كتب : عماد العذري
بطولة : مايا ديرن ، أليكساندر هاميد
إخراج : مايا ديرن ، أليكساندر هاميد
هذه النوعية من الأعمال الطليعية و التجريبية إما أن تجد لها متسعاً في
وعي المشاهد و بالتالي تنال قبوله ، أو لا تجد ، لا علاقة لذلك بالثقافة السينمائية
أو الإدراك الفني ، هدفها دائماً كسر السائد على صعيد السرد أو الحكاية أو التكنيك
الإخراجي ، إما أن تتقبل ذلك الكسر أو لا تتقبله ، هكذا بكل بساطة .
مرت السينما الطليعية بمرحلتين رئيسيتين ، الأولى جاءت مع بواكير السينما
الأولى كرد فعلٍ طبيعيٍ على هذا الإختراع الوليد ، فكرة السينما بحد ذاتها كانت تقتضي
ظهور عددٍ هائلٍ من الأفلام الطليعية ، أتاح الإختراع الوليد لعددٍ كبيرٍ من المخرجين
و الفنانين – فقط بوجود كاميرا تصويرٍ سينمائي - تجريب ما يشاؤون في مرحلةٍ كان الوسيط
الفني الجديد ما يزال بكراً ، و مع ظهور الحكايات و السوق و النجوم بدأت سينما التجريب
تضمحل تدريجياً بين الحربين العالميتين ، المرحلة الثانية كانت مع اندلاع الحرب العالمية
الثانية و تحديداً بفضل مجموعة مشاريعٍ سينمائية تصدرها هذا الفيلم ذي الأربع عشرة
دقيقة و الذي لطالما نسب الى مايا ديرن وحدها ، الأمر الذي قيل بأنه كان سبب انفصالها عن زوجها
و شريكها اليكساندر هاميد لاحقاً .
الحكاية – إن صح تسميتها كذلك – عن امرأةٍ نراها تعود إلى منزلها بزهرةٍ
وجدتها في طريق عودتها ، تنام على كرسي و تستغرق في نومها فترى حلماً متكرراً لها ،
تطارد فيه كياناً غريباً لجسدٍ بوجه مرآة ، يعاد الحلم مع صورةٍ إضافيةٍ لها و تجربةٍ
جديدةٍ في تأمل ما يجري .
في هذا العمل تلقي مايا ديرن رفقة زوجها و شريكها في الإنتاج و التمثيل أليكساندر هاميد
نظرةً في العمق على امرأةٍ تستلهم تطلعاتها اليومية و الضغوطات و العقبات التي تواجهها
من خلال الغوص في اللاوعي عبر تجربة الحلم هذه كإنعكاسٍ لحالة المزاج اليومية التي
تعيشها مؤخراً ، تستخدم ديرن السينما كوسيطٍ لتجسيد هذه الحالة في بنية غير قصصية تستمد
قوتها من أمرين : الأول هو عملية السرد ذاتها و فكرة توظيف الأحلام المتكررة ، حلمٌ
داخل حلم داخل حلم ، من أجل التعبير عن حالة البطلة التي تكسر حاجزاً اضافياً مع الذات
كلما غاصت أكثر في لا وعيها مع كل حلمٍ جديد ، تمسك بتلابيب ضعفها و تعثر على مفاتيح
خلاصها كلما تخلصت من خوفها القادم من الوعي ، و الثاني من القيمة التي
تقدمها الحالة التي تسرد علينا عن حقوق المرأة و التيارات النسوية التي لطالما ارتبط
اسم مايا ديرن بها .
ديرن تأخذ هنا الميلودراما كصنفٍ
سينمائي و تعمل على تحويله الى شيءٍ آخر مستلهمةً الأعمال الطليعية الأولى و خصوصاً
عملي بونويل و دالي الشهيرين ، تأخذ مادة الميلودراما المفضلة حيث الأنثى المنسحقة
تحت وطأة المخاوف التي خلقها المجتمع فيها جراء الحكم الذكوري له ، لكنها تكسر قالب
الميلودراما – الرائج جداً حينها – لتقدم شيئاً مختلفاً على صعيد الشكل على الأقل
.
في العمق لا يقدم العمل تجربةً للمشاهدة ، هو يقدم حالةً يمكن الحديث عنها
في سطرين ، لكنه يترك للمشاهد ترجمتها ، يكمن اختلافه – و ربما مكمن قوته لدى البعض
، ضعفه لدى البعض الآخر – في المساحة التي يوفرها لـ (الرمزية) ضمن عملٍ سريالي
الطابع ، الرمزية هنا جزءٌ من البنية غير القصصية التي تقدم لنا ، وجودها
هو ما يمنع هذه البنية من التحول لمجرد خربشاتٍ مجنونة ، لكن هذه المساحة في الوقت
ذاته قد تكون ربما عقبةً في استفزاز ذهن المشاهد و الذهاب بعيداً في مخاطبة لا وعيه
كما يجري في الأفلام الطليعية و بالتالي قد يجعله ذلك التبسيط الرمزي عملاً للمشاهدة
الواحدة فقط ، و مع ذلك من الصعب انكار أن هذه التجربة ذات الـ 14 دقيقة هي من فتحت
الباب الحقيقي لسينما ديفيد لينش – مثلاً - التي مزجت السريالية بالرمزية لكن مع عملٍ
أكبر على البنية القصصية .
في التسلسل السردي تترك لنا ديرن مساحةً لتفسير ما يجري بناءً على تلك الرمزية و لذلك تتعدد
القراءات للبنية السردية ذاتها و ان كنت أميل لاعتبار الفيلم بدقائقه كلها مجرد حلمٍ
متعدد المستويات بالرغم من أن قراءاتٍ أخرى ترى في لوحتيه الأولى و الأخيرة أحداثاً
حقيقية ، في المستوى الأول ، البسيط و القريب من لحظة اليقظة ، تقدم لنا ديرن
إمرأةً تعاني من عذابات / صراعات / تناقضات ، منها ما تعرفه و منها ما تشعر بتأثيره
عليها ، الوحدة ، و الإحباط ، و ربما هاجس الإنتحار ، (الوردة) التي تلتقطها
مطلع الفيلم هي (الشيء الجميل في حياتها) ، ربما الحب أو العاطفة أو رغبة الحياة
، في الواقع هذا ما تبدو عليه للآخرين ، تتجنب الكاميرا في هذا المستوى التعامل مع
وجه البطلة ، تلتقط يديها ، مشيتها ، ظلها على الحائط ، هذه الضبابية هي الصورة التي
تبدو عليها البطلة ، ينزلق المفتاح عبر الدرج فتحاول اللحاق به و التقاطه ، في المنزل
تجد سكيناً في قطعة خبز و هاتفاً رفعت سماعته و نافذة مفتوحة و فونوغرافاً يعمل ، يتضح
لنا هنا أنها لا تعيش وحدها ، تذهب في النوم ، لترى في حلمها – او المستوى الثاني
من الحلم - انها تطارد شخصاً بوجه مرآة يحمل وردتها ، الشيء الجميل في حياتها ، الكاميرا
في هذا المستوى تلتقط وجه البطلة ، هي هنا نظرة البطلة لذاتها ، تعجز عن اللحاق بذلك
الكائن الغريب ، و في منظور المستوى الثاني من الحلم يبدو هذا تعبيراً عن عجزها الحقيقي
عن ادراك مكمن (مخاوفها) التي تسرق (الشيء الجميل في حياتها) ، تنصرف الى منزلها ، تعثر على السكين
و على سماعة الهاتف مجدداً ، (سماعة الهاتف) تبدو رمزاً للهاجس الذي يناديها و لا تأبه له فتغلقه
كل مرة ، و (السكين) هنا هي كنايةٌ عن (النهاية) ، في هذا المستوى
لا تدرك البطلة ذلك (الهاجس) و لا تدرك كيفية (النهاية) ، نرى – من خلال
كاميرا هاميد و أداء ديرن - كياناً ثقيلاً يمنعها عن البقاء في غرفتها ، بطلة ديرن هنا تعاني
العجز و الخوف من شيءٍ في ذاتها يمنعها عن اتخاذ قرارٍ تجاه من يسلبها الشيء الجميل
في حياتها ، ترى نفسها نائمةً في الغرفة ، تطل من الشباك على المستوى الثالث
من الحلم ، ترى نفسها مجدداً تطارد الكيان الغريب ذو وجه المرآة ، تنصرف الى منزلها
و تخرج المفتاح من فمها ، (المفتاح) هنا هو كنايةٌ عن (الحل) ، و وجوده يخرج
من فمها دليلٌ على أنها تملكه دون أن تدركه ، في المنزل ترى الكيان الغريب يصعد إلى
غرفتها حاملاً الوردة ، تجرؤ في هذا المستوى على ادراك أن هذا الكيان الغريب هو جزءٌ
من منزلها ، لكنها تصعد بصعوبةٍ وراءه من أجل اللحاق به ، لا تدركه لكنها تراه هناك
يضع الوردة في سريرها ، ترى الوردة سكيناً ، بطلة ديرن اقتربت اكثر من ملامسة
مخاوفها ، امتلكت الحل دون أن تدرك كينونته بعد ، ترى نفسها نائمةً تحلم ثم تنظر من
النافذة على مستوى رابعٍ للحلم ، نسخةٌ رابعة منها تطارد الكيان الغريب ثم تنصرف
الى منزلها ، المفتاح مجدداً موجودٌ في فمها ، لكنه يستحيل سكيناً هذه المرة ، العمق
الرابع للحلم يقدم حلاً ، نهايةً لكل شيء ، تعرضه على نسختيها الأخريين كـ(مفتاح /
حَل) ، لا يكون سوى مجرد مفتاحٍ بالنسبة لهن ، لكنه يستحيل سكيناً في يد النسخة الثالثة
، في أعمق أعماق الحلم ، حيث المستوى الرابع ، تكسر الشخصية قيودها و تعثر على الحل الذي يحررها
و هو حل ترفضه نسخ المستويين الثاني و الثالث كنايةً عن ضعف و هشاشة البطلة و عدم قدرتها
على اتخاذ قرارٍ كهذا ، هي تعرف الآن (كيف ستتصرف) ، لكنها لا تعرف (تجاه من ستتصرف) ، تتوجه
النسخة الرابعة نحو النسخة الأولى النائمة لإنهاء كل شيء ، تسير على الرمل و العشب
و الأسفلت و السجاد كنايةً عن طول المسافة التي استغرقها فعلٌ كهذا ، عند لحظة الفعل
تستيقظ النسخة الأولى هلعة على وجه حبيبها ، استيقاظها هنا رمزيٌ بحد ذاته ، هي تذهب
في مستوى أعمق للحلم حيث تتحرر من وعيها و تدرك في لحظة (الإستيقاظ) هذه (تجاه من ستتصرف)
، تصعد وراء حبيبها الذي يحمل (الوردة / الشيء الذي تحب) ، نراه يغلق (الهاتف / الهاجس)
، تراه على نفس هيئة الكيان الغامض يضع الوردة في سريرها و ترى وجهه في المرآة ، تستلقي
الى جوار وردتها التي تستحيل (سكيناً / نهايةً) لكل ما يجري ، توجه السكين باتجاه رجلها فتتحطم
مرآته و يلتهمها البحر ، في المستوى الأخير من الحلم نرى من شباك النافذة رجلها هذه المرة
– و ليس بهيئة الكائن الغريب – يعود إلى المنزل ليرى الوردة مرميةً في الخارج ، و يراها
هناك ، تجلس على كرسيها و قد أنهت كل شيء ، مخاوفها ، تطلعاتها المكتومة ، ذكوريته
، تحررت و انعتقت من هواجسها التي لا تهدأ .
هذا الإعتماد الواضح على الرمزية في التعامل مع سريالية الحلم قد يصنع مشكلة تقبلٍ لدى البعض و مشكلة ديمومةٍ لدى
بعضٍ آخر ، مع ذلك فالسرد المقدم مفتوحٌ على قراءاتٍ متعددة قائمة على طرق التوظيف
المختلفة للرمز في السينما ، ما يهم هنا أن ديرن تحقق مبتغاها ، تتناول
مخاوف بطلتها و التي هي مخاوف المرأة من الرجل عموماً ، مخاوفها الموجودة في عقلها
الباطن و التي هي بحاجةٍ لتحريرها أولاً كي تتحرر ، تنجز ديرن تلك الصورة بأقل
التكاليف الممكنة ، كتبت فقط خطوطاً عريضةً للحكاية ، قامت بالبطولة مع زوجها و هو
ذاته الذي نفذ التصوير السينمائي بكاميرا 16 ملم متواضعة ، حتى أن ديرن أضافت الموسيقى
التصويرية بعد 13عاماً بفضل تعاونها مع زوجها الثالث الموسيقار الياباني تيجي آيتو ، بهذه
الأدوات فقط عاش هذا الفيلم ، و بهذه الأدوات وضعت ديرن لإسمها مكاناً في
تاريخ السينما .
التقييم من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق