بطولة : غاري بوند ، دونالد بليسنس ،
جاك تومسون
إخراج : تيد كوتشيف
قبل أكثر من أربعة عقود
ذهب المخرج الكندي العامل في أستراليا تيد كوتشيف بثاني أعماله السينمائية إلى مهرجان كان السينمائي
الدولي مرشحاً للتنافس على السعفة الذهبية. حظي فيلمه بحماسٍ نقديٍ ملفتٍ تعزز
بعروضٍ خاصةٍ ممتازةٍ نالها في فرنسا وأستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة بالرغم من أن ذلك الإحتفاء النقدي لم يترجم مادياً
بما فيه الكفاية لإعتبار الفيلم ناجحاً .
كانت هذه أبسط المصائب
التي تعرض لها. فجأةً وبعد بضعة أشهر تعرّض الفيلم لكارثةٍ بفقدان جميع نسخ النيجاتيف
الخاصة به. بحلول مطلع التسعينيات كانت هناك نسختان فقط على وجه الأرض لهذا الفيلم
، وكانتا في حالٍ يرثى لها تعذر معها طرح الفيلم على أشرطة الفيديو. لأكثر من ثلاثة
عقودٍ كاملة بقي هذا الفيلم (التحفة المفقودة للسينما الأسترالية) وواحداً من قلةٍ من الأفلام
المهمة المفقودة في عصور السينما الحديثة. حتى جاء يومٌ من أيام 2004 وجد فيه رجلٌ
في مستودعٍ ضخم في بيتسبرغ الأمريكية صندوقاً يحتوي أدواتٍ جاهزة ليتم التخلص منها ، فتح
الصندوق ليكتشف أن ما بداخله هي النسخة الوحيدة الكاملة من هذا الفيلم ! وبجهود مؤسسة
مارتن سكورسيزي والمجلس الوطني للفيلم الأسترالي تم اعادة اطلاق
الفيلم في عرضٍ خاص أداره مارتن سكورسيزي في دورة 2009 من مهرجان كان السينمائي الدولي أصبح
بها واحداً من فيلمين فقط - في حينه - عُرضا في دورتين مختلفتين ضمن أقسام المهرجان ، قبل أن يحظى
بإطلاق رسميٍ على أقراص الديفيدي في وقتٍ لاحقٍ من العام ذاته. قصةٌ لا تُصدّق أعادت
كلاسيكيةً سينمائيةً حديثة إلى الحياة بمعجزة !
الحكاية - التي تقتبس
روايةً لكينيث كوك في سيناريو لإيثان جونز - تسرد قصة جون غرانت ، مدرس لغةٍ
إنجليزية في بلدةٍ أستراليةٍ صغيرةٍ تدعى تايبوندا يسافر في عطلة المدارس للقاء حبيبته في سيدني. في الطريق
ينزل للمكوث ليلةً واحدةً في بلدة بوندانيابا (أو يابا كما يسميها سكانها الذين يعتبرونها جنة الأرض).
تلك الليلة الوحيدة لن تكون كأي شيءٍ آخر عاشه غرانت من قبل .
هذا فيلمٌ عظيم ! بالنسبة
لي أوقن بذلك عندما تبقى ملامح الفيلم وتفاصيه مرسومةً في ذهني لأيامٍ طوال بعد المشاهدة. ومنذ شاهدته أول مرة أواخر العام الماضي حتى إعادتي له منذ أيام بقيت ملامحه وتفاصيله تراودني
من حينٍ لآخر. في هذا الفيلم يقدم كوتشيف حفراً دقيقاً وبالغ الذكاء في الطبيعة الإنسانية لهذا العالم
الوليد المسمى أستراليا. صورةٌ قاتمةٌ ونبوئيةٌ له. البلد الناشيء الذي انتقل
بسرعة من فترة المستعمر إلى ذروة الرخاء الإنساني. يابا في الفيلم هي أستراليا ، فردوس الأرض المفقود
، الذي يحلم الجميع بالقدوم اليه ، و إذا ما قدموا يستصعبون الرحيل عنه. نظرةٌ ذكيةٌ
يقدمها فيلم كوتشيف في الرجل الأوروبي الذي وطأ أحدث مكتشفات الجغرافيا الكبرى
ليصنع جنته الخاصة ، أو جحيمه الخاص ، لا فرق !
يفتتح كوتشيف فيلمه بلقطة
360 درجة لمحيط بلدة تايبوندا التي يقطنها جون غرانت. الفراغ والعزلة واللاشيء يمتد على مسافة أميال.
عزلةٌ توازي عزلة القارة الأحدث على وجه الأرض. تايبوندا هي مجرد مدرسةٍ
وفندق ومحطة سكةٍ حديدية في أمرٍ لا يخلو من مجاز. غرانت وجد نفسه
هنا عبداً لنظام التعليم الأسترالي بالمعنى الحرفي للكلمة ، حيث يقتضي الأمر
دفعاتٍ لا تنتهي من الأقساط لرد ضمان 1000 دولار أسترالي أنفقتها الدولة على تأهيله
كمدرس بالرغم من رغبته الموؤدة أن يصبح صحفياً في يومٍ من الأيام. يابا بالنسبة له
أول الأمر لا تختلف مطلقاً عن تايبوندا : التجمعات السكانية الصغيرة التي ملأت هذه الأرض البكر
ذات الندرة السكانية. صحيح أن ما يقال عن جنة يابا يبدو مغرياً إلى حدٍ ما ، إلا أن كوتشيف لا يحاول إخراج
ذلك بعيداً عن دائرة الكلام والأقاويل التي يتناقلها البعض للترويج للبلدة. حتى عندما يدخلها
غرانت ويلتقي بأول شخصيةٍ (ودودةٍ) فيها ، لا يحاول كوتشيف إخراج علاقته بالشرطي خارج نطاقها : مجرد شرطيٍ في فترة استراحته يحاول تقديم
طقوس الضيافة المعتادة (أو غير المعتادة) لضيف جديد على البلدة سيقضي فيها ليلةً واحدةً
قبل التوجه إلى سيدني ! لا تخرج العلاقة عن ذلك الإطار بالرغم من الإحساس
بالريبة الذي تدفعنا إليه حميمية الشرطي المبالغ بها. وعندما يُخبرهُ رجلٌ ما على طاولة
العشاء القريبة متحدثاً عن صالة القمار المجاورة التي يفقد فيها غرانت كل ما يملك
(كل الشياطين الصغيرة فخورةٌ بالجحيم) لا تبدو العبارة – بالرغم
من حس القلق الذي تحمله – أكثر من عبارة رجلٍ غير متزن كما يبدو لنا. حتى ذلك القلق
سرعان ما يمكن قولبة منشئه ضمن الفكرة المسبقة التي شكلناها عن سكان البلدة الودودين
واهتمامهم المبالغ به بحسن الضيافة .
بعد ذلك سرعان ما تتجلى
براعة كوتشيف في الإنزلاق بذلك الإحساس نحو صنع حالةٍ كابوسيةٍ مكتملة
المعالم دون الحاجة لتوظيف مفرداتها التقليدية حيث اللعب على الأجواء ومستوى الإضاءة
وحركة الكاميرا بالرغم من أنه بارعٌ فعلاً عندما يفعل ذلك. كوتشيف يرتكز بشكلٍ
أساسيٍ في عمله على طبيعة الشخصيات التي يقدمها ، والنبرة التي يجعلها تتعامل بها
مع من يحيطون بها ، مولّفاً ذلك مع اللون الشمسي الذي يصبغ الصورة والمونتاج
الذي يزاوج على مدار الفيلم بين لقطات الكاميرا الثابتة ذات القطع المتناوب ولقطات الكاميرا المحمولة دون قطع. هذا التناوب يعمل على غمر المشاهد في الحالة الكابوسية فيشعر بالإحتجاز تماماً
كما البطل دون أن يشعر في الوقت ذاته بحتمية مغادرة المكان. تُغريك الحالة لتستمر
في متابعة الأمر حتى النهاية ، وفي الوقت ذاته يحقق كوتشيف من خلال ذلك ضبطاً مثالياً للإيقاع الهستيري للحدث. إحساسك هنا - مع كل كأسٍ يشربها الرفاق - بالقرف والنفور
والقذارة وبالرطوبة التي تستعمر الجو هو احساسٌ يتدرج بذكاء ولا يخطيء. إحساسك برغبة
أن تُخرج الكاميرا إلى الخارج قليلاً لتنشق بعض الهواء المنعش حقيقيٌ وقسري. كل ذلك
لا يلبث أن يتطور تدريجياً إلى حالةٍ من الضيق والإكتئاب تُجسّد في هذه البلدة الصغيرة
– يابا - سجناً حقيقياً يجب الخلاص منه.
في العمق تبدو روح العمل
– وربما الرواية التي لم أقرأها – حالة استنساخٍ لكلاسيكية جوزيف كونراد الأدبية
Heart of Darkness حيث رجلٌٌ ينزلق في رحلةٍ مجنونةٍ تختبر شروره ووحشيته ومخاوفه. مشاهدة
مدرسٍ ينزلق هنا في عمق هذا الإنحطاط الذي نشاهده لا يبدو شيئاً سهلاً على الورق ، لكن حالة الإحتجاز
التي يحققها النص و الإخراج والجو الكابوسي الذي يخدمها يجعل ذلك ممكناً وحقيقياً
على الشاشة ويختزل كل ما يراد قوله هنا عن أستراليا ، الأرض البكر
المغرية ، جنة الله على الأرض ، التي لا يبدو الوقوع في فتنتها أكثر من رحلة انحطاط
نحو الجحيم البشري ! القاسي في الحكاية أن تدهور جون غرانت نحو الوحشية
لا يترافق مع انعدام الضمير ، يكاد يكون العذاب الأكبر للبطل هنا هي رغبته المتكررة
إيقاف تلك الدوامة وعجزه عن ذلك ! حتى عندما يحاول مغادرة يابا مع سيارة
أجرة يجد نفسه يعود – بالخطأ – إليها ، وما أن يرتد قليلاً إلى الخلف حتى يدرك كابوسية
وقسوة ما حدث .
تلك الوحشية والقسوة
والكابوسية تصل ذروتها في مشهد صيد الكانغارو ، واحدٌ من أقسى المشاهد السينمائية التي ستشاهدها
في حياتك! عندما عُرضت النسخة المرممة من الفيلم في كانّ 2009 غادر
إثنا عشر شخصاً العرض أثناء هذا المشهد المؤلم الذي نفّذه صيادون حقيقيون برخصةٍ رسميةٍ
كما يقول التنبيه في ختام الفيلم. تجسيدٌ قاسٍ لجنون الحضارة الزاحف على كل ما هو
جميلٌ وطبيعيٌ وفطريٌ ونادرٌ في حياتنا. مشاهد مؤلمةٌ ونبوئيةٌ جداً في مآل العالم
المعاصر ، حيث الرخاء – ممثلاً في جنة يابا – يقود العالم نحو الجنون الذي لا رادع له ، دون هدف ، ودون
عاطفة. مجموعةٌ من المهووسين يصيدون أندر مخلوقات القارة لمجرد التسلية ، لا يشعرون
حتى بالمتعة الحقيقية الخالصة للصيد ! الكانغارو هنا هو جون غرانت ذاته ، كل شيءٍ جميلٌ وطبيعيٌ فيه. تبدو الصورة حالةً
من الجنون المحض لا تختلف كثيراً عن حالة (الضيافة) المجنونة التي مُنحت له كأي غريب. وعندما يطعن غرانت الكانغارو من أجل
نوبة استفزازٍ ذكوريةٍ من الرفاق ، يكون هو في الواقع من يتلقى تلك الطعنة ، كل شيءٍ
خام وطبيعي فيه هو ما يتلقى تلك الطعنة !
يُذكرني هذا الفيلم كثيراً – في حالة الإحتجاز التي يُصوّرها – بفيلم Midnight Express . قطعةٌ نادرةٌ عن مقدار صلابة وقوة القوقعة التي يستطيع الإنسان الإحتماء
بها عندما يجد نفسه فجأةً في المكان الخطأ ، والتوقيت الخطأ ، ومع الأناس الخطأ ،
الذين يمارسون الفعل الخطأ. وصورةٌ قاتمةٌ للرجل الأبيض يُسيّر هذه الأرض البكر
بالكثير من المال ، والفراغ ، والجنون ، والذكورية. الأسترالي الكبير
بيتر وير يقول أنه تأثر كثيراً بهذا العمل مع انطلاق مسيرته السينمائية. نِك كايف الموسيقار والسيناريست الأسترالي المعروف يعتبره (أفضل وأكثر الأفلام رعباً
عن أستراليا). ريكس ريد قال عنه في مراجعته بأنه قد يكون (أعظم فيلمٍ استراليٍ على
الإطلاق) ، رأيٌ من الممكن الاتفاق معه أو الأختلاف بشأنه في وجود روائع
Walkabout و Mad Max 2 و Picnic at Hanging Rock و Rabbit-Proof Fence و Breaker Mornat ، لكنني أرى فيه فيلماً أساسياً جداً ، يجب على كل بلدٍ أن تحذو حذو أستراليا وتنتج
فيلماً مماثلاً يسبر كوابيسها الخاصة على أعتاب جنون الحضارة الجديدة الزاحفة من كل
صوبٍ بإتجاهها !
التقييم من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق