•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الاثنين، 16 يونيو 2008

Sweeney Todd: The Demon Barber of Fleet Street

كتب : عماد العذري

بطولة : جوني ديب , هيلينا بونهام كارتر , آلن ريكمان
إخراج : تيم بيرتون

لفترةٍ طويلةٍ من الزمن كان هذا الفيلم حلماً من أحلام تيم بيرتن. فُتن في شبابه بمسرحية ستيفن سوندهايم ذائعة الصيت وكان يحلم فيما لو أصبح مخرجاً سينمائياً ذات يوم أن يمنحها اقتباساً سينمائياً يليق بها. وعندما سنحت له الفرصة لم يجد القبول الكافي من ستيفن سوندهايم في فترةٍ اقترب فيها سام مينديز من التصدي للعمل السينمائي. لكن بيرتن سرعان ما استطاع أن يصنع حالةً من تقارب وجهات النظر مع سوندهايم عقب انشغال سام مينديز بفيلم Jarehead فحصل على ما أراد. قال له ستيفن سوندهايم بعد ذلك (كل ما أطمح إليه هو ممثل يغني ، وليس مغنياً يمثل). تيم بيرتن منحه جوني ديب ، في ذروة نجوميته !

اللقاء السادس بين تيم بيرتن و جوني ديب هو عملٌ غنائيٌ ينتمي لفئةٍ فريدةٍ من نوعها. يحقق فيه بيرتن معادلةً صعبةً للغاية تربط الصورة الإفتراضية (المبهجة) للفيلم الغنائي بالصورة الدموية (الكئيبة) لأفلام الجريمة ! معادلة تخلق ربما الفيلم الموسيقي الأكثر دمويةً في تاريخ السينما كله ! حكايةٌ عن الحلاق المغدور بينجامين باركر الذي سرقت منه زوجته و إبنته و رمي في السجن لخمسة عشر عاماً ، والذي يعود إلى فليت ستريت في لندن تحت إسم سويني تود ليفتتح صالونه الجديد. الصالون الذي تميز عن غيره بأن كل من زاره لم يعد منه بعد ذلك ! كل هذا بمساعدة جهنمية من عشيقته وزوجته الجديدة مسز لوفيت صانعة الفطائر الشيطانية التي تصنع من لحم الضحايا ألذ الفطائر في لندن !

في ظاهر الحكاية هناك الكثير من الألم. ألمٌ لا يصلنا مباشرةً لكنه سرعان ما يتسلل ليطبع كل شيءٍ بالسواد. منذ لقطته الأولى بل ومنذ تتراته الإفتتاحية يوجه تيم بيرتن مشاهده نحو لندن ، مسرح الأحداث. تأسيس للعلاقة المطلوبة بين المشاهد وما يشاهده أو بمعنى آخر ما يجب عليه أن يشاهده. يخلق طبقة سوادٍ إضافية لطبقة السواد التي تلف قلب شخصيته الرئيسية التي تعود إلى مدينتها بعد 15 عاماً باحثةُ عن انتقامٍ نراه في عينيها قبل أن تحكي حكايتها لنا. يبلغ تيم بيرتن بالمكان الأثر الأقصى للتعبير قبل أن يحكي لنا أي شيء. يعمد بيرتن لتقديم لندن كما يفترض أن تبدو في عيني رجل كره إنحطاطها وعفنها. صورةٌ سوداء من لندن ديكنزية يخدمها بيرتن بإسراف من خلال عملٍ عظيم من مدير التصوير وأعظم من مصمم الإخراج الفني الذي يجعلها تبدو خارجةً من حكايةٍ مرعبةٍ في كتابٍ قديم. في الخلفية البعيدة للصورة هناك تباينٌ طبقي ، وفقرٌ ، وبطالةٌ ، وسحقٌ اجتماعي. هناك الأزقة , والمياه الراكدة ، والعفن ، والجرذان. صورة صنعت من لندن مرتعاً للقاذورات ومكاناً للرذيلة كما يريد سويني تود أن يراها. تعبيرٌ بصريٌ لطالما أجاده بيرتن على الدوام : التمهيد لشخصياته من خلال انعكاسات الصورة قبل الحفر في الشخصية. شيءٌ لمسناه بوضوح في Edward Scissorhands و The Night Before Christmas مع هنري سيليك ، و بالتأكيد في Sleepy Hollow و The Corpse Bride وغيرها .

تحت سواد القشرة البصرية هناك طبقةٌ سوداء أخرى تغلف قلب شخصيته الرئيسية. طبقةٌ نستشفها من خلال أغنية على ظهر سفينة مطلع الفيلم ، ثم لا نلبث نلتقطها لاحقاً في كل تصرفاتها. الطبقة التي تغلف القلب دون ارادتنا وتحجبه عن ادراك أنها أصبحت طبقتين وثلاثاً وربما أربع لأن الأمر بحاجةٍ فقط لطبقةٍ سوداء واحدة كي يفقد المرء احساسه بما سواها ! وما أن يتحقق ذلك حتى يتغير كل شيءٍ للأبد. هذا الشعور يصلنا حرفياً مع سويني تود الذي بالرغم من ألمه الداخلي ومعاناته لا يخفي روحاً شيطانيةً استحوذت عليه الآن. الرجل الذي كان لطيفاً وساذجاً لكنه تحول إلى وحشٍ بالمعنى الحقيقي للكلمة. وهو معنىً سرعان ما تعززه الحكاية من خلال ظهور مسز لوفيت ، صانعة الفطائر التي تعاني كساد مهنتها. ما يجمع سويني تود بمسز لوفيت هو مزيجٌ من الحب والخواء والحقد والحزن والألم والمصلحة والبحث عن واجهةٍ إجتماعيةٍ لبعضهما البعض. لا يستطيع المشاهد إدراك أي من تلك الأسباب هو ما يحرك علاقتهما ببعضهما وهذا يحسب للنص ويدعم بإمتياز الصورة الشيطانية التي تبدوان عليها، وهي صورةٌ منبع وجودها هو الأثر الأسود الذي يصبغ به مسعى الإنتقام حياتهما إلى الدرجة التي تصبح معها محاولة الهروب منه هي الجنون ذاته ! منذ عودة بينجامين باركر إلى لندن لا نشعر بإكتراثه الحقيقي لمصير زوجته أو ابنته حتى عندما يعلم عن مكانها. يصبح الحقد تجاه مرتكب الخطيئة أكبر بكثير من محاولة تصحيحها ، وتصبح رغبة الإنتقام تجاه حياةٍ سُلِبت أكبر بكثير من رغبة الحفاظ على ما تبقى منها ! 

ينتصر إخراج بيرتن لنص لوغان و لمسرحية سوندهايم الموسيقية. هذا الفيلم لا يخرجه مخرجٌ متوسط ، ومحاولة ضبط إيقاع فيلمٍ موسيقي فيه كل هذا الكم من الدماء هي عمليةٌ يستحق انجازها رفع القبعة. بيرتن يلعب بحرفية في مساحةٍ ضيقةٍ للغاية تربط (الفيلم الغنائي) بـ (الفيلم الدموي). لا يحاول بهرجة الأول فيقلل من قيمة الثاني ، ولا يحاول الإسراف في الثاني والتمحور حوله فيجعل من الأول مجرد اضافةٍ ديكورية. اللعب في هذه المساحة يبدأ من خلق سوداوية وكآبة البيئة بفضل إضاءة داريوش ولسكي ومُنجزٍ عظيمٍ للإخراج الفني من دانتي فيريتي ومن خلال عملٍ مدروسٍ أيضاً على الماكياج يجعل من شخصياته أشبه بشخصياتٍ باهتةٍ عادت من الموت أو تقاد إليه. يمتد ذلك أيضاً إلى استخدام اغاني الفيلم كوسيلةٍ لإرضاء المشاهد والهروب به ، ليس من خلال الإبتعاد عن الحدث كي تبدو مجرد قطعةٍ إضافية لا قيمة لها ، بل من خلال استثمارها في سرد الحدث وخلفياته ومآلاته. أغانيه تتنوع بصورةٍ لافتة. تعلو و تهبط بمقدار ما تعلو النبرة الانتقامية و تهبط. يُشعرك هذا بقيمة أن ينتمي هذا الفيلم للأفلام الغنائية. مزاوجته بين الحوار والغناء هو النوع الذي أحبه. لكلٍ منهما شخصيته وحضوره المستقل. الحوار بمفرده مشبع ، والأغاني بمفردها فعالةٌ ومؤثرة ، لا يُعيد أحدهما الآخر بل يُضيف له ويغذيه. في الصورة الكبيرة لا وجود لإستعراضات ! مسرح أغاني هذا العمل ضيقٌ ومحدود ، حتى عندما يؤدي سويني تود احدى أغانيه في الشارع نكتشف أنه يؤديها في غرفته ! جميع أغانيه لا تقدم الكثير للبصر كي لا تهرب به من قسوة الحكاية ، وهذا التضاد المفترض بين (الغنائية) و (الدموية) ومحاولة بيرتن الحفاظ على التوازن (شبه المستحيل) بينهما قد يولد لدى البعض الثغرة الحقيقية للفيلم إن جازت تسميتها كذلك : العاطفة ! هذا فيلم عديم العاطفة ، أسودٌ كقلب سويني تود ذاته. لك أن تتماهى وتساق بسهولة مع الثنائي الجديد الذي يتشكل بين تود و لوفيت لكنك لا تسأل نفسك عن عمق الدوافع التي تحركهم وطبيعتها البشرية ، وهي دوافع يقفز عليها بيرتن من خلال تقديمه المبدئي لشخصية لوفيت : عانس أقرب للمجانين ، أكل الدهر عليها وشرب كما يُقال ، تخبز أسوأ الفطائر في لندن ولا يفكر أحد بالإقتراب من متجرها ! هذا الإنعدام العاطفي قد يقتل الفيلم لدى البعض و قد يقلل قيمته لدى البعض الآخر ، و هو لا يأتي صدفةً أو دون توجيه. نراه يتكرر مجدداً مع ثنائية جوانا و أنتوني التي بالرغم من تمكن بناءها وجودته تفقد تعاطف المشاهد وتواصله معها. بيرتن صبغ فيلمه بسواد شديد جعلته ربما (أكثر الأفلام الموسيقية قسوة و دموية على الإطلاق) ، و رصعه بمجموعة من الأغاني التي تضرب في صميم الأثر العميق الذي تحدثه الرغبة الفتاكة بالإنتقام أخص منها أغنيات My Friends و Johanna و Pretty Women وعلى الأخص A Little Priest التي يتبادل فيها الزوجان السفاحان الحديث عن مذاق الفطائر الآدمية ، يتوج ذاك بالتأكيد أداءٌ حيويٌ فعالٌ من هيلينا بونهام كارتر يمنح شخصية مسز لوفيت نبرة كوميدية منخفضةً ولذيذةً جداً ، وأداء عظيم من جوني ديب في دور الحلاق المغدور : إنطلاقه من خلفيته الموسيقية ، احساسه العالي بالأغاني ، غضبه الذي يبقى تحت السطح في أكثر حالاته هدوءاً ، والنشوة التي يصدح بها وجهه و هو يهتف بإسم (بينجامين باركر) محققاً إنتقامه الأخير ، كل تلك العناصر تجعله عملاً غنائياً يبقى في الذاكرة .

التقييم من 10 : 8.5


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters