كتب : عماد العذري
بطولة : ماكس فون سيدو ، بينت
إيكروت ، بيبي أندرسن
إخراج : إنغمار بيرغمان
منذ فترةٍ وأنا أفكر
في الكتابة عن بيرغمان ، أو بشكل أكثر دقة ببداية الكتابة عنه على اعتبار
أنني أرغب في الكتابة عن كل كلاسيكياته و ليس عن فيلمٍ واحد ، بيرغمان
بالنسبة لي يتجاوز المفهوم التقليدي لصانع السينما أو للمخرج المؤلف ، هو مزيجٌ من
النادر أن تجد له مثيلاً بين الحكواتي و الفيلسوف و المفكّر و الإنسان البسيط
موضوعين معاً في صورةٍ مجسدةٍ لمخرجٍ سينمائي ، أعماله الإخراجية هي مثالٌ
سينمائيٌ نادر على تجسّد التجربة الإنسانية للمخرج في التجربة السينمائية له و
انعكاساتها الواضحة عليها و تطورها الدائم معها .
و بما أنني قررت
الكتابة لم أجد ما هو أفضل من البدء هنا ، مع الختم السابع ، العمل
الإخراجي السابع عشر لبيرغمان و الكلاسيكية الأولى في مسيرة الرجل والتي لم يقدم
قبلها سوى عملين فقط يمكن الحديث عنهما ، مجرد قول ذلك يشرح إلى حدٍ بعيد كم
احتاجت أفكار الرجل و فلسفته و رؤيته الإخراجية للإختمار قبل أن تنتج لنا
الكلاسيكيات العظيمة التي قدمتها لاحقاً ، عمل الرجل منذ منتصف الأربعينيات و حتى
عام 1957 في أعمالٍ متوسطة المستوى و بالكاد يتم تذكرها عند استرجاع مسيرته ، قبل
أن يقدم هذا الفيلم الذي فعل على المسرح العالمي ما فعله فيلما Rashomon و Rome Open City و أكثر بكثير مما فعله
فيلمٌ من أفلام الموجة الفرنسية التي حققت دويها بجهود مخرجيها العظام أكثر من
كونها حققته بدوي عملٍ سينمائيٍ منفرد ، الأمر كان مختلفاً هنا ، أحدث هذا الفيلم
تأثيراً ثقافياً عظيماً على مستوى التأسيس لفنٍ سينمائيٍ مختلفٍ و أكثر عالميةً
خارج العباءة الهوليوودية المزدهرة عقب الحرب العالمية الثانية ، و نال لاحقاً اول تكريمٍ بجائزة لجنة التحكيم الكبرى
في كان الوليدة ذلك العام ، و الأهم أنه أسس بقوة لصانع سينما
مختلف قادم من السويد أثر كثيراً على العديد من صناع السينما من بعده ، صحيح
أنه يبدو الآن نخبوياً حتى بمعايير أفلام إنغمار بيرغمان ذاتها ، لكنه كان نقطة التحول الأعظم في مسيرة
الرجل و أحد أكثرها أهمية في مسيرة السينما الأوروبية التي كانت تعيش مرحلة
تحولاتها العظيمة في تلك الحقبة ، حقق بيرغمان من خلاله أيضاً مثالاً عظيماً على ظروف الإنتاج
المتواضعة التي تصنع فيلماً لا يتكرر خصوصاً و أنه أنتجه بتكاليف متواضعة و صوره
خلال 35 يوماً و اضطر حتى لتصوير رقصة الموت في ختامه مستخدماً طاقمه الإخراجي بسبب الإعياء
الذي أصاب ممثليه بعد يومٍ تصويريٍ طويل ، و بالرغم من أن الرجل قدمه في العام
الذي قدم فيه لاحقاً كلاسيكيته الثانية Wild Strawberries الا أن أثر الفيلم الأول لا يقارن بأثر الثاني بالرغم من أن بيرغمان
تناول فيهما – بمعالجتين مختلفتين - الفكرة ذاتها عن رجلين في الأمتار الأخيرة من
حياتهما يخوضان رحلتهما الإدراكية الأخيرة .
حكاية الفيلم عن
فارسٍ سويديٍ من القرن الرابع عشر يدعى أنتونيوس بلوك يعود متعباً إلى الديار بعد عشر سنواتٍ قضاها في
القتال في الحروب الصليبية ، يعود ليشهد الأثر الذي احدثته الحرب في النفوس و أثر
الطاعون الذي اجتاح المدن و فتك بالسكان ، تلك الصورة المأساوية تعزز شكوك بلوك بأن
الإله غير موجود لذلك لم يتدخل لوقف كل هذا ، يستيقظ في رحلة عودته على الشاطيء
ليعثر بالموت في رداءٍ اسود مهيب ، لا يستسلم له بل يتحداه في لعبة شطرنج : إذا
ربحها عاش ، و إذا خسرها سيسلم نفسه له .
ينتمي هذا الفيلم الى
الجزء الثاني من المرحلة المبكرة في سينما بيرغمان ، و هي المرحلة الي اهتم فيها كثيراً بمزج الدراما
الواقعية مع الخيال و المجاز و أسهب فيها السبر في العلاقة بين الرغبة و الفقدان و
الذنب و التكفير و تعرض فيها بشكلٍ مباشرٍ و صريح لمواضيع الموت و الروح و الخلود
و ما بعد الفناء و عبر فيها بشكلٍ صارخٍ عن شكوكه و أحياناً حتى عن الحاده الذي
أبقاه مطارداً برعب البقاء دون ايمانٍ و دون رب حيث كانت الحياة في انتظار الموت
أشد اخافة له من الموت ذاته ، و هي مرحلةٌ لم نتذكر منها ربما سوى فيلمين آخرين
سبقا فيلمي عام 1957 على اعتبار أن المرحلة الثانية ( المتوسطة ) في سينما بيرغمان كانت
أكثر بريقاً و جاذبيةً للمشاهد بسبب اختلاف معالجة بيرغمان لأفكاره التي
صارت أكثر حدية و ترتيباً و أقل مباشرةً في آن و هو ما جعل المرحلة المبكرة من سينما
بيرغمان تبدو غير قابلةٍ للتذكر بالمقارنة مع الفترة المتوسطة
التي أنتج فيها ثلاثية الصمت و ثلاثية جزر فارو و بينهما طبعاً تحفته العظيمة Persona .
هذا الفيلم الذي يبدأ
فيه بشكلٍ حقيقي شراكته طويلة الأمد مع ماكس فون سيدو و بيبي اندرسون هو التلخيص الأكثر وضوحاً للفترة المبكرة في
سينما بيرغمان حيث طغت مواضيع بيرغمان السوداوية عن
الطرق التي يتجلى فيها الإله للإنسان و التي تبدو طرقاً خفيةً و غامضةً لبيرغمان و
كانت سبباً في سخطه و شكوكه الدائمة ، و عن العقاب أيضاً و عن التفسير السيكولوجي
له كفعلٍ الهي يحاول الرجل وضعه في منطقٍ دنيوي ليفهم لماذا ينزل الله عقابه
بالإنسان و متى يرفعه عنه ، عنوان الفيلم يأتي من سفر الرؤيا و هو يلخص
كل ما يقوله الفيلم و كل التساؤلات التي يطرحها ، هو عن يوم الدينونة عندما يفتح الختم السابع
الذي تعقبه فترة صمت طويلة قبل أن ينزل الرب حكمه النهائي ، الفيلم عن فترة الصمت
تلك ، عن فترة الشك التي تراود الإنسان عندما يشعر بسوء كل شيءٍ في الحياة و عن
مغزى ذلك و عن فترة الصمت التي يرى فيها الإنسان أن الرب يراقب ذلك و لا ينزل حكمه
النهائي فيما يجري ، عن أمل الإنسان بخالقه في إنتظار الخلاص من كل ما يجري .
يفتتح بيرغمان فيلمه
بلقطةٍ مع الموسيقى لسماء مكفهرة مع شمسٍ محتجبة يعبر بها عن بطله ذاته و عن النفس
التي عاد بها من حربه الطويلة ، سوداء مع بصيص أمل ، ثم ينتقل بمونتاجٍ ذوباني الى
طائرٍ يحلق – و طبعاً في السيلويت – و كأنما هي روحه التي تبحث و تسعى و تتأمل ، هو
يؤكد هذه المعاني بقوةٍ من خلال التناقض البصري الواضح بين النور و الظلام و الضوء
و الظلال في تلك الإفتتاحية ، هذا بالطبع بفضل العمل التصويري العظيم لمصوره غونار فيشر
الذي يمهد بصرياً و بقوة لصراع الشك و الإيمان بطريقة بيرغمان المفضلة حيث البصر
هو انعكاسٌ دائمٌ للنفس في سينما بيرغمان لذلك يصر على تأكيد التناقض في الصورة بين الأبيض و
الأسود (الصارخ حتى بمفهوم فيلمٍ بالأبيض و الأسود) و يرى في الطبيعة خياراً
ملائماً له لذلك هو ينثره في كل شيء بما فيه لوح الشطرنج ذاته ليجسد بصرياً ذلك
الإنقسام الذي نحن على وشك التعرض له بين الشك و الإيمان و الإنكار و الوجود ، هذا
المعنى يزداد وضوحاً مع مشهد الصلاة على الشاطيء حيث تظلم زوايا الصورة و يبقي
بيرغمان الضوء مسلطاً على وجه فارسه ليرسم صورةً لخيط الإيمان الباقي لدى هذا
الرجل عندما اكفهر كل شيء لديه ، صلاته تلك هي مناجاةٌ للرب ليتكلم و يضع قوته و
جبروته فيما يجري ، يريد أن يهزم شكوكه من خلال ذلك .
عندما يواجه الفارس
الموت تبدو مجازية الحدث أبلغ من مبارزة الموت ذاته ، فالموت لن ينتظر لعبة شطرنج
كي يقبض روح أحد ، هي مبارزةٌ مع العائق الذي يبقيه الرجل بينه و بين الموت : الشك ، الموت
يبدو هنا صورةً مجازيةً للشك خصوصاً في فلسفة بيرغمان التي تبدو
أسئلتها الوجودية غريزة لدى الإنسان لا تتوقف الا بموته ، نرى الفارس يجيب لاحقاً عن
سؤال الموت له ( لماذا تستمر في سؤال أسئلةٍ أنت تعلم أنك لن تعثر على اجاباتها ؟
) فيقول ( لأنني يجب أن أفعل ) ، و الفارس عندما يواجه الموت و يتحداه في لعبة شطرنج مطلع
الفيلم يبدو و كأنما يؤكد المعنى البصري لإفتتاحية الفيلم حيث النفس المكفهرة بشكوكها
و بصيص الضوء الذي ينسل فيها ، لدى الرجل الكثير و الكثير من الشكوك حول وجود
الخالق في ظل كل هذا الموت الذي يعيث في البلاد ، لكنه مع ذلك يحتفظ لنفسه ببصيص
نورٍ يدفعه لأن يسال و يرغب في معرفة المغزى من صمت الإله تجاه عذاب عباده ، تلخيصٌ
واضحٌ لشكوك بيرغمان ذاته في تلك الفترة المبكرة من سينماه ، لذلك يبتهج
الرجل عند رؤية الموت أول مرة على خلاف ما يفترض ، هو يخبره و يخبر شكوكه المجسدة
فيه بأنه لا يخافه ، يقول له الموت ( كنت بجوارك على الدوام ) ، و هي عبارةٌ مجازيةً مزدوجة حيث
الموت كان بجواره في الحروب الصليبية و حيث شكوكه التي لا تهدأ لم تفارقه طوال تلك
الفترة التي اعتقد فيها بانه كان يحارب عشر سنواتٍ من أجل الرب ليعود و يجد بلاده
على وشك أن تفنى ، لذلك عليه أن يواجه شكوكه أولاً ( مجسدةً في صورة الموت ذاته )
و يتحداها و يهزمها ، و لذلك أيضاً هو يخبر الموت ( طالما أقاومك أبقى حياً ، و
إذا ربحت تحررني ) تبدو هذه العبارة أكبر من مخاطبة الموت بمعناه المجرد
طالما أن الموت لن ينتظر لعبة شطرنج لياخذ روحه و إنما هي مخاطبةٌ للشك ذاته الذي
يفتك بالإنسان في وضعٍ كهذا و الذي يتجلى هنا من خلال خاتمة صوره : الموت ، هو
يرى في استمرار مقاومة شكوكه حياةً و بقاءً ، و يرى في استسلامه لها و انهياره
امامه موتاً قبل قدوم الأجل ، لذلك يلعب لعبته مع الموت ، و اللعبة هنا ليست جديدة
و لوح الشطرنج موضوعٌ إلى جواره من قبل رؤية الموت و فيه لعبةٌ سابقةٌ ، الرجل
يلعب هذه اللعبة منذ بدأت شكوكه ، و هو يلعب مباراةً جديدةً مع الموت هنا لأنه
الصورة الختامية لتلك الشكوك ، و التجلي الأخير بالنسبة له لوجود الرب و العقاب و
ما بعد الموت ، لذلك تستمر رحلته مع الشك طوال الفيلم ، و تستمر لعبة الشطرنج مع
الشك طوال الرحلة و لا يُلعب منها الا بضع نقلاتٍ فقط كل مرة .
في هذه الرحلة سيحاول
الفارس الإنتصار من خلال المعرفة ، و بحث الرجل طوال رحلته لن يحوم حول الجزء
الإيماني و إنما حول الجزء المعرفي ، لذلك لا نراه يتلو شيئاً أو يصلي او يتبتل
أثناء رحلته ، رحلته تحوم حول المعرفة ، المعرفة وحدها تدحض شكوكه ، لذلك يمضي الى
الكنيسة ، لا يذهب ليعترف أو يصلي بل يذهب ليسال أسئلته الوجودية ، لكن الموت يخفي
نفسه في شكل قس ليستمع لإعتراف الفارس ، يخبره الفارس أنه يريد من خلال المعرفة
ضماناً ، يريد دحضاً للشكوك ( اريد المعرفة ، لا الإيمان ، و لا الشك ، و إنما المعرفة ) ،
يريد من الهه ان يكلمه و يريه قدرته فيما يجري ، يرى أن وجود الموت دون معرفة شيءٌ
قاتل لكل ما هو حي ، مجرد معرفة أن كل شيءٍ يؤول إلى لا شيء تفتك به ، لذلك
فتساؤلاته هي ليست عن الموت و إنما عن الخوف منه و مما بعده ، تساؤلاته ( إذا لم يكن الخالق
موجوداً فالحياة هي سلسلةٌ عديمة المعنى من المعاناة ) ،هو يبحث عن السبب و المغزى
و عن قيمة أن تعاني و تصمد و تكافح على أمل زوال تلك المعاناة ، يحاول من خلال
معرفته الدنيوية ادراك ما هو لا دنيوي ، هو في هذا المشهد يخاطب شكوكه الدائمة
التي رافقته منذ زمن ( يجسدها الموت هنا ) و يعترف لها بأن له استراتيجيةً
لهزيمتها من خلال الفارس و الحصان ، تبدو هي اشارةً لذاته هو كفارسٍ له حصان و
قد يكون لها معنىً آخر في مكانٍ آخر من الفيلم ، المهم أنه بمجرد أن يخبر الفارس
خصمه بإستراتيجيته لهزمه يكشف الموت عن نفسه و يخبره بأنه خدعه ، مشهدٌ فيه جلالٌ
رهيب ، يوظف بيرغمان بفعالية السياج الفاصل بين الرجل و شكوكه لحظة
الإعتراف و لعبة الضوء و الظلال و الشك و الإيمان ليجعل من اللحظة التي تكشف فيها
تلك الشكوك عن عزمها الفتك به لحظةً مهيبة بحق .
في رحلته مع تابعه يينز يزوران
مزرعةً يمسك فيها يينز برجلٍ يدعى رافال يحاول سرقة ضحيةٍ من ضحايا الطاعون ، يكشف عن وجه رافال و يتذكر
فيه رجل الدين الذي أقنع بلوك بالإنضمام للحرب الصليبية ، يرى يينز أن ذلك القس هو
رسالةٌ من الرب ، كانوا راضين جداً بحياتهم ، كانوا أغنياءَ جداً ، لكن قناعاتهم
الدينية أفسدت حياتهم عشرة أعوام و أفسدت بلادهم من ورائهم ، ليعيث الوسيط الديني
( كما يراه بيرغمان ممثلاً في الكنيسة و رجالاتها ) فساداً في الأرض ،
صورةٌ لقسٍ أصبح لصاً يسرق الموتى و لا يلبث أن يعاقبه بيرغمان فيجعله يصاب
بالطاعون قرب ختام الفيلم ، تعززها صورةٌ أخرى يسخر فيها بيرغمان من كل ما
يمارس بهتاناً بإسم الدين ، و لكل وسيطٍ ديني بين الإنسان و إلهه ، هو يبدأ ذلك
بالحديث الساخر بين يينز و رسام الجداريات في الكنيسة ، ثم يعزز ذلك من خلال
الصورة القاتمة للجلادين ( و هي حركة حقيقية سادت في العصورة الوسطى ) و الرعب
الذي نشروه بإسم الدين في تلك الحقبة ، هو ينقد فيهم ليس مجرد العنف و الرعب الذي
أكلوا به لحوم البشر في ذلك الزمن ، بل الطريقة التي سيطروا بها على العقول و
حاولوا فيها تفسير كل شيءٍ بما يجعلهم في موقع القوة من خلال حديثهم عن البلاء و المحنة
و العقاب و غضب الرب (ممثلاً بالطاعون هنا) و عن النقمة التي حلت عليهم بسبب شابةٍ اتهمت بإقامة علاقةٍ مع الشيطان و طقوس التطهير التي يقومون بها في جولاتهم ، و هو
تأثيرٌ تراه بوضوح في أفكار و معتقدات الناس الذين نلتقيهم في الحانة .
في هذه الصورة يظهر يوسف و زوجته ماري ،
الممثلان الجوالان اللذان يسافران في البلاد رفقة إبنهما مايكل ، رؤية يوسف التي
يراها لمريم العذراء و المسيح توفر علينا وضع التصور الذي يراه بيرغمان فيهما
، يجسد فيهما صورةً لما يعرف بالعائلة المقدسة ، يوسف و مريم و المسيح ، هما
على النقيض تماماً من بلوك سعيدان و مبتهجان و ودودان جداً ، هما بهجة الصورة
الوحيدة في الفيلم ، على خلاف بلوك الذي يجاهد للعثور على الهه داخلياً و يرى أنه شاهد أسوأ
ما في البشرية لكنه لم يجد مقابلاً لذلك ، يوسف و ماري أكثر ابتهاجاً و أملاً لأن لديهم ما يؤمنون به ، تسعدهم
رؤية العذراء و المسيح ، هم هنا الجزء الإيماني الخالص في القصة و الذي يعترض
مسرحيتهم موكب من رجال الدين و الجلادين ( كنايةً لدى بيرغمان عن التفريق
بين نوعين من المؤمنين ) ، تقول ماري بأن يوسف يطمح بأن يصبح مايكل ممثلاً و بهلواناً عظيماً ، بينما تأمل هي أن تراه
فارساً ، ربما يشير هنا بيرغمان مجدداً للفارس و الحصان في إستراتيجية قهر الشكوك ، هذه
العائلة يلتقيها بلوك في رحلته ، تأسره حياتهم البسيطة و سعادتهم التي لا
يفهمها ، يوسف و ماري و مايكل يعيشون على نقاوة الفطرة و على قوة الطبيعة ذاتها ، لذلك
يقدمان له وجبة الطبيعة ( الحليب و التوت البري ) ، و لذلك يشعر بالسلام و الصفاء معهم ،
يختزل شكوكه الدائمة لهم عند حديثه عن زوجته التي لا يعلم بمصيرها ( في الإيمان يجب أن
تعاني ، كما لو كنت تحب شخصاً في الظلام و لا تجد منه رداً ابداً ) ذات
الشيء الذي يستشفه من إيمانه بربه - الذي لا يراه - دون أن يجد جواباً او رداً على
ما يراه الآن ، و لهذا يغريه نموذجهم الإيماني و تصالحهم مع ذاتهم و انصياعهم
للفطرة ، يدعوهم لمرافقته و يخبرهم و هو يتناول الحليب بأنه سيتذكر هذه اللحظات
للأبد ، يبدو بيرغمان من خلالهم و كأنما يجسد صورةً للإيمان البسيط الخام
الخالي من الشكوك و النابع قبل كل شيءٍ من الذات و من رغبة التقبل و الإقتناع ، في
جولة الشطرنج التالية للقائهم يواجه الفارس الموت بسعادة ، و الموت
يندهش لذلك ، يسمح بلوك للموت بأخذ فارسه ثم يخبره بأنه خدعه و أن ذلك كان
مقصوداً ، هنا يسأله الموت : هل رافقت يوسف و عائلته الليلة ؟!!
يحمل الفارس يوسف وعائلته
معه في رحلته يرافقهم حدادٌ متذمر و زوجة خائنة و شابة مذعورةٌ و صامتة ، شخصياتٌ
قلقةٌ و متذمرةٌ و خائفةٌ من كل ما يجري ، هي لا تختلف عن بلوك وتابعه يينز في شيء
لكنها تقف في مراحل مختلفةٍ من الشكوك و الخوف و القلق ، في الغابة يلتقي الفوج
بقافلة الحرق التي تقود الشابة الشيطانية الى حتفها ، لامها رجال الدين و اتهموها
بأنها كانت السبب في الطاعون ، يوقفها الفارس ليسألها آخر أسئلة الشك : هل فعلاً كان لها
علاقةٌ مع الشيطان ؟ و هل هو يعرف الرب ؟ ، تطلب منه أن يرى الجواب في عيونها فلا
يرى الا الفراغ و الخوف ، يتابع بيرغمان طرحه للأزمة الوجودية لدى بطله الباحث عن إجابةٍ
ماديةٍ لأسئلةٍ روحانية ، لذلك لا يعثر على جوابٍ لأسئلته لا في عيني الفتاة و لا
في أي شيءٍ آخر في رحلته ، وحدها الذات و الروح و الإعتقاد و الأمل ما يجيب عن
أسئلةٍ كتلك .
في جولته الأخيرة
يبدو و كأنما قد ازدادت ثقة الفارس بنفسه ، لم يعد يكترث للعبة ، هو يعلم أنه على
وشك ان يستسلم للموت ، أو لشكوكه بالمعنى المجازي ، يتقصد قلب الأحجار في رقعة
الشطرنج لإلهاء الموت بينما يفر يوسف بعائلته من ورائهم ، و هو فعلاً يتيح لهم ذلك ، لذلك تنجح
تلك العائلة بسيطة الإيمان و التي لا شكوك لها في مراوغة هذه الصورة المجازية
للموت ، يبدو الفارس هنا و كأنما يحقق مراده عندما طلب التأجيل من الموت كي يقوم
بشيءٍ ذي معنى قبل استسلامه ، نحن لا نعلم ما هو في الواقع و هذا سحر النص ، لكننا
نتفهم أنه الشيء الذي تجد فيه قيمةً لروحك ، و ربما يكون في انقاذه ليوسف وعائلته
تحقيقٌ لذلك الفعل ، هو من جهة يبدو تجسيداً لأقوى أفعال الخالق في خلقه : الحب و الخير و القدرة على
التضحية و العطاء ، و من جهة يكون فعل الإستسلام ذاته إقتناعاً أيضاً بأن
الموت هي طريقةٌ يكلمه الله من خلالها و هي رد الخالق على تساؤلاته و إثباتٌ
لوجوده ، أو هي على النقيض أيضاً انغماسٌ تامٌ في الشك بصورةٍ نهائية ، و في الوقت
ذاته تجلي لبهجة الحياة التي تتحقق ليوسف و عائلته بالمقارنة مع الفارس بسبب قدرتهم الدائمة على
مراوغة شكوكهم و تجنبها بمجرد ظهورها لذلك ينجحون في فرارهم هنا ، يبدو بيرغمان من
خلال هذا و كأنما يصور الإيمان – فيما لو تحقق - كوسيلةٍ عظيمةٍ لإدراك الذات و
التصالح مع النفس لأنه ينبع في الأساس من الذات دون وسيطٍ أو دفع ، لذلك هو لا
يصور كل المتدينين في فيلمه كأناسٍ يراوغون شكوكهم و هو بهذا يفرق بين طبيعة
الإيمان الحقيقي النابع من الذات و الإيمان المتعلق بالدفع و التوجيه و الجبرية
كما هو حال الكنيسة ، يبدو في صورته الختامية و كأنما يقسم شخصياته الى ثلاثة
مستويات : الفارس الذي تغمره الشكوك حول وجوده فيفني وجوده في السؤال عنه
، و المساعد يينز الذي تغمره تلك الشكوك لكنه يستمتع بحياته و يسخر من كل
شيء بالرغم من خوفه من الموت و ارتجافه لسماع اسمه و قلقه الدائم مما بعده ( وهو
أقرب شخصيات الفيلم الى بيرغمان ذاته ) ، و يوسف و عائلته الذين لا يشكّون و يبتعدون قدر المستطاع عن تلك
القضايا الكبيرة و الأسئلة الوجودية العسيرة ، يتقبلون الطبيعة و يستمتعون بحياتهم
دون شكوك ذاتية لأنهم متصالحون جداً مع ذواتهم و مؤمنون فعلاً بما فيها و حياتهم
ملؤها الحب و الإخلاص و الأمل ، من خلال هذه الشخصيات يقف بيرغمان على
حافة التساؤلين اللذين يحكمان كل هذا : (كيف يؤمن من لا يستطيع ؟) و (كيف يؤمن من لا يريد ؟)
، و يصبح في هذا الفيلم أكثر وضوحاً مع عادته التي سينهجها طوال مسيرته في طرح
الأسئلة الكبيرة و الإعتماد على ذات المشاهد و تجربته في الإجابة عليها دون أن
ينحي تصوره الخاص جانباً ، هو يقول ربما بأن ذلك الشك الذي يسيطر على شخصياته في هذا
الفيلم منبعه إما عدم قدرتها على معرفة الله ( أو عدم وجوده كما يشكك الفارس دائماً
) أو إما من الطريقة الخاطئة التي نحاول ادراك عظمته من خلالها ( منتقداً و ساخراً
من الكنيسة هنا ) ، بالنتيجة هو لا يصنع في الواقع فيلماً عن الإيمان أو الشك ، و
إنما عن الأثر العميق الذي تخلقه قوة الأول أو إستسلامنا للثاني .
في هذه الكلاسيكية العظيمة تتجلى عظمة التجربة
السينمائية الوليدة لإنغمار بيرغمان ، يقدّم نفسه بقوة عن طريق اللقطات القريبة و
الحوارات الثنائية و المونتاج الذوباني التي سترافقه طوال مسيرته ، و يمارس فيها
هوايته التي ستتكرر لاحقاً في التعبير عن طريق طرح الأفكار و مزاوجة ذلك مع الصورة
نفسها ليصنع مجموعةً من أكثر الصور بريقاً و شهرةً و ديمومة كتلك التي يلعب فيها
الفارس الشطرنج مع الموت عند شاطيء البحر ، أو تلك التي يكشف فيها الموت عن نفسه
في الكنيسة ، تتوجها بالطبع رقصة الموت الشهيرة في ختامه و التي تختزل كل ما يمكن أن يقال عن
هذا العمل ، و يقدم فوق كل ذلك واحداً من أكثر أفلام العصور الوسطى بقاءً في
الذاكرة و أكثر الأعمال الأصيلة شكسبيريةً في تاريخ السينما كله .
التقييم من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق