كتب : عماد العذري
بطولة : جين هاكمان ، روي شريدر
إخراج : ويليام فريدكن
بين جميع الأصناف
السينمائية تبقى أفلام الأكشن و مطاردات رجال الشرطة أكثر الأفلام ارتباطاً
ببيئتها و أكثرها صلةً بالحقبة الزمنية التي ظهرت فيها ، و هذا يجعل من الصعب جداً
ربما تقديرها على الوجه الأكمل بعد مرور فترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ على اطلاقها ، و قلةٌ
تلك الأفلام التي انتسبت لهذا الصنف و كسرت هذا الحاجز بناءً على تقديم ما هو أعمق
و أكثر قيمةً من المفهوم المجرد و السطحي لفيلم الأكشن ، من ضمن تلك القلة يبرز
فيلم ويليام فريدكن هذا .
لا يبدو لي منطقياً
اطلاقاً التعامل مع هذا الفيلم من وجهة نظرٍ تنتسب الى هذه الحقبة ، و هذا ما يبرر
بالنسبة لي التدرج الواضح في تقييمه على مستوى المشاهدات الثلاث التي منحتها له ،
ما اختلف في الواقع بين تلك المشاهدات الثلاث هو الإدراك الذي يزداد وضوحاً لنوعية
الافلام التي قدمها هذا الصنف قبله و الطريقة التي استطاع بها أن يبدو مختلفاً
جداً عند ظهوره و مقدار الأثر الذي أحدثه في عددٍ من افلام الصنف بل و في نوعية
مسلسلات الشرطة التي اشبعت الشاشة الصغيرة على مدى اربعة عقود .
جاء فيلم ويليام فريدكن
هذا بعد 3 أعوامٍ على فيلمٍ يذكر الى جواره دائماً هو فيلم ستيف ماكوين
الشهير Bullit ، ربط الناس بين نوعية الأكشن الذي يقدمه كلاهما ، و خصوصية ضابط
الشرطة الذي يتصدر الصورة ، و مشهد المطاردة بالسيارة الذي يقدمه كلاهما و اللذين
أصبحا بمرور الوقت المشهدين الأشهر من نوعهما على الاطلاق ، علاوةً على ذلك اطلق
هذا الفيلم في العام ذاته الذي قدم فيه دون سيغل كلاسيكية رجل الشرطة الأخرى Dirty Harry ، كانت حقبةً ذهبيةً ربما لهذه النوعية من الأعمال ، مع ذلك يبقى هذا
الفيلم هو الأكثر تذكراً بينها ، رشح لثمان جوائز أوسكار عام 1971 و فاز بالخماسية
المثالية لفيلم الأكشن (أفضل فيلم و مخرج و ممثل و سيناريو مقتبس و مونتاج) ، و
مضى بعيداً في إرثه و أثره كواحدٍ من أهم و أجود أفلام نوعه ، حتى وضعه معهد
الفيلم الأمريكي في المرتبة الثالثة و التسعين لأعظم 100 فيلمٍ في تاريخ هوليوود .
يتناول فريدكن في هذا
النص الذي كتبه إرنست تيديمان عن كتابٍ لروبن مور قصة جيمي دويل و بادي روسو
الضابطين الميدانيين في شعبة مكافحة المخدرات بشرطة نيويورك ، و اللذين يحاولان
تقفي مصدر المخدرات القادمة من مكانٍ ما في اوروبا و التي تكتسح الشوارع الخلفية
للمدينة ، تتركز أنظارهما على مروج مخدراتٍ فرنسي يدعى آلن شارنييه و مساعده
بيير نيكولي ، و للوصول اليهما عليهما تعقب سال بوكا و
زوجته إنجي اللذين يشتبه بكونهما الطرف الأميركي لتجارة شارنييه ، و
عندما تثمر المراقبة عن خبرٍ متعلقٍ بشحنة هيروين ضخمة مخبأةٍ في سيارةٍ دخلت الى
نيويورك مؤخراً ، يصبح على الرجلين أن يستخدما كل مهارتهما في الإيقاع بالمشتبه
بهم .
أعظم ما في هذا النص
أنه يكسر الصورة النمطية للبطل في فيلم الأكشن ، هو هنا كالمعتاد
ذو مبادئ ، و ذو نهجٍ بطوليٍ واضح ، لكنه أيضاً يعمل بأساليب قذرة ، و يمكن أن
يكون عنصرياً ، و همجياً ، و عنيفاً ، و غير ملتزمٍ بالقواعد ، و مجنوناً اذا لزم
الأمر ، شخصية جيمي دويل هي واحدة من أهم شخصيات رجال الشرطة في تاريخ
السينما كله ، يظهر لك هذا النص التناقضات الواضحة التي تؤثر على كل ما يقوم به
الرجل في عمله ، يصور لك ألا وجود لرادعٍ أخلاقيٍ فيما يقوم به و هذا يُبقي نوعاً
من التوتر بين الوسيلة و الغاية و لا يجعلك تدرك الى أي مدى يؤثر فيه البعد
الأخلاقي للقيام بالواجب من خلال طرقٍ قد لا تكون أخلاقيةً أو رسمية ، بالمقابل هو
يتماشى مع ذلك التوتر و لا يظهر للمشاهد أن الرجل يقوم بما يقوم به لمحاربة
الجريمة بقدر ما هو يقوم به استجابةً للإستحواذ الواضح الذي يستولي به عمله عليه ،
هو يقوم بما يفترضه العمل ، و كأنما هو يهرب من فكرة البقاء دون عمل أو مهمة ،
لذلك هو يغمر نفسه في مهمته الى درجة الاستحواذ ، و النص لا يضع هذا بصورته
المجردة و غير المبررة ، بل هو يعزوه لماضيه الذي تسبب فيه بمقتل أحد زملائه ذات
يوم ، و هذا الماضي يبقى – ببراعة – في خلفية الصورة مما يمنح العمل ككل مذاقاً
أكثر واقعيةً مما لو تم الكشف عن ملامح ذلك الماضي بوضوح في أي حوارٍ في الفيلم و
قد يبدو النص ساذجاً نوعاً ما فيما لو فعل ، خصوصاً و أن الماضي بحد ذاته لا يهمنا
كحكاية بقدر ما يهمنا وجوده كعاملٍ مؤثرٍ في صلب ما يقوم به جيمي دويل ، هذا
يربط الصورة و الحدث ككل بحجم الأثر الذي يمارسه الماضي عليه ، هو يفني نفسه في
واجبه أكثر من كونه يلتزم به و يعمل على تنفيذه ، هذا التناقض الأخلاقي
للشخصية الرئيسية في فيلم الأكشن من غير السهل تمييزه و تقديره بالنظرة المجردة
للفيلم ، كان عظيم الأثر و مختلفاً جداً في تقديم البطل في فيلم الشرطة عن كل شيءٍ
آخر سبقه ، بالمقابل و على النقيض يبدو شريكه بادي روسو أكثر
التزاماً بالجانب الأخلاقي للواجب ، و أقل حديةً من شريكه ، و أكثر عملاً وفقاً
للقواعد ، لذلك يبقي النص على صراعٍ منسل و مدروس في خلفية المهمة بين الشريكين ،
يغمره بوضوح صراعهما المشترك ضد خصومهما ، و هو بالرغم من هذا الاختلاف بين شخصية
الشريكين لا يجعلنا نشك أبداً في كون شخصيتي البطلين هي شخصيةٌ جيدةً و ايجابية و
الخير فيها واضح ، هو يصنع محور الاختلاف في الطريقة التي ينظر بها كلاهما
للأمور و مقدار الحرية التي يمنحانها لنفسيهما من أجل تحقيق العدالة ، و هو
من خلالهما يمنح فيلم الشرطي عموماً الكثير من الانسانية على اعتبار أنه يقرن تلك
الحرية المتباينة بمقدار ثقة الشخصيتين بحدسها و توقعها و رؤيتها لما يجري ، و
بالتالي يجردها من الروبوتية التي كانت معتادةً في شخصية الشرطي قبل هذا الفيلم ، و
هو من خلال هذه الأنسنة يتجاوز الخط المرسوم للأفلام المماثلة في حقبته أو قبلها ،
فيبدو بالنتيجة أقل بطوليةً منها ، و أكثر واقعية ، و أكثر تشاؤماً و سلبيةً أيضاً
- خصوصاً على مستوى نهايته – و بالتالي يؤكد على أن قيمة فيلم الأكشن العظيم التي
تضمن ديمومته - بالرغم من وقتية و لحظية الصنف - تكمن في قيمة الشخصيات التي
يقدمها و عمقها و التناقضات التي تحكمها و تسيّرها ضمن هذه الحبكة المثيرة.
قيمة النص الثانية
بعد الشخصيات تكمن في نوعية و اختلاف الاكشن الذي يقدمه ، مطاردة القط و الفأر التي
ينسجها بالكثير من النار الهادئة و الحوارات المشبعة و التحولات الدرامية هي واحدة من أفضل المطاردات في تاريخ
السينما كله ، أعود في كل مشاهدة و اقر بذلك ، المطاردة التي يقدمها كانت شيئاً
غير اعتياديٍ اطلاقاً في زمانها ، و ما زالت ممتعةً و مثيرةً بعد أربعة عقود ، و
احساسنا بلعبة القط و الفأر عالٍ جداً بفعل النمط التلصصي الذي ينهجه النص في
تأسيس حبكته و تقليله قدر المستطاع من المواجهات المباشرة التقليدية في أعمالٍ
كهذه ، هو يشرك مشاهده في الأمر ، لذلك يغرينا بمتابعة الى اين سيمضي البطلان و
ماذا سيفعلان ، و يفاجئنا من حينٍ لآخر بالتحولات التي تصادفهما ، و عندما يقدم المطاردة
الشهيرة للقطار المعلق يضرب النص في جوهر شخصية جيمي دويل و يظهر
جنونها و هوسها الذي لا ينكر بما تقوم به و انعدام التزامها الاخلاقي فيه و مقدار
الخطر الواضح الذي تضع الآخرين فيه أثناء ذلك السباق المحموم بالسيارة فقط من اجل
ارضاء ذاتها و تحقيق هدفها ، هذا التزاوج بين عمق الشخصية و نوعية الأكشن الذي
يسخره النص من أجلها يفسر قيمة الفيلم كواحدٍ من أعظم أفلام الأكشن عبر العصور ، و
يبرر مقدار التأثير الذي أحدثه في صنفه و التقليد الذي انتهجته العديد من أفلام
النصف بعده في اقتباس روحه و خط الإثارة الذي قدمه ، على الأخص في سلسلة أفلام Lethal
Weapon و أفلام Serpico و The Fugitive و غيرها ، علاوةً على الأثر الذي أحدثه في السلاسل التلفيزيونية
الكثيرة التي ظهرت بعده و التي تناولت ثيمات الشرطة و التحقيقات و لعبة القط و
الفأر و أصبحت موضةً دارجةً حتى يومنا هذا ، و بعد هذا الفيلم بالذات أصبحت أفلام الأكشن
و أفلام الشرطة أكثر جرأة و أكثر سرعة و أكثر عنفاً من أي شيءٍ آخر شوهد قبل عقد
السبعينيات .
لتقديم ذلك النص
يستفيد ويليام فريدكن كثيراً من مرجعيته كمخرجٍ للأفلام الوثائقية و
يحوّل مدينة نيويورك الى ما يشبه أكبر موقع تصويرٍ في تاريخ هوليوود !! ، يدرك
فريدكن جيداً أن أفلاماً من هذه النوعية سرعان ما ستغادر
الذاكرة بعد بضع سنوات ، و يدرك أن الثقل البصري الحقيقي لفيلم الأكشن أو لفيلم
الشرطة يكمن في حيويته و اختلافه ، لذلك يعمل من خلال مدير التصوير أوين رويزمان
على جعل الكاميرا جزءاً من القيمة التعبيرية للفيلم و أكبر من مجرد اداةٍ لالتقاط
الحدث ، نراه يبدأ بالكاميرا المحمولة التي تتجول في أزقة مرسيليا
مانحاً الصورة مذاقاً لا يمكن نسيانه ثم يسير على الخط ذاته عندما ينقل الحدث الى
نيويورك و يبدأ مهرجانه التصويري هناك ، نراه يمنح الكاميرا مثلاً طابع مجاراة
الممثلين ، كما لو أن المصور يفاجأ بما يجري فيلهث لمتابعته ، ثم يعمل على تصوير
مطاردات الركض بكاميرا محمولة على سيارة ، و يعمل في المطاردات على
البداية بلقطةٍ واسعةٍ ثم التدرج نحو لقطةٍ متوسطة تتوقف عندها الحركة كما تتوقف
موسيقى دون أليس الباعثة على التوتر ، ثم يمارس اللعبة معكوسة أثناء المراقبة
ليعطي كشفاً لمكان الحدث ، هذا يعطي احساساً عالياً بلعبة القط و الفأر ، علاوةً
على ذلك هو يستخدم كل ما هو متاحٌ أمامه لمنح الصورة قيمتها و ديمومتها ، فنراه
يصور عبر انعكاسات الزجاج لمنحنا الحس التلصصي ، و يلتقط التفاصيل بالمذاق
التوثيقي للكاميرا التي تقترب و تبتعد دون معيارٍ واضحٍ أحياناً ، و يلتقط الصورة
أحياناً من مستوى الأرض ليعطينا احساس التخفي ، و يستخدم الكاميرا الموضوعة على
مقدمة السيارة أو على مقدمة القطار لاعطاء شعورٍ هيتشكوكي فعال تجاه ما يجري ، هذا
فعال و يخدم احساس المشاهد بالأكشن و الإثارة أولاً و بالمكان ثانياً ، ربما هو
يحاول من خلال احساسه العالي جداً بالمكان / مسرح الحدث أن يصنع شيئاً مختلفاً عن
طقوس النوار التي طبعت الصنف منذ حقبة أمجادها في الاربعينيات و الخمسينيات و حتى
فترة اطلاق الفيلم ، دائماً هناك لقطاتٌ منفردةٌ للمكان و أحياناً من أكثر من
منظور تمنح مسرح الحدث قيمةً أعلى و تؤكد على قيمة كاميرا رويزمان التي
يدعمها جداً العمل الاوسكاري المقدّر للمونتير جيري غرينبيرغ من خلال امساكه بهذه المادة المصورة مرهقة التوليف و الحفاظ من خلالها على ايقاع و خط اثارة
الفيلم دون اهتزاز ، يصنع للمشاهد هدفاً واضحاً يسير عليه و يخدمها بكل تلك المادة
المصورة دون خطأ في الإيقاع ، لذلك لا يفقد المشاهد احساسه بالنص أبداً .
علاوةً على ذلك يبرع فريدكن في
صناعة المشهد ، و مشاهد كثيرةً أتذكرها دائماً من هذا الفيلم ، كمشهد القناص ، أو
مشهد المداهمة في الحانة ، أو مشهد تفتيش السيارة و حس الملل و اليأس الذي يراودنا
فيه كما يراود البطلين ، و الكلوس آب الرأئع على وجه جين هاكمان في منتصف
مشهد الحانة عندما ندرك انه التقط طرف الخيط في قضيته ، و مشهد مترو الأنفاق
الكلاسيكي الذي لا ينسى ، علاوةً طبعاً على مشهد مطاردة القطار الذي هو بالفعل
واحدٌ من الأفضل من نوعه ، دفع الإثارة التي يضخها فيه فريدكن واضحٌ و لا
مساومة فيه ، ينوع في تقديمه بين اللقطات القريبة و المتوسطة على وجه بطله و بين
اللقطات الواسعة للشارع و المارة ، و حس الحقيقية الملموس فيه ( صوّره جين هاكمان
بنفسه و في شوارع نيويورك و بطريقةٍ مفاجئة و دون اذن تصوير ) يجعله فريداً – و دون
جدال – عن أي شيءٍ مرّ قبله في تاريخ هذا الصنف .
روح العمل دون شك هو جين هاكمان
الذي يقدّم ربما الأداء الأفضل في مسيرته ، هاكمان حقيقي جداً في
الدور ، تبدو الشخصية جزءاً من روحه ، مظهره بحد ذاته يبدو عنيفاً و متجهماً و
بذيئاً و سريع الغضب ، عندما يتكلم أو يسأل أو ينفجر أو يداهم يبدو كشرطيٍ حقيقيٍ
يستحوذ عليه عمله و يوتر أعصابه و يدفعه لما يقوم به ، انجازه الأدائي عظيمٌ بالفعل
و لا أتذكر دوراً مماثلاً في فيلمٍ من هذا النوع حدث أن فاز بأوسكار أفضل ممثل .
بالنتيجة عندما يقال
بأن هذا العمل هو أول فيلم R-Rated يفوز بأوسكار أفضل فيلم
لا يبدو الأمر مستغرباً بالنسبة لي قياساً لمخرجٍ قدم أول فيلم رعبٍ على الاطلاق يرشح
لأوسكار أفضل فيلم ، لا أدري حقيقةً لماذا انطفأ ويليام فريدكن بعد
تحفته الأخلد The Exorcist ، بدى لي في عمليه هذين مطلع السبعينيات مخرجاً متمكناً و مدركاً جداً
لأبعاد الصنف السينمائي الذي يتعامل معه و يكسر من خلاله قواعده ، و هو في فيلمه
هذا يتجاوز الصورة النمطية لكل أفلام الشرطة و يقدم شيئاً غير اعتيادي على صعيد
التوازن بين التناول المختلف للشخصية و نوعية الأكشن الذي يقدمه وصولاً الى نهايةٍ
غير هوليوودية ، عندما أتحدث عن أفلام الأكشن التي تروقني فبالتأكيد هي من نوعية
هذا الفيلم .
التقييم من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق