كتب :
عماد العذري
بطولة :
تشارلي شابلن ، هاري مايرز ، فيرجينيا تشيريل
إخراج :
تشارلي شابلن
لفترةٍ طويلةٍ من الزمن كنت أعتبر هذا الفيلم أعظم
الأفلام الصامتة ، لم
يتغير الكثير منذ حينها و لا أتذكر انني شاهدت بعدها الكثير من الأفلام الصامتة كي
أغير تلك القناعة ، صحيح انني بت أميلُ أكثر الى تغيير بعض آرائي السينمائية من
حينٍ لآخر كجزءٍ من الطبيعة البشرية ، لكن هذا الفيلم بقي مع مرور الزمن أحد
الثوابت بالنسبة لي ، بعيداً عن أي تراتبية : ما
يزال قيماً و مشرقاً و عظيماً جداً بعد ثمانية عقود .
ما يزيد هذا الفيلم قيمة هو أنه جاء في ذروة
الإنفتان الجماهيري بالسينما الناطقة ، ليس في البدايات عندما فاجأهم حضورها ، و
ليس بعد عقود عندما اعتادوا وجودها ، بل في الذروة ، في اللحظات التي أفاق فيها
الجمهور من نشوته و أغلق فمه المنفغر انفتاناً بالصورة الناطقة ، و بدأ يتحرر من
ابهار الحوار المنطوق ليغوص أكثر بحثاً عن القيمة الفنية في العمل ، تلك الفترة
التي تخلت فيها النوعية الجديدة عن أن تكون مجرد فورةٍ عابرة لتصبح شيئاً راسخاً و
لا مناص منه ، و قالباً جديداً يجب العمل وفقاً لطقوسه ، كانت فترةً صعبةً بحق ،
خصوصاً عندما يصر البريطاني الموهوب و الذي حقق نجاحاً ملموساً في أعماله الصامتة على
تكرار تجربته للمرة الثانية في انتاج فيلمٍ صامتٍ في حقبة الأفلام الناطقة ، حقق
نجاحاً ملموساً في تجربته الأولى The Circus و أراد أن يستمر بعدها في طريقه كما يراه ، كان
يرى في الأمر تمسكاً بالوسيلة الملائمة لتقديم مادته السينمائية و ليس مجرد حنينٍ
أو تشبثٍ بالحقبة التي صنعت له اسمه و شهرته كحال الردة الشديدة التي اصابت عدداً
من معاصريه عندما تراجعت اسهمهم الى الوراء و عاشوا يجرون ورائهم ذكرياتهم عن ماضي
النجومية التي سحقها الحوار المنطوق ، شابلن لم يكن كذلك و هذا برأيي هو أهم جزءٍ في عظمته ،
كان يبحث فقط عن الوسيلة الملائمة لتقديم المادة السينمائية ، و وجدها متمثلةً - مع
هذا الفيلم تحديداً - في السينما الصامتة ، لم يكتفِ من خلاله بأن أنجز تحفته السينمائية
الأعظم ، بل انزلق بعدها بحذر في اتجاه السينما الناطقة ، فغنى بصوته في فيلمه
التالي Modern
Times ، و قدم الخطبة السينمائية الأشهر في The Great Dictator ، و قدم ثلاثة أفلامٍ أخرى غيرها و أكد للجميع أن
عبقريته و قدرته على التجدد لم تكن لتتأثر بالظروف أو التقنية أو الإمكانات أو الزمن ، يكفي أن
يشاهدوا أفلامه اليوم بعد ثمانية عقود ليتأكدوا من ذلك .
القصة عن متشرد شابلن مجدداً ، هذه المرة مع بائعة زهورٍ عمياء تعتقد
بعد سلسلةٍ من الأحداث و المفارقات أن المتشرد هو مليونير كريم يحاول مد يد العون
اليها ، خصوصاً عندما يترافق ذلك مع افشال المتشرد محاولة انتحار لمليونيرٍ محبط
أثناء حالة سكر ، سرعان ما يصبحان صديقين تلك الليلة ثم يتلاشى كل ذلك مع استفاقة
المليونير ، هذه العلاقة المتواترة تقود المتشرد للتفكير في استغلالها و أخذ المال
الكافي من المليونير لإجراء عمليةٍ جراحية تعيد البصر لبائعة الزهور العمياء .
شابلن هو كل شيءٍ في هذا الفيلم ، كتبه و أنتجه و
أخرجه و حرره و كتب موسيقاه و قام ببطولته ، صحيح أنها ليست المرة الأولى التي
يفعل بها ذلك ، لكنها على الأقل المرة الأعظم ، في هذا الفيلم يواصل شابلن هجاءه للمجتمعات المعاصرة ضمن توليفة الكوميديا
الخاصة التي أجادها حتى اقترنت بإسمه ، يصور من خلال هذه الصورة الكوميدية نقده
لنمطية المجتمع المدني الحديث و لمتشرده الضائع في زحامه ، دون ان يبدو حتى بأنه
يحاول فعل ذلك ، متشرد شابلن كالعادة : وحيدٌ دون أسرة أو اصدقاء أو عمل أو
مكان أو حتى حلم ، نطارده من مكانٍ لآخر في المفارقات الطريفة التي تشكل يومياته ،
صديقته العمياء لا تختلف عنه اجتماعياً لكنها على الأقل تمتلك منزلاً و عائلة و
مورد رزقٍ بسيط ، على الطرف الآخر نشهد حفلات المليونير البائس و شقاءه مجهول
السبب و ميله الدائم للإنتحار ، شابلن يرمي ذلك في الخلفية البعيدة للصورة بذكاءٍ
يستحق الإشادة و دون أن يجعل تلك الخلفية البعيدة مفصولةً عن تشكيل مفاصل الحبكة ،
على الأقل من خلال تصويره للبون الإجتماعي بين عالم المتشرد و عالم صديقه
المليونير ، أو من خلال التباين بين ثريٍ لا يجد في حياته الا الشقاء فيحاول الإنتحار أكثر من
مرة ، و فقيرين أحدهما متشرد و الآخر أعمى لكنهما يعيشان حياتهما بسعادةٍ و اشراق
، هذا التفصيل مقدرٌ جداً في سائر أعمال شابلن ، لكنه هنا يضرب في صميم الحبكة و يغذيها
بفعالية لا يمكن تخيلها ، لا نحتاج للكثير من الكلام أو للكثير من المواقف المغرقة
في الرومانسية لندرك أن المتشرد يهيم بتلك الشابة العمياء عشقاً ، يكفي أن تتأمل
المآزق التي وضع نفسه بها ، و عقوبة السجن التي طبقت عليه لأشهر لتدرك حجم ما
يحركه تجاهها ، و عندما تتأمله و تتحسس يديه و تدرك أنه هو – في واحدةٍ من أعظم
النهايات السينمائية على الإطلاق - ندرك قيمة أن يصنع هذه اللحظة تحديداً شخصان
فقيران لا يملكان في هذا العالم سوى قلبٍ مفعمٍ بالحياة ، و ندرك أن شابلن لم يصر على تقديم هذا العمل الصامت في حقبة
السينما الناطقة الا ليقينه بأن هذا النص لا يمكن تقديمه الا بهذه الطريقة ، هو
يصيب من خلال ذلك الصمت صميم العمل و روحه و يؤكد على قيمة التحدي الذي وضعه لنفسه
في الحقبة الجديدة من خلال جوهر عمله هذا القائم على الأحاسيس الداخلية المتوارية
التي قد يجعلها النطق و الحوار أقل قيمةُ و تأثيراً ، الصمت هنا ليس تمرداً تقليدياً
على الحوار المنطوق و انما هو اثباتٌ عظيم على قدرة الصمت على التعبير
عن البواطن و ما تحت السطور ، لذلك يبدو الفيلم و كأنما لا يمكن كتابته الا ليقدم
بهذه الطريقة ، و قطرة حوارٍ منطوقٍ واحدة ربما تكون كافيةً لخدش جماله و كبريائه و لسرقة جل البريق الذي يكتسبه من نوعية الكوميديا المعمولة التي يقدمها الرجل هنا ، شابلن يستنطق في عصر السينما الناطقة قوة الصمت و لغة
الإشارة و الجسد ليولد أثراً عظيماً و لا يمحى عن القوة الداخلية للإنسان و عظمة
روحه و تصالحه مع نفسه حتى عندما لا يمتلك من دنياه شيئاً .
شارلي كان عظيماً في هذا الفيلم ، عظيماً في تصديه لكل
شيءٍ بنفسه ، و عظيماً في مزاوجته الكوميديا و الرومانسية منتجاً برأيي أعظم
كوميديا رومانسية في تاريخ السينما ، و عظيماً في التقاطه الحساس للطريقة التي من
المتوقع أن يتلقى بها الجمهور تلك الأحاسيس المبطنة بين بائسين يجدان في بعضهما
الأمل و حب الحياة ، و عظيماً في توظيفه الميلودراما مع الأداء الإيمائي المدروس
لخلق هذه الحالة الفريدة من الشجن و البهجة و الشعور الجيد لدى مشاهده ، و عظيماً
أن أصر فوق كل هذا على صنع كل ذلك وفقاً لطقوسه القديمة في اللحظة التي كان العالم
يفتح ذراعيه عن آخرهما معانقاً سينما الحوار المنطوق ، لم يحقق هنا فحسب واحداً من
أعظم الأفلام الصامتة ، بل أيضاً واحداً من أعظم الأفلام في تاريخ السينما حتى بعد
أكثر من 80 عاماً على اطلاقه ، أورسون ويلز و فديريكو
فيلليني و روبير بريسون اعتبروه
الأعظم ، و لأنهم من هم لا نستطيع أن نلومهم على ذلك .
التقييم
من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق