كتب : عماد العذري
بطولة : فيليب سيمور هوفمان , لورا ليني
إخراج : تمارا جينكينز
الفيلم الثاني للمخرجة تمارا جينكينز
يحكي قصة الأخوين
سافج الذين تضطرهما الظروف لوضع خلافاتهما جانباً من أجل حل مشكلة والدهما
المريض , ويندي
كاتبة مسرحية تقطن في نيويورك و تكافح في أعمال مختلفة لخلق إحساس حقيقي بذاتها
بعيداً عن حقيقة فشل أعمالها المسرحية , علاوةً على مشاكلها العاطفية مع رجل متزوج
يكبرها بثلاثة عشر عاماً , و قلقها الدائم و المستمر تجاه تظاهرها بالسعادة النابع
من حقيقة نجاح شقيقها الأكبر جون .
جون بروفسور في تاريخ المسرح يقيم في بوفالو ,
حققت كتاباته نجاحات ملحوظة , الأمر الذي يشكل إحباطاً دائماً لدى شقيقته من فكرة
المقارنة معه , لكن حياة جون لامعة في قشرتها فقط , الرجل يعاني مشاكل واضحة في
التركيز على إكمال كتابه القادم , بالإضافة إلى إفشاله الدائم لمشروع زواجه من
صديقته التي ستغادر الولايات المتحدة إلى وطنها بولندا , كل هذا يتغير عندما يضطر
الشقيقان للوقوف إلى جوار بعضهما عندما يبدأ والدهما رحلته المريرة نحو الخرف .
هذا واحد من أجمل إنتاجات العقد الماضي و
أقربها إلى قلبي ، لا طريقة استطيع أن اصف بها مقدار متعتي عندما استذكر مشهداً
منه و لا أتذكر كم مرةً فعلتها منذ المشاهدة الأولى , تمارا جينكينز تتجاوز حقيقة
الحبكة المكررة التي يعاني منها نصها , فتغذيه بأكبر قدر ممكن من الحميمية , و لو
سلمنا بحقيقة أن تكرار هذه الحبكة - الذي يجعلك ترسم خط سيرها حتى النهاية أثناء
المشاهدة - يُفترض أن يفقد المشاهد جزءاً من الإهتمام بأحداث الفيلم , إلا أن هذا
لا يحدث بالصورة التي نتخيلها , فالحميمية التي تمد بها جينكينز نصها أبدعت في الواقع
شخصيات حقيقية و حية , أزمة منتصف العمر التي يمر بها شقيقان في أواخر عقدهما
الرابع تطفو على هذه الحبكة , و تجعل من التفاصيل التي تغذيها الشيء الأهم لدى
المشاهد , أهم هذه التفاصيل هي جزئية التظاهر التي تصيبهما في هذه المرحلة العمرية
, التظاهر بالنجاح , التظاهر بالسعادة , التظاهر بالإستقرار العاطفي , تظاهرٌ
تعالجه جينكينز
ببراعة من خلال البحث عن منبعه الأم ، (فقدان الإهتمام) , جينكينز تقول بأن المرء يبدأ
بالتظاهر عندما يفقد إهتمام المحيطين به , ويندي و جون فقدا إهتمامهما تجاه
بعضهما منذ زمن طويل نتيجة معاملة سيئة تعرضا لها في طفولتهما من قبل والد مهمل ,
إهتمام مفقود منذ الطفولة لدرجة أن ويندي تندهش عندما ترى صورةً قديمةً لشقيقها
يضع تقويماً للأسنان في فمه !! , فقدان الإهتمام الذي يحدث يجعل كل منهما يتظاهر
بنجاحه أمام الآخر , ربما في ذلك وسيلةٌ لإستعادة ذلك الإهتمام من خلال استدعاء
الشيء المشترك الجميل الذي جمعهما ذات يوم ، و هو تظاهر ينتهي إلى مواجهة عندما
تصر ويندي
على نقل والدهم إلى مأوى جديد للمسنين بدلاً من مأوى الزنوج الذي يقيم فيه ,
إنتقال يراه جون أنانيةً واضحةً لأنه ينبع من حقيقة أن ويندي – بدافع من تظاهرها و
حبها للشكليات - تحب (هي) أن تكون مرتاحة عندما تزور والدها في مأوى فخم
كهذا و ليس من كون والدها سيكون مرتاحاً في ذلك المأوى !
فقدان الإهتمام الذي وَلّد هذا التظاهر قاد
بطبيعة الحال إلى الغيرة , غيرة خفية من نجاح بعضهما البعض تجعل من فكرة نيل ويندي
منحة لدى مؤسسة
غوغونايم - التي رفضت جون ست مرات من قبل - أمراً غير مصدقٍ من قبله , فيسعى
نحو حقيقة الأمر ليكتشف حقيقة شقيقته التي تتظاهر بنجاحها أمامه .
ويندي بالمقابل تنهي علاقتها العاطفية مع الرجل
المتزوج عندما تدرك بأنها تتظاهر بأنها سعيدة معه , و عندما تشعر بفقدان الإهتمام
الحقيقي تجاهها المتبلور (الآن) في حقيقة أنه قتل نبتتها عندما تركتها لديه
للإعتناء بها في رمزية بسيطة لفكرة الإهتمام المفقود , هذا الإهتمام تجده ويندي في
شاب نيجيري يشرف على رعاية والدها و يمنح كتاباتها إهتماماً حقيقياً و يبدي رأيه
المتواضع فيها , وهو أمر دفعها في لحظة نشوة نادرة لتفعل ما فعلته مع الشخص الوحيد
الذي قدرها و قدر ما تفعله , ذات الأمر الذي يتكرر مع جون الذي يبكي في كل مرة تطبخ له
صديقته البيض , محور تزينه الخاتمة المملؤة بالأمل التي تصنعها جينكينز
عندما يمنح جون قليلاً من الإهتمام و التقدير لشقيقته و يحضر بروفات مسرحيتها
الجديدة .
كل ذلك الحديث عن التوازن الذي تخلقه جينكينز
بين الإهتمام
المفقود و التظاهر المستدعى ما كان ليبلغ قيمته كما يجب برأيي لولا أداءان
عظيمان من الرائعين دوماً فيليب سيمور هوفمان و لورا ليني ، واحدة من أجمل
حالات الكيمياء التي حققها العقد الماضي ، سيمور هوفمان يملأ دوره تماماً ، لا نشعر معه
بأي ضغينةٍ من أي نوع تجاه شقيقته ، ظاهرياً يندهش من حجم قدرتها على الإنكار و
التمسك بماكياج أزيل نصفه ، و داخلياً هو يرثي لها مدفوعاً بعاطفة الشقيق تجاه
شقيقته التي احتل وجودها جزءاً كبيراً من عالمه ذات يوم ، دون أن يخفي حالة
الإستثارة التي تطبع تصرفاته عندما يشعر – مخدوعاً – بأن ويندي تفوقت عليه في شيء
، سيمور
هوفمان يمنحنا ذلك بالحد الأدنى من الحوار الذي تصرفه الشخصية في الواقع
للحديث عن نفسها و ليس عن مشاعرها تجاه الآخرين ، بالمقابل تجسد ليني في ويندي
تظاهر إمرأةٍ بائسةٍ لا تتماهى مع القناع الذي ترتديه و تحاول من حينٍ لآخر أن
تتحسسه لتتأكد أنه لم يلتصق بوجهها بعد ، محبتها لشقيقها واضحة ، لكنها بالمقابل
تحب أن يشعر هو تجاهها بذات الشعور مدفوعاً بإحترامه و تقديره لما تقوم به و ليس
برابط الدم الذي يجري في عروقه ، و هي قنوعةٌ بالمجمل ، كلمةٌ واحدةٌ تكون كافيةً
لإرضائها و جعلها تشعر بكينونتها ، ليني تمزج ذلك بإتقان و تقدمه بتمكنِ ممثلةٍ
تجيد القبض على جوهر مشاعر الأخوّة كما فعلت قبل سبع سنواتٍ في You Can Count on Me ، أدائها الآخر الذي منحها – كما هنا –
ترشيحاً للأوسكار .
جينكينز تمكنت بطريقة ما من تجاوز
بساطة و تقليدية و تكرارية حبكتها عن المحنة التي تجمع الفرقاء و تعيد صياغة
حياتهم من خلال عمل يُحترَم على التفاصيل و تكثيف ممتاز على لغة الجسد لملء فراغات
المشاهد شبه الصامتة ثم الدفع من حينٍ لآخر بمواجهةٍ حواريةٍ بين الشقيقين تبدو جينكينز
و كأنما تدرك تماماً ما تعنيه للمشاهد في أفلامٍ كهذه ، جينكينز تستلذ بتقديم
المواجهات الحوارية ، و هي مواجهاتٌ عززها من جهة الإستناد لواحدةٍ من أجمل
المباريات الأدائية التي شاهدتها خلال السنوات القليلة الماضية , و من جهةٍ أخرى تدفقٌ
قصصي / مشهدي يمنح لكل مواجهةٍ منها مذاقاً خاصاً لذيذاً مع كل إعادةٍ لها .
في عمق العمق لا يبدو هذا فيلماً عن علاقة
أخوةٍ مستفزةٍ من أجل والدٍ لا يبدو - في الخلفية البعيدة غير المبتذلة للحدث – و
كأنما كان والداً جيداً لجون و ويندي ، الفيلم هو عن إعادة ترتيب و تشكيل
علاقاتنا و روابطنا الأزلية التي لا مجال لإنفصامها أو التملص منها على هامش
استفزازها الذي يحدث من حينٍ لآخر ، لسببٍ أو لآخر ، عن إعادة وضع معايير تتناسب
مع الحالة التي تمر بها أطراف العلاقة تكفل لها بقائها حيةً و نابضةً على الدوام .
التقييم من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق