كتب : عماد العذري
بطولة : تشاو مينغ تسوي ، وي لي
إخراج : مو فاي
حقق الصيني مو فاي –
أحد أهم أسماء الجيل الثاني في السينما الصينية – عمله السينمائي السابع بعدما
وضعت الحرب أوزارها ، كان مثل حقبته ، أشبه بمرحلةٍ إنتقاليةٍ بين صين الإحتلال
الياباني ، و صين الثورة الشيوعية ، بعد عامٍ واحد من إطلاقه كان قد تعرّض لكمٍ من
التجاهل و التشويه و الإضطهاد من قبل القوة الحمراء الصاعدة التي كانت تعاقبه على
أفكاره اليمينية المحافظة ، سرعان ما أصبح الفيلم شيئاً من الذكرى ، كحال مخرجه
تماماً .
بعد فيلمٍ ثامن انتقل
مو فاي
إلى هونغ
كونغ هرباً من الصين الجديدة ، عاش هناك ثلاثة أعوامٍ قبل أن يرحل في
الخامسة و الأربعين من عمره ، أكثر من ثلاثة عقودٍ مضت قبل أن يزيل مجموعةٌ من طلاب
السينما الشباب و مخرجيها الصاعدين الغبار عن هذه الكلاسيكية ، درسوها و تعلموا
منها و آمنوا ربما بأن بلادهم كانت قد قدمت سينما عظيمة ذات يوم ، أعادوا ترميم
الفيلم و قاموا بعرضه للجمهور ، أعادوه للحياة من جديد ، أولئك الشباب شكّلوا
لاحقاً ما عرف بالجيل الخامس – الأعظم و الأكثر تأثيراً – في السينما الصينية .
مو فاي يقص علينا حكاية وي وي ،
إمرأةٌ ثلاثينية متزوجةٌ من مالك أراضٍ شاب ، تقيم معه رفقة شقيقته الصغرى في
بلدةٍ صينيةٍ صغيرة ، زوجها يعاني إكتئاباً حاداً و ربما مرضاً عضوياً غير ظاهر
يعتقد أنه السل ، بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية يزورهم صديقه الطبيب الذي
تكتشف بمقدمه أنه جارها و حبيبها القديم ، و وسط حالة المعاناة التي تعيشها ، تعود
علاقة الحب القديمة لتزهر في هذا الربيع العابر .
كتب لي فيانجي
هذا النص اقتباساً عن قصته القصيرة ، قصته ذاتها تبدو مزيجاً غير أصيل من كل عملٍ
أدبيٍ تناول مثلث الحب ، و الأصالة هي ليست الشيء الذي يراهن عليه هذا العمل ،
رهانه الحقيقي يقوم على قدرته من خلال مثلث الحب الذي يتناوله على إعادة توصيف
المزاج السياسي و الإجتماعي الذي يسيطر على العملاق الأصفر الخارج للتو من أعنف
الحروب البشرية ، و هو ينتج شيئاً عظيماً في مسعاه ذاك .
في الظاهر تبدو
تعقيدات مثلث الحب التي يقدمها كلاسيكيةً جداً سواءً على مستوى الشكل الظاهري أو
حتى المضمون الظاهري ، لدينا هنا إمرأةٌ تسرد علينا من خلال صوت الراوي معاناتها
مع روتين حياةٍ وجدت نفسها تعيشها ، حياةٌ لا تكرهها بقدر ما هي لا تحبها ، وسط
خريفها تعيش ربيعاً عابراً مع حبٍ غير متوقع ، تعقيدات الشكل و المضمون وحدها لا
يمكن أن نميزها مثلاً عن كلاسيكية ديفيد لين Brief Encounter التي سبقتها بثلاثة أعوام
، لا أدري إذا ما كان مو فاي قد شاهد فيلم ديفيد لين في حينه ، لكن عظمة
هذا النص أنه يستغل ذلك التوليف الذي يقدم مزيجاً من صراع مثلث الحب و المناجاة
الداخلية الميلودرامية لإمرأةٍ سحقتها الظروف عاطفياً من أجل أن يذهب أعمق في
الخصوصية الزمانية و المكانية للحكاية ، ما يجعل فيلم ديفيد لين مختلفاً أنه يحصل
على قيمته مهما اختلف زمان و مكان الحكاية ، فيلم مو فاي وثيق الإرتباط بزمانه و
مكانه و من الصعب تقدير ما تقدمه الحكاية كما يجب بصورةٍ منفصلةٍ عن التحولات
الإجتماعية السياسية لصين ما بعد الحرب ، أجمل ما فيه و هو يفعل ذلك أنه لا ينجرف
في المنحى الميلودرامي الظاهر للحكاية ، كان ذلك ليكون بائساً جداً و ربما كان
ليسلبه قيمة اللعب على المعاني المضمنة للشخصيات ، معالجة الفيلم لحكايةٍ بمثل هذه
الكلاسيكية تقف بشخصياتها على حدٍ فاصل : بين الإرتهان للقديم ، الموروث ، و
الإستسلام له بكل ما فيه من قيود ، أو الإنقياد لهاجس التحرر بكل ما فيه من
اندفاعٍ عاطفي ، بطلة مو فاي - التي يقدم فيها استعارةً صريحةً لصين ما بعد
الحرب - تقف بين حقبتين / شخصين / واقعين لعالمٍ ينعتق من ارث الحرب ، مو فاي و
كأنما يستشعر ثورةً قادمةً ، ثورةً هلامية المستقبل كما هو حال الفرق الهلامي بين
شخصيتيه الذكوريتين : ليس العمر ، أو التوقيت ، أو الرغبة ، الفرق بينهما هو الروح
، حس الإندثار - الذي يكاد ينطق على الشاشة - في شخصية الزوج ، و رغبة الإنطلاق و
التحرر و الأمل التي نراها في عيني الطبيب ، إحساسنا بالموت الروحي للزوج لا
يتوازى مع تقديم شخصية الطبيب بصورةٍ أفضل ، فقط تبدو الروح هي فرقهما الحقيقي ،
ذلك الفرق الهلامي هو ما تدركه الزوجة و تنجرف فيه لحظياً قبل أن يقيدها الكثير من
الموروث و خوف المغامرة و تأنيب الذات .
على مدار كل ذلك هناك
سور
البلدة الذي يبدو استعارة مو فاي لسور الصين العظيم ، الشاهد على كل راحلٍ و
قادم و حيث يتغير كل شيء لكنه لا يتغير ، ذلك السور هو ملجأ وي وي في
ساعات وحدتها ، يبدو الموروث ثقيل الوطأة على كل رغبةٍ تحرريةٍ لدى بطل مو فاي ،
حتى حبيبها القديم / الجديد تأخذه إلى هناك ، يبرع مو فاي في الكثير من المشاهد
التي تجمع شخصيات العمل مع بعضها في التأكيد على أفكاره اليمينية ، ربما لم تكن وي وي
بحاجةٍ لإنقلابٍ جذريٍ في حياتها ، ربما هي بحاجةٍ لكلمة ، لإبتسامة ، لفعلٍ
تشاركي ، لنزهة ، لا يحاول من خلال حكايته أن يقدم مستقبلاً عظيماً لمغامرة وي وي مع
حبيبها الطبيب ، بل يصر على التمسك بحس (المغامرة) فيها ، و هو حسٌ سيصطدم لدى المشاهد
لا محالة مع حياة الوفرة التي تعيشها مع زوجها الآن ، معنى يؤكده مو فاي
من خلال المشاعر التي تشكلها الشقيقة الصغرى تجاه الطبيب ، يبدو التغيير الجذري الذي
تقدمه صورة الطبيب في الحكاية و كأنما له ما يقابله و يليق به : فتاةٌ شابةٌ لم
تختبر الحب من قبل و لم تشكل عواطف تجاه أحد ، يرينا في شخصية الشقيقة الصغرى
المكافىء الأنثوي الذي يليق بشخصية الطبيب ، المكافىء الذي يروق لشقيقها ، و يقسم
زوجته على ذاتها .
وراء ذلك هناك
استعارة الربيع
ذاته كبيئةٍ زمانيةٍ داخل البيئة الزمانية للحدث ، ربيع ما بعد الحرب ، دائماً ما
كان الربيع بالرغم من جماله مرحلةً إنتقاليةً بين نقيضين ، و هو في تداخله هنا مع
حقبة ما بعد الحرب يخلق معنى مزدوجاً للزمان ، شيءٌ أشبه بنبوءةٍ عن مصير العملاق
الأصفر الذي يسير في درب جاره السوفييتي الذي يقوده الحمر منذ ثلاثة عقود ، مو فاي
يتجاوز من خلال حكايته ما يمكن أن تقدمه لنا سطورها المجردة عن مثلث حب و إمرأةٍ
سحقتها العاطفة ، ما بين السطور بليغٌ جداً لأن أحاسيس شخصياته تجاه بعضها ظاهرٌ
جداً ، لا وجود هنا لشخصياتٍ سلبية ، مع ذلك هو قادرٌ على توليد الصراع بين السطور
مستغلاً عواطف الشخصيات و تفاعلها (الظاهر و الباطن) مع تلك العواطف ، و في هذا
الموزاييك لا نحتاج للكثير من الحفر أو الكثير من الحوار لنستشف ما تحمله الشخصيات
الأربع لبعضها ، لا أدري كيف فعلها ، لكنني أقدر عمله جداً على هذا المستوى .
لا أستطيع أن أراهن
على أن مو
فاي شاهد الكثير من الأعمال السينمائية في تلك الحقبة من تاريخ الصين ، لكن
لغته الإخراجية فيها الكثير من تدفق كاميرا ميزغوتشي و إطارات أوزو
الثابتة ، مع شيءٍ من روح أوفولس و سيرك تشع داخل كل كادر ، و بالتأكيد بعضٌ من
إيقاع ديفيد
لين في بداياته حيث تتحرك الأحداث و لا تتسارع ، و بقدر ما يبدو من الصعب
الرهان على كونه تأثر بأيٍ منهم يبدو حتى الرهان على كونه أثر في الآخرين صعباً ،
ربما يمكن بسهولةٍ أن نربطه بـ Hiroshima mon amour و Red Desert وصولاً إلى In the Mood for Love ، علاقته بالمكان على
سبيل المثال تبدو مؤثراً ربما غير مباشرٍ في سينما تاركوفسكي ، صحيح أن تاركوفسكي
تأثر بالأساس بميزغوتشي ، لكن مشاهدة السور في هذه الحكاية ، العشب ، المنزل ،
الحديقة الخلفية ، جميعها تستحث حميمية مخرجٍ يستذكر شيئاً من ذاته و ماضيه بصورةٍ
غايةٍ في الشاعرية .
تعرض مو فاي
للإضطهاد بسبب الأفكار اليمينية المحافظة التي رأتها ثورة الحمر في فيلمه ، بعد
سنواتٍ من اعادة انبعاثه على يدي مخرجي الجيل الخامس كرّم في أكثر من استفتاء كـ (أعظم فيلم في
تاريخ السينما الصينية) ، بعيداً عن اتفاقك مع ذلك أو اختلافك يبقى هذا
الفيلم العنوان الأبرز لدى كل عاشقٍ سينمائيٍ يرغب في الذهاب بمشاهداته أبعد من
حدود مخرجي الجيل الخامس في السينما الصينية .
التقييم من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق