كتب : عماد
العذري
بطولة : كلاوس
كينسكي ، هيلينا روخو ، راي غويرا
إخراج :
فيرنر هيرتسوغ
ميزة الأفلام العظيمة أو على الأقل تلك المهمة هي قدرتها على أن
تبدو متجددةً و مختلفةً في كل مشاهدة ، أن تجد فيها كل مرة شيئاً آخراً يجعلها
أجمل بنظرك ، حدث هذا معي في مشاهداتي الثلاث لهذا الفيلم ، شاهدته أول مرة في
اليوم ذاته مع رائعة جون بورمان Deliverance التي أطلقت في العام ذاته
و جرت معظم أحداثها في نهرٍ أيضاً ، ثم شاهدته مرةً أخرى قبل عامين ، و أعدت
مشاهدته يوم أمس ، هذا فيلمٌ مقاومٌ للزمن .
كان هذا العمل الفيلم الروائي الثالث في مسيرة ابن الثلاثين فيرنر هيرتسوغ
الذي مالبث أصبح (مخرج القارات الست) و أحد أهم رموز السينما الألمانية الجديدة رفقة فيم فيندرز
و راينر
فيرنر فاسبندر ، و كان الثمرة الأولى لتعاونٍ طويل الأمد جمعه بالممثل غريب
الأطوار كلاوس
كينسكي و استمر في اربعة اعمالٍ أخرى هي الأهم في مسيرة كليهما ، كان كينسكي
ممثلاً موهوباً لكن في أفلامٍ متواضعة القيمة ، و كان هيرتسوغ مخرجاً موهوباً افتقر
عملاه السابقان لنقاط القوة الصريحة التي تنقله لمرحلة اعتراف الآخرين بموهبته ، و
كانت هذه التجربة المجنونة اللقاء الذي كامَل به الرجلان بعضيهما ، و الضربة التي
جعلتهما في واجهة المحافل السينمائية في العالم .
يصوّر الفيلم - اقتباساً عن مذكراتٍ غير حقيقيةٍ يدّعي انها كتبت
من قبل القس
غاسبار دي كارفاخال - قصة الرحلة المشؤومة للمستكشف الأسباني غوانزالو بيزارو
و بعثته المنهكة الموشكة على الإنهيار و الاستسلام في مسعاها نحو ذهب أميركا
اللاتينية ، تتوقف البعثة في غابات البيرو الموحشة ، و يقرر الرجل اختيار فرقةٍ
من أربعين رجلاً للمضي في تقفي علامات (إلدورادو) مدن الذهب الأسطورية السبعة ،
في قيادة الفرقة ثلاثةٌ من كبار القوم : بيدرو دي أورسوا و فرناندو دي غوزمان
و لوب دي
أغيري ، تسافر البعثة عبر طوافاتٍ نهريةٍ نحو الدورادو ، محاصرةً بسكان
البلاد الأصليين و بخطر الأوبئة و نقص المئونة و بأطماعهم الذاتية التي تفتك بهم
عندما يسيطر أغيري على قيادة البعثة المنهكة و يقرر المضي بها نحو جنونه المحض .
في الظاهر تبدو الحبكة مثاليةً لفيلم مغامراتٍ تقليدي ، في
العمق العمل أبعد ما يكون عن ذلك ، هو أقرب لصورةٍ سرياليةٍ ممسرحة في الكثير من
تفاصيلها عن المجتمعات الوليدة ، بالنسبة لي تبدو فكرة تقديم عمل باللغة الألمانية
عن شخصياتٍ أسبانية في أميركا اللاتينية فكرةً مسرحيةً تماماً ، خصوصاً و أن هيرتسوغ ينأى
بنصه تماماً عن الوقوع في التقليدية المفترضة كفيلم مغامرات في غابات الأمازون و
يصبغ عليه الكثير من المسرحية الصارخة ، بدءاً بطريقة تقديم شخصياته مطلع الفيلم و
الارتكاز المكثف على صوت الراوي (غاسبار دي كارفاخال الذي يدّعي النص أنه رافق تلك
البعثة) و انتهاءً بالكسر المتكرر لما يعرف بالـ Forth Wall
حيث يتوجّه
أبطال الفيلم في أكثر من مناسبة نحو الكاميرا مباشرةً في حواراتهم ، حس المسرحة
هذا ليس عبثياً ، هو يبدو الآن بالنسبة لي المعالجة المثلى لروح النبوءة و الإيحائية العالية
التي تكتنف النص ، جودة النص تتفرع في منحيين رئيسيين : الأول يكمن في تقديم أغيري
كشخصيةٍ محور وهو تقديمٌ غير مرهق على خلاف ما تفترضه التحولات الدرامية العنيفة
للحكاية ، هو منذ اللحظة الأولى لا يبدو شخصيةً سويةً بالنسبة لنا ، شعورنا بكونه
شخصيةً شريرةً لا يخطىء اطلاقاً ، و هو يستند في ذلك بقوة الى أداء كلاوس كينسكي
، و ما يعمل عليه النص في هذا المحور هو فقط محاولة صنع تحول خاضع
للمنطق لدى تلك الشخصية من قوقعة القوة النسبية الى أسر القوة المطلقة التي تستحوذ
عليها و تدفعها الى الجنون في ختام الفيلم ، على هذا الصعيد ينجح النص
بإمتيازٍ لا جدال فيه و ربما سيتذكر المشاهد بسهولة – مهما اختلفت وجهة نظره في
العمل ككل – كم الجنون الذي سيستخلصه من شخصية أغيري مع تقدم الحدث ، في
المنحى الآخر يستند الفيلم بقوة – بل و في أعظم نقاط قوته – على تجنب الدفع
بالحدث أو توجيهه أو وضع مفاصل اصطناعيةٍ له ، و ترك المشاهد ليصبح رفيقاً لتلك
الرحلة من خلال تسليمنا للرحلة ، إحاطتنا بصرياً بهذا النهر و بتلك الغابات ،
جعلنا نتمسك بتلك الطوافات كطوق نجاةٍ وحيد ، جميع ما يحيط بنا عندما نرافقهم
يخنقه هيرتسوغ
من خلال كاميراه مبرراً – بصرياً – لما سيحدث على متن تلك الطوافات لاحقاً ، و في
الوقت ذاته لا يتيح لشخصياته الحركة بأريحيةٍ على متن تلك الطوافات ممسرحاً الحدث
و دافعاً به لتجسيد صورة النبوءة ومستخلصاً من الحدث عبرته بصورةٍ شبه مباشرة ،
نراه يقطع من حينٍ لآخر على لقطةٍ واسعةٍ للطوافة في قلب ذلك النهر و كأنما يذكرنا
بمسرح الحدث كلما نسينا ، هذا الخنق ليس عبثياً ، هو يسلّم الحدث لخيال المشاهد
أكثر من جعله يرتكز الى حبكة ، يجعل خياله منفذه الوحيد ، الأمر الذي يخلق بسهولة أكبر
احساس
اللعنة التي أصابت تلك الحملة و الموت الذي لفّها و أحاطها من كل جانب ،
هذا من ناحية ، و من ناحيةٍ أخرى هو لا يجعل الحدث بحد ذاته هدفاً ، و هنا بالذات يكمن
تطور تقديري للفيلم بين مشاهدةٍ و أخرى ، النص لا يحاول التركيز على ردود الفعل قدر
اهتمامه بالعواقب ، نرى الطوافة تعلق في الصخور فلا يبدو لنا رد الفعل
انفعالياً أو متناسباً مع سبعة أشخاصٍ – من أصل أربعين – يوشكون على فقدان حياتهم
، يقتلهم الهنود لاحقاً فلا يتغير الكثير ، ثم يفجّر أغيري الطوافة بما عليها من
جثث فلا نحصل على رد فعلٍ تقليدي كما هو مفترض ، هذه الجزئية تحديداً هي المشكلة
الجوهرية لدى الكثيرين في تقبّل الفيلم ككل ، هناك فجوة – متعمدة جداً
برأيي – بين الفعل و رد الفعل ، مردها أن النص أساساً لا يقوم على ردود الفعل تجاه الحدث
قدر ما يقوم على العواقب المترتبة على ذلك الحدث ، حتى في طريقة تجسيد هيرتسوغ
للموت بصرياً نراه يقدمه خاطفاً أو صامتاً أو خارج الكادر ، لا يجعل حدوث الموت
بحد ذاته مهماً قدر اهتمامه بالعواقب التي ستترتب عليه ، و تفهم هاتين الجزئيتين (مسرحة الحدث ، و
عدم الاهتمام بردود الفعل على حدوثه) هي جزئيتان محوريتان جداً في تقبل
العمل و فهم الحالة النبوئية التي يحاول تجسيدها و من يعرف سينما هيرتسوغ
جيداً يعلم جيداً القيمة العالية لروح النبوءة و الإيحائية التي تطبعها دائماً ،
هي هنا تأخذ معاني أكثر عمقاً بكثير مما يعطيه ظاهرها ، تذهب عميقاً في رسم ملامح نشوء المجتمعات
، المستبد هنا هو شخص يحكم أناساً أكثر قوة منه ، يخضعون له وفقاً لقوة افتراضيةٍ
غير حقيقية و لتسلسلٍ قياديٍ لا يوجد من يحكمه و يشرف عليه ، و في ظرفٍ لا يتيح
لأي عقدٍ إجتماعيٍ مراقبة ذلك الخضوع أصلاً ، هم لا يختارون أغيري لقيادتهم
و لو سنحت لهم فرصة الاختيار فلن يختاروه حتماً ، و مع ذلك هم ينساقون له ، وهنا
تكمن قيمة هذا العمل و عظمته ، نظرةٌ عميقةٌ جداً في سيكولوجية الإحساس بالقوة ، و
في إنفراط
العقد الإجتماعي السائد و التأسيس لآخر جديد ، نرى قائد البعثة جريحاً و
معزولاً و مشنوقاً ، نستمع إلى الأمير الهندي الأسير و هو يقول (كنت أميراً في
هذه الأرض ، لم يُسمح لأحدٍ بالنظر مباشرةً في عينيّ ، و الآن أنا مقيّدٌ مثل شعبي
، و عليّ أن أحني رأسي) ، نرى النبيلة آينز تلتجيء الى رجل الدين
لمساعدتها فيخبرها (لطالما كانت الكنيسة بجانب الأقوياء) ، و نرى غوزمان
(الأرفع نسباً و نبلاً) يتوّج امبراطوراً كواجهةٍ لإمبراطوريةٍ يحكمها أغيري في
الواقع ، نرى غوزمان يعيش رفاهيةً عبثية بينما رجاله يوشكون على الموت : يحلق ذقنه
و يدلّك جسده و يجلس لتناول وليمةٍ بينما رجاله يعدّون آخر حبوب الذرة لديهم ، و
نراه يعفو عن السيد الذي سبقه قبل أن يشنقه أغيري في أول فرصةٍ تتاح له ،
كل هذا يحدث في صورةٍ سرياليةٍ ممسرحة ، تجسيدٌ صارخٌ و مدروس لإنفراط العقد الإجتماعي و
لمحاولة مجتمعٍ وليد على المضي قدماً من خلال عقدٍ إجتماعيٍ هش وحيد الإتجاه سرعان
ما ينقلب نقمةً على متعاقديه .
و لأن كل ذلك مستندٌ في جوهره لقدرة هيرتسوغ على تجسيد روح النبوءة /
اللعنة التي تمنح العمل ككل قيمته الرفيعة و ترتقي به فوق الاطار التقليدي
لفيلم المغامرات ، تبقى أدوات هيرتسوغ هي أساس عظمته ، توظيفه الذي لا تخطئه العين
للطبيعة ، و اللقطات الواسعة التي يستخدمها بسخاء من أجل أسر جمالها ، و حس
التوثيقية العالي الذي جعل الرجل لاحقاً واحداً من أفضل صناع الأفلام الوثائقية في
العالم ، يستثمر هيرتسوغ هذين العنصرين بذكاء لخدمة روح النص و يبدو أثره في تجسيد العبثية و
روح النبوءة واضحاً برأيي في اقتباس فرانسيس فورد كوبولا لرواية Heart of Darkness التي صنع منها تحفته Apocalypse
Now بعد ذلك بسبعة أعوام ، و استثماره هذا ينتج ملحمةً بصريةً كاملة
المعالم لا أبالغ إذا ما قلت بأنه واحدةٌ من أنقى و أعظم التجارب البصرية التي
شاهدتها في حياتي ، تصوير الفيلم في أماكن الحدث الحقيقية و ضمن ظروفه الحقيقية ،
حمل الكاميرات و الممثلين على طوافاتٍ غير مؤمّنة و الاستسلام لجنون ذلك النهر ، و
الإسترسال في صناعة ذلك العمل وسط مخاطر جمةٍ كالغرق أو التعرض للحيوانات المفترسة
أو الإصابة بالأمراض ، لا أدري أي جنونٍ كان يستعمر عقل هيرتسوغ حينها ، لكنني لا
أستغربه على من صنع ما صنع في Fitzcarraldo لاحقاً ، تصوير هذا
الفيلم بدعةٌ بصريةً فعلاً ، ابتداءً باللقطة الفخمة التي تفتتح هذا الفيلم لبعثة بيزارو
التي تسير عبر جبال الأنديز ، مروراً بالحميمية العالية التي يأسر من خلالها مدير
التصوير توماس
ماوخ في كادراته و حركة كاميراه جمال الطبيعة الفاتن و وحشتها القاتلة في
آن ، الأمر الذي يولّد حسّ معايشةٍ عالٍ بين المشاهد و البعثة و ينقله ليكون
شريكاً لها فيما تفعل ، وصولاً بالطبع لحس الجنون البصري الذي يولده من خلال
الكاميرا المحمولة و الطريقة التي يزاوج فيها بين اللقطات الواسعة لوحشة النهر و
الغابات و اللقطات المقربة للشخصيات على متن الطوافة و المأزق الذي يختبره في
وجوههم ، خالقاً احساساً طبيعياً بالورطة التي وضعتهم على أول حافة الهاوية ، و
بالطبع هو احساسٌ يدعمه كثيراً العمل الموسيقي العظيم لفلوريان فريكه الذي يخيّل
اليك في البداية أنه أصوات كورال و لا تلبث أن تدرك أنه عزفُ آلاتٍ موسيقية ، شيءٌ
روحاني جداً يغذي عمق النص عن طمع الإنسان و قسوته و وحشيته و يعزز بشدة من خلال
وجه كلاوس
كينسكي الذي لم يحدث – حتى وهو يؤدي نوسفيراتو مع هيرتسوغ بعد
اعوام - أن كان مرعباً كما هو في أغيري .
هذا فيلمٌ من النوعية التي ذكرتها في مقدمة حديثي ، تصويره
لإنهيار الرجال و ضعفهم و الخواء الذي يستعمرهم في رحلتهم نحو القوة و السطوة عظيم
، و تجسيده لصورة المجتمعات الناشئة التي تتفكك بالأحادية و رهبة الذنب و الخوف من
المجهول و هشاشة العقد الإجتماعي الذي أنشأته يجعله فيلماً لا يشيخ أبداً .
التقييم
من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق