةً كي تتوقف عن البكاء، ويناجي الدمى التي تتناثر في الشقة ويطمئنها من حينٍ لآخر ، حتى أنه يكوي ملابس عشيقته كي يبقيها دافئة. هنا حبٌ يحتضر. فاي (تؤديها مطربة البوب الصينية فاي وونغ) تلتقط ذلك. وما تفعله بالنسبة لها هو أشبه بحلمٍ تحول الى حقيقة. يبدو حلم اليقظة الذي يروادها أثناء عملها عن أن 633 اكتشف وجودها ذات يومٍ في منزله أشبه بصورةٍ لهاجسها هي تجاه عواطفها وتجاه حزنه. تريد أن تقوم بشيءٍ جيدٍ تجاهه ، ثم تجد في المفتاح القابع في تلك الرسالة المنسية فرصةً لتحويل حلمها الى حقيقة ، لذلك تزور الشقة اكثر من مرة حتى يكتشفها 633 فعلاً هذه المرة. يلتقط مشاعرها وعاطفتها تجاهه ، فيدعوها للخروج. في تلك الليلة لا تأتي ، تتركه مع بطاقة سفرٍ رسومية لمدة عامٍ واحد. تعود بعده هذه المرة كمضيفة طيران (صورة محبوبته السابقة) وتعود الى المطعم لتجده هناك يستمع لأغنيتها المفضلة. يخبرها أنها جميلةٌ في زي العمل كما أخبرته عشيقته السابقة ذات يوم في السوبر ماركت. يُريها بطاقتها التي عفى عليها الزمن فتمنحه واحدةً جديدة (إلى حيثما تريدين أخذي). مجدداً لا يقود كارواي مشاهده للإحساس بمنطقية أو تفسير ما يجري قدر اهتمامه بالتداخل والترابط الذي يولد بين شخصيتين في هذه الحياة ، والصورة التي ينسجان فيها قصةً من ملايين القصص التي تروى كل يوم. كارواي يقدم في القصة قطعةً أخرى عن اللا متوقع. عن المشاعر التي تتشكل بشكلٍ مفاجيءٍ بدفعٍ من أمور بسيطةٍ تأتي في الأوقات التي نحتاجها فيها تماماً. هو يجسد من خلال قصتيه صورةً مبسطةً وشبه خياليةٍ لخواص الحب البديهية : (عدم التوقع) و (المفاجأة) و (التقلب). الخواص التي تستمر وتتكرر وتعاد مراراً ودائماً وأبداً. ويجسد من ناحيةٍ أخرى نظرةً عن الحب الثاني (أو التالي على وجه الدقة) : الأبسط والأسهل والأكثر مفاجأة والأكثر عمقاً ربما من سلفه. ويجسد أيضاً الجوع الإنساني للعاطفة ، أي عاطفة ، مهما بلغت ومهما كانت ضمن مدروجها الواسع بين الاهتمام العابر والحب الجنوني، وكيف تضرب بعمقٍ في التجربة الإنسانية وفي التصادم الإنساني اليومي بين مئات الملايين من القصص التي تروى. كارواي يغذي ذلك التداخل في القصتين - كما سيعتاد لاحقاً - من خلال التفاصيل : العمل والمكان والطعام وزحمة المدينة والصدمة العاطفية والحاجة للتواصل والكثير والكثير من العزلة. تفاصيل لن تقف عند حدود هذا الفيلم بل ستمضي لتطبع سائر أعمال وونغ كارواي التي تلت هذا الفيلم.

أعظم ما يحققه وونغ كارواي من خلال هذا الفيلم هو خلق نهجٍ سينمائيٍ طازجٍ وحيويٍ ومختلفٍ تماماً في تقديم الفيلم الآسيوي للعالم. ربما حقق الرجل شهرته بعد شهرة مخرجين مهمين من هونغ كونغ مثل جون وو و تسو هارك ، لكنه بزّهم لاحقاً من خلال نهجه ذاك وأصبح ربما العلم الأبرز في في السينما الآسيوية على الساحة العالمية لأكثر من عقدٍ من الزمان رفقة جانغ يمو و هاو شو شن و كيم كي دوك و بيت تاكيشي كيتانو وإسمين أو ثلاثة في السينما الإيرانية. من خلال هذا النهج يختلف وونغ كارواي عن جميع أقرانه. لا يبدو بأنه يتمسك بالتقاليد لكنه يصبح أكثر عالميةً وانفتاحاً على عالمية السينما بمفهومها الحرفي دون أن ينطلق من الخصوصية التراثية لآسيا. وهو يجد في مدينته هونغ كونغ بيئةً خصبةً لذلك. لذلك تبدو قصصه - أكثر من جميع مخرجي آسيا – أكثر عالميةً وصالحةً لكل زمانٍ ومكانٍ ويمكن أن تتخيل أي شرطيين من أي بلد مكان بطلي هذا الفيلم. هذا التفصيل لم تختبره السينما الآسيوية كنهجٍ مكتمل وإنما مجرد حالاتٍ فرديةٍ نالت الإستحسان أحياناً وغيّبتها السنين أحياناً أخرى. و وونغ كارواي يرسخه هنا كنهجٍ وكبصمةٍ فريدةٍ وخاصةٍ لها مواضيعها الخاصة عن الحب والعزلة والذاكرة و لها خصوصيتها البصرية التي لا تخطئها العين.

هذه الخصوصية في الواقع تبدأ من النص. والمرأتان في الحكايتين (غربيتان) جداً كحال البيئة والمكان الموزاييكي الذي تختزله هونغ كونغ. يتشبع النص بروح الحياة الغربية في تلك المدينة قبل 3 أعوامٍ فقط على عودتها للبلد الأم. يجعل الرجل من البيئة شيئاً مغرياً عن طريق جعلنا نعايشه ونستوعبه ونصبح جزءاً منه ، ولا يعتمد على احساسنا بالمكان فقط ، تسود المشاهد الليلية في القصة الأولى والنهاريةٍ في الثانية لخلق توازٍ بصري لذات البيئة في فترتين مختلفتين من اليوم. يخلق كارواي أيضاً نقاط ربطٍ بصريةٍ كثيرةٍ بين القصتين حيث الألوان البراقة والزحام وأضواء النيون وأغاني البوب تملاً كل شيء. يحقق كارواي أيضاً نوعاً من الإنتقال التدريجي السلس بين الإيقاع السريع للقصة الأولى وذلك البطيء في الثانية ، مغذياً ذلك من خلال مجموعةٍ من أكثر المقطوعات الموسيقية بقاءًا في الذاكرة خصوصاً في الموسيقى الإفتتاحية التي لا أدري على وجه التحديد من أي كوكبٍ جاءت !

لعبة وونغ كارواي تلك بحاجةٍ – كعادته لاحقاً – لمهارة مصوره الاثير وأشهر مديري التصوير في آسيا الأسترالي كريستوفر دويل. عمله التصويري هنا قصةٌ بمفردها. خياراته البصرية حيويةٌ جداً وشاعريةٌ جداً في آن وتستثمر قيمة التصوير بالإضاءة الطبيعية في قصتين تطغى المشاهد الليلية على الاولى والنهارية على الثانية في معادلة بصرية صعبة. المشاهد الإفتتاحية للمطاردة هي من أكثر المشاهد التصاقاً بذاكرتي السينمائية. دويل يترجم روح الرؤية البصرية لوونغ كارواي من خلال عملٍ مكثفٌ جداً على كاميرا محمولة حائرة ومندهشة تستولي على الصورة وتمتلك المكان. في مقدمة الفيلم التي تجري في بيئةٍ مليئةٍ بالزحام والأعمال القذرة وتنوع الجاليات يولد دويل في المشاهد بصرياً ذات الإحساس بالوحشة والترقب والإزدحام والحاجة للإنسلال عبر الفراغات البسيطة الموجودة. وعندما تقوم الكاميرا بمطاردتها تأخذ المنظور التلصصي الإستراقي في التقاط كل تفاصيل العالم السفلي لهونغ كونغ. نجدها تطارد المرأة ذات الشعر الأصفر وتركض لاهثةً ورائها ثم تتوقف المرأة وتستدير فتتجمد الكاميرا وكأنما كشف أمرها ! يخلق دويل أيضاً من خلال عملية التعقب هذه ثنائية مدروسة بين الإلتقاط الصحيح والإلتقاط الخاطئ. عندما تقود المرأة - مثلاً - مستخدميها من العمال الهنود في المطار تتعقبها الكاميرا ثم تنفرد اللقطة لتأخذ المرأة - بمفردها - تمضي لتقديم التذاكر للموظف ثم تعود فتفقدهم ، يُفلت العمّال منها لأن الكاميرا انشغلت بها وتركتهم! هذه الثنائية تكاد تتكرر طوال النصف الأول لتصنع احساساً قسرياً من التلصص والمراقبة كحلٍ بصري يغني طغيان المشاهد الليلية على القصة الأولى. في القصة الثانية - الأكثر نهارية - يطغى الفضول على الصورة عوضاً عن التلصص والمراقبة ويتغير (سلوك) الكاميرا وفقاً لتغير السياق. كاميرا دويل - بتكرارية - تتأمل الشرطي من داخل المطعم ، وتتأمل فاي وهي تقوم بجنونها في شقة الرجل وتجن معها ، تهدأ عندما تهدأ وتراقب بفضول كل ما تقوم به. تلتقط الكاميرا فاي وهي تقوم بوضع السمك في الحوض بعيني طفلٍ صغير يقتله فضوله. هذا المسلك ينقل فضاء الفيلم المخنوق في النصف الأول والذي كان عبارةً عن محاولة انسلال بين الفراغات الموجودة في الصورة حيث المحلات والممرات والعالم السفلي لهونغ كونغ الى فراغٍ أوسع يزيده وونغ كارواي رحابةً من خلال توظيفه المكثف للتصوير عبر المرايا والإنعكاسات. من المهم أن أذكر أنني عشقت عمله في موضعين تحديداً لا يفارقان ذاكرتي. الأول هو استخدامه الفعال للـ Motion Blur في مشهد المطاردة الإفتتاحي والذي أعتقد أنه الإستخدام الأجمل له في كل ما شاهدت وهو يتجاوز بفعاليته ورسوخه صورته وأثره المهم مثلاً في قصة كايزر سوزي في The Usual Suspects بعد ذلك بعام. والثاني هو ترجمته البصرية للشعور بالزمن لدى 633 في مشهدين يدمج من خلالهما صورةً مسرّعةً للمجاميع بالـ Time-Lapsing تحتضن صورةً بالـ Slow-Motion لـ 633 الذي يفكّر في اللحظة وكأنما تطول أثناء بقائه هناك !

هذا الفيلم تجربةٌ سينمائيةٌ ممتعةٌ وعظيمة. لا يرسخ كارواي من خلاله فقط قيمته كمخرجٍ آسيويٍ مختلف على الساحة العالمية ، بل يختزل كذلك العلامات المسجلة التي ستطبع سينماه على الدوام حيث الكاميرا المحمولة والصور المنصّفة والـ Jump cuts والثيم البصري واللوني الذي أصبح منتمياً له والإستخدام المتكرر للـ Freezing في المفاصل المهمة للحكاية ، والإدارة الممتازة لأبطاله في شخصياته المنقسمة. هو هنا يولّف كل ذلك في اعظم صورةٍ ممكنةٍ ليجسد قصتين منفصلتين عن المشاعر ، تلك البسيطة والعابرة التي تجد طريقها في نفوسنا أكثر بكثيرٍ مما كنا نعتقد ، ليس لصدقها أو لعظمتها أو لشعور اللذة التي تصنعها وإنما فقط لأنها تأتي في الزمان والمكان المناسبين جداً ، وفي الظرف النفسي المناسب جداً .

التقييم من 10 : 10



0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters