كتب : عماد العذري
بطولة : مايكل كين ، هارفي كايتل ،
ريتشل فايز ، بول دانو
إخراج : باولو سورنتينو (2015)
في تحفته La Dolce Vita طارد فيلليني بطله مارشيلو روبيني
على مدار سبعة أيامٍ في مسعى السعادة و الحب في أكبر متحفٍ مفتوحٍ في العالم ، و
في فيلمه الماضي The Great Beauty نظر باولو سورنتينو إلى نهاية طريق مارشيلو روبيني وهو
يراقب بطله جيب غامبارديلا في مسعاه لتجفيف منابع التعاسة المتسربة إلى
حياته بعد كل هذه السنوات في ذات المتحف المفتوح ، في فيلمه الجديد يتخلى سورنتينو عن
ثنائية السعادة / التعاسة التي حيا بها فيلليني على طريقته و يتخلى عن متحفه المفتوح أيضاً ، يحتجز
شخصياته في أحد منتجعات سويسرا ليحدثنا عن الشيخوخة ، و الحب ، و الأثر ، و بقايا
شعلةٍ متقدة .
للمرة الثانية يقدم سورنتينو
فيلماً باللغة الإنجليزية بعد خيبة الأمل التي ولدها فيلمه الأول (مع شون بن) This Must Be the
Place ، لا توجد خيبة أملٍ
هنا ، الرجل يثبت مجدداً أنه واحدٌ من أهم صناع السينما في أوروبا اليوم ، جزءٌ
كبيرٌ منهم عجز عن الإحتفاظ ببريقه عندما ذهب للعمل مع نجوم هوليوود ، سورنتينو بعد فيلمٍ متوسط بالإنجليزية أثبت أنه تعلّم الدرس
.
في النص الذي كتبه سورنتينو
نرافق صديقين على أعتاب الثمانين في أحد المنتجعات السويسرية ، بريطاني و أميركي
جمعهما الشباب و الفن و الإرتباط العائلي ، عملا في الفن لعقودٍ طويلة و بحثا الآن
عن لوحةٍ ختاميةٍ لحياتهما ، فريد بيلنجر تقاعد عن العمل الموسيقي بالرغم من أنه
ما يزال يحن له و بالرغم من الضغط الممارس عليه من قصر باكنغهام لتقديم
كلاسيكيته (أغاني بسيطة) في عيد ميلاد الأمير فيليب حيث
سيكرّم على هامش ذلك بلقب (سير) ، و ميك بويل سيناريستٌ و مخرجٌ أميركي يحاول مع مساعديه
وضع اللمسات الأخيرة على نص الفيلم الأخير في مسيرته ، حولهم مجموعةٌ لا تقل عنهم
في غناها الداخلي : إبنةٌ / سكرتيرة تعيش تبعات انفصالها المفاجىء عن زوجها ، و
ممثلٌ هوليوودي ناجح ، و لاعب كرة قدمٍ أسطوري ، و متسلق جبال ، و ممثلةٌ كبيرةٌ
ترفض السينما من أجل إغراءات التلفيزيون ، و ملكة جمال العالم !
مجدداً ، شخصيات سورنتينو ليست من
العموم ، نخبةٌ يجمعهم مكانٌ للنخبة ، في هذا المنتجع السويسري يراقب سورنتينو
شخصياته (ذات المستويات العمرية المختلفة) و هي تتأمل تشكّل حكمتها من الحياة ، ما
الذي اكتشفوه مبكراً ، ما الذي كانوا يكابرون على تصديقه ، و ما الذي تصالحوا مع
كونه حقيقة ، وراء كلٍ منهم – كحال شخصيات سورنتينو السابقة – هناك صراعٌ بديهيٌ بين الماضي و المستقبل يديره
حاضر كل شخصيةٍ بالطبع ، لهذا الصراع بنيةٌ داخلية (مضمون) و بنيةٌ خارجية
(شكل) ، و الشكل و المضمون يتحدان في هارموني لا أعتقد أن سورنتينو قد
بلغه سابقاً ، في (المضمون) هناك – كعادته – مواضيع رئيسية تدور حولها مواضيع
ثانوية ، في المحور يضع الرجل ثنائية الشيخوخة / الشباب بمعانيها و استعاراتها
المتعددة ، و ينسج حولها تفاصيل أخرى عن الحب و المستقبل و الحكمة و الجمال المفقود ليتأمل من خلال كل ذلك المعنى الحقيقي للحرية كما
تراه شخصياته ، في (الشكل) لا يكتفي سورنتينو أن يجعل بطله الرئيسي موسيقاراً و قائداً لأوركسترا ،
أعتقد أنه يستلهم روح الأوركسترا في تصميم شكل حكايته ، يعتمد – كما الأوركسترا –
على قطع و عناصر كثيرةٍ مختلفةٍ و متنافرة ، يحاول من خلال رصفها و ربطها ببعضها
البعض خلق الهارموني المناسب الذي يتولّد عنه النغم ، المكان هنا عنصرٌ رئيسيٌ
جداً في تجسيد شكل (الأوركسترا) المنشودة ، سورنتينو في جميع
أفلامه يحتفي بالمكان و يتعامل مع وجوده كعنصرٍ أكبر تأثيراً من مجرد كونه خلفيةً
بصريةً (تماماً مثلما كان يفعل فيلليني) ، من الصعب القول أن فيلماً ما استطاع أن يشركك مع
شخصياته فعلاً في (المكان) ، من الممكن أن يجعلك تشاركهم (الحالة) ، من
الممكن أن يحصرك في المكان من خلال خنقه بصرياً ، لكن من النادر أن تشعر بشعور
المشاركة الكاملة مع الشخصيات في مكانٍ (بمثل هذه الرحابة) ، يستفيد سورنتينو
دائماً من بيئات أحداثه ، بيئات أفلامه هي بيئاتٌ نظيفة (بالمفهوم البيولوجي
للعبارة) و هو تفصيلٌ لا يمكن الإستهانة بتأثيره على بريق الصورة التي تصنع منها
الإضاءة الطبيعية و كادرات لوكا بيغازي شيئاً للذكرى ، المشاهد هنا (يعيش) في المنتجع و
لا يكتفي بمشاهدته ، يلتقط تفاصيله المادية و يتنفس هوائه و يلتحم مع المود الذي
يفترض أن يخلفه الوجود الفعلي هناك ، أعترف أنني لم أشعر بهذا الشعور تجاه (المكان) في
فيلمٍ ما منذ زمن .
في محور الحكاية هناك فريد بيلنجر (يؤديه بعظمة السير مايكل كين في محاكاةٍ شكليةٍ لتوني سورفيلو في The Great Beauty) ، فريد موسيقار يجيء إلى هذا المنتجع السويسري منذ
عشرين عاماً بعد سنواتٍ قضاها في لندن و نيويورك ثم في فينيسيا حيث ترك زوجته التي بدأت تفقد ذاكرتها ، فريد شخصيةٌ حزينة كحال شخصياتٍ أخرى في الفيلم ، مصدر حزن فريد الحقيقي هو (الذاكرة) ، لا تؤلمه فكرة أنه لم يستطع في رحلته نحو المجد أن يبقي على زواجه متماسكاً
و يمنحه ما يستحق بقدر ما تؤلمه فكرة أن زواجه إستمر بالرغم من ذلك ، استمر بكثيرٍ
من تضحيات زوجته التي لا تتذكر شيئاً الآن ، ذاكرته هو تجاهها تعذبه ، تسحقه فكرة
بقاءه في ذاكرة كل من استمع لموسيقاه و كل هذا التقدير و الإحترام الذي ناله ،
بالرغم من هلامية صورته في الذاكرة الأهم بالنسبة له (ذاكرة زوجته) ، صورة كان ليبقيها سورنتينو مشوشةً تحت السطح لولا أنه يلجأ معها
للمباشرة من خلال مونولوج لإبنة فريد لينا الواقعة تحت تأثير صدمة انفصالها عن زوجها ، لينا ليست إبنة جاحدة رغم كونه يعلم أنه فعل الكثير لها بالرغم من أنها لا
تتذكر ، لكنه في الوقت ذاته يعلم مقدار ما تعرضت له هي و والدتها وهم يراقبون
مسيرته المهنية التي خاضها غير مكترثٍ لهم ، حرمهم من حنانه واهتمامه ، تغاضوا عن
تقصيره و ميوله الجنسية و عزلته في عالمه الخاص ، يعلم أنهم تغاضوا لأنهم يحبونه ،
عندما يستمع فريد لها وهي تعاتبه لا يبدي رد فعل ، هو يستمع لوالدتها في الواقع ، لينا بالمقابل
لم تكن تحاكمه بقدر ما هي تحاكم أنانية الرجل الذي تركها طفلة ثم تركها عندما
أصبحت زوجته ، كابوس فريد الذي يغرق - استلهاماً لفينيسيا – مستنجداً بزوجته
ميلاني ، لا يختلف عن كابوس الفيديو كليب الذي يشارك فيه زوج لينا فتاته
الجديدة بالوما فيث ويوقظ لينا ذات ليلة .
(الذاكرة) ، مصدر حزن فريد هي ذاتها ما تجمعه بصديقه ميك ، في واحدٍ من
أجمل مشاهد الفيلم يستذكران غيلدا بلاك ، صورةٌ قديمةٌ مشوشةٌ من حياتهما ، حلمٌ أراداه
ربما جميلاً رغم أن ميك يقر أنها لم تكن تستحق كل هذا الالتصاق بالذاكرة ، (غيلدا بلاك لم تكن
بقيمة يومٍ واحدٍ من حياتك) يقول ميك ، ما بقي من غيلدا بلاك هو بقايا حلمٍ راودنا ولم نستطع أن نقبض عليه ، هو
جميلٌ فقط لأننا ننظر له بعين الذاكرة ، ميك لا يختلف كثيراً عن فريد ، حياته
الحقيقية هي فنّه ، أعماله السينمائية و إرثه و بطلات أفلامه اللواتي يستذكرهن في
تحيةٍ لنساء غويدو في 81/2
، ميك أيضاً يعيش الآن على الذاكرة ، يحمل عقده الثامن على كتفيه
مشغولاً بمعدل تبوّله اليومي ، الفرق الحقيقي بين ميك و فريد هو مشروع
ميك القادم الذي يرى فيه وصيته ، يسميه أصلاً (آخر أيام العمر)
، في هذا المشروع سيضع مجدداً صديقته بريندا موريل في دور البطولة ، بريندا بالنسبة لميك لا تختلف
عن ميلاني بالنسبة لفريد ، ما يؤلمه فيها عندما تواجهه – في واحدٍ من أجمل مشاهد
الفيلم – ليس نظرتها التي تغيرت للحياة أو لجودة الأفلام التي أخرجها مؤخراً ، ما
يؤلمه هي (العشرة) ، إحساسه بالزمن الذي تصدع فجأة عن شيءٍ لم يكن يتوقعه
، سورنتينو يصنع مشهداً فاتناً في هذا اللقاء ، يبدأه بلقطةٍ
بعيدةٍ إستراقية مشوشة توازي قدم العلاقة بينهما ثم ينتقل إلى لقطاتٍ متوسطةٍ من
منظورين ليترجم مواجهتهما قبل أن ينتهي إلى لقطاتٍ مقربةٍ لكليهما وجهاً لوجه تتوازى
مع احساس الأسى الذي ينتهي إليه المشهد ، لقطاتٌ يسمح اقترابها من تجاعيد وجوههم و
أيديهم بإلتقاط نحت الزمن على عجوزين جمعهما 11 فيلماً على مدى 53 عاماً .
حول شخصيتيه الرئيسيتين مجموعةٌ من الشخصيات التي يكثف من خلالها سورنتينو مواضيعه
، لينا إبنة فريد و سكرتيرته ، جيمي تري الممثل الهوليوودي ، مارادونا لاعب كرة
القدم الأسطوري ، أخصائية المساج ، طفلةٌ تقضي اجازتها رفقة عائلتها ، طفلٌ يتدرب
على مقطوعات فريد الموسيقية ، زوجان صامتان ، راهبٌ بوذي ، فتاةٌ تبيع جسدها ،
متسلق جبال يدعى لوكا موردور ، بريندا موريل نجمة هوليوود التي تتجه للتلفيزيون ، و ملكة جمال
العالم ، الملفت أن سورنتينو في مسعى تناوله لثنائية الشيخوخة / الشباب
التي يضعها في صلب فيلمه لا يبتذل ثيمة (شباب الروح) ولا يتمحور حولها ، هو يؤمن من خلال شخصياته أن
الشيخوخة (بمفهومها المادي) آتيةٌ لا محالة ولهذا جعل مسرح أحداثه أحد منتجعات
سويسرا التي يقصدها الناس بحثاً عن (الشباب) ، المنتجع قائمٌ أساساً من أجل الإسترخاء و الإستشفاء
و إستعادة اللياقة الجسدية و الذهنية و لا يبدو قادراً على التعامل مع أبعاد (الشيخوخة)
الأخرى ، أمرٌ يخبرنا إياه سورنتينو من خلال المتوالية المونتاجية الصامتة لرواد المنتجع
الأشبه بالأسرى ، حس الخيبة و اللا أمل الذي يصلنا من تلك المتوالية صريحٌ و مباشر
، ربما هم يدركون أن ما يفعلونه – عملياً – هو محاولةٌ يائسةٌ لإستعادة مالا
يستعاد ، في التفاصيل يتناسب مستوى شيخوخة كل شخصية مع مستوى حكمتها الذاتية و تصالحها مع ما
هي ذاهبةٌ إليه ، في كثيرٍ من الأحيان يبدو الممثل جيمي
تري أكثر شيخوخةً من ميك أو لينا ، الشيخوخة في فيلم سورنتينو لها أبعادٌ و أشكالٌ معقدة
و متداخلة : علاقتنا بمن نحب (فريد / الزوجان الصامتان) ، الذاكرة (فريد / ميك /
بريندا موريل) ، الأسر الروحي العاطفي (فريد / جيمي تري) ، العجز
الجسدي (مارادونا / عددٌ آخر من الكراسي المتحركة في المنتجع) ، التقدم
في العمر (فريد / ميك / بريندا) ، الخوف
من المستقبل (مارادونا / بريندا) ، سورنتينو يعرّي الشكل
التقليدي للشيخوخة بعيداً عن تقليدية التضاد بين (شباب
الجسد) و (شباب الروح) اللذين يقدمهما أيضاً في صورةٍ صارخةٍ لملكة جمال العالم و متسلق
جبالٍ مغامر يتعمد سورنتينو ألا يكون شاباً ، ملكة الجمال آيةٌ من آيات جمال
الجسد ، عندما يلتقيها فريد في حلمه يذهب سورنتينو أبعد من مغازلة هواجس فريد نحو فينيسيا حيث تمكث زوجته ،
يجعلهما على التضاد في هذا الدرب الضيق ، تأتي هي من (اللاشيء) نحو (المجد) مفتونةً بجسدها و
بالأضواء المتلألئة أمامها ، بينما يمضي العجوز المنهك من (المجد) نحو (اللاشيء) ،
حتى اللاشيء يغرق قبل أن يبلغه ، بالمقابل يجسّد سورنتينو صورة شباب
الروح في متسلق جبالٍ مغامر يعشق الحرية و يعيشها ، يتودد إلى إمرأةٍ شابةٍ
هي لينا على مرأى من (شابٍ) لفتت نظره أيضاً ، كان لديه الجرأة لينهض من مكانه ليتحدث إليها ،
حياته كلها معلقةٌ بين السماء و الأرض ، ما يشعر به عندما يتسلق هو (الحرية) على عكس لينا التي تشعر بالخوف ، هذه
التوليفة العجيبة من الشخصيات تعيد التأكيد على فكرة (الأوركسترا) التي يضعها سورنتينو شكلاً يحكي من خلاله
حكاياته مخدوماً بقوة بشريط صوتٍ عظيم يتناوب بين المقطوعات الصوتية المعزوفة في
المنتجع ليلاً و إعطاء المساحة للصوت المعزول ليبرز بمفرده نهاراً بما في ذلك المقطوعات
الموسيقية الساحرة من ديفيد لانغ ، يتظافر ذلك مع المتواليات المونتاجية و الصور غير
المكتملة لبعض الحكايات (صفعة المرأة الصامتة لزوجها ، غضب الفتاة من والدتها ،
قصة الحب بين مساعدي ميك ، مغنية السهرة التي تتناول عشائها لاحقاً) ليخلق فينا حس
التناغم الموسيقي بصرياً إنطلاقاً من تنافر تفاصيله الصغيرة وهو تنافرٌ أعتقد أنه
أفرد لهذه الشخصيات الثانوية (جميع رواد المنتجع يمكن اعتبارهم شخصياتٍ ثانويةٍ
أيضاً) مساحةً من الصورة تجعلهم لا يفارقون الذاكرة بسهولة (مع أداءاتٍ ممتازةٍ من
الجميع) ، مساحةٌ أعتقد أنها أفادت سورنتينو في تناوله الأهم لـ (الحرية) .
الحرية (كثيمٍ أساسيٍ
لهذه الحكاية المتشعبة) هي إغراءٌ لا يمكن مقاومته (كما يقول فريد) ، حرية إختيار
الثقل أو الخفة الذي ربط إسم جيمي تري بدوره في (مستر كيو) ، و ربط إسم فريد بأغانيه البسيطة ، الحرية (أو رائحة الحرية) كما
تسميها لينا هي ما تربط هذه الشخصيات ببعضها وسط تباين أبعاد الشيخوخة
التي أسسها سورنتينو عليها ، الحرية (لدى شخصياتٍ ترتكز على ذاكرتها) تكمن
في الواقع في المساحات الغير قابلة (للإستذكار) : برقعٌ تزيلهُ إمرأةٌ
عربيةٌ في مصعد ، فريد – منفرداً - يقود أوركسترا من الأبقار ، ميك يستمع –
وحده - لمناجاة ممثلاته ، جيمي تري يؤدي دور هتلر بعيداً عن الكاميرا ، زوجان صامتان يمارسان الجنس في غابة
، ملكة جمال العالم عاريةً مع عجوزين في حمام سباحة ، راهبٌ بوذي لم يشاهده أحد وهو
يجلس في الهواء كما يشاع عنه – بمن فيهم فريد الذي يأتي لهذا المنتجع منذ عشرين عاماً – لكنه عندما يفعلها
يفعلها بعيداً عن الجميع ، متسلق جبالٍ عثر على كومودينو في قمة ثاني أعلى جبال
العالم ، و مارادونا الذي يراقص كرة المضرب في ملعبٍ مغلق دون جمهورٍ أو
صحافة ، جميع تلك الحوادث تحدث بعيداً عن الإطار المعتاد و في المساحات غير
التقليدية لها و بعيداً عن ما ينتظره الآخرون أو يتوقعونه ، تشعب الحكايا حول هذا
المحور مثيرٌ للإهتمام ، سورنتينو – كما في فيلمه السابق – لا يتوه عن محوره مع كل تشعب
، يصنع مجدداً بنيةً أشبه بالحلزون بقدر ما تتسع و تأخذ شكل المتاهة إلا أنها تبقى
وثيقة الإرتباط بمحورها و مرنةً جداً في تقدمها نحو الأمام ، هذا يحصل مجدداً و
نحن نشاهد تلك التفاصيل عن (الحرية الكامنة في المساحات غير القابلة للإستذكار) تتوائم و
تتدافع لتصل بنا إلى ختامٍ عظيم لرجلٍ تقوده الخطى إلى حيث تقيم زوجته في فينيسيا ، في لحظة بوحه لها
كان أيضاً (وحده) ، في لحظةٍ غير قابلةٍ للإستذكار و مع شخصٍ لا يدرك ما يقوله ،
جلوسه هناك يحادثها مرادفٌ ختاميٌ من سورنتينو لـ (الحرية) ، إحساس الإنعتاق
المغلف على مايبدو بالكثير من الإمتنان تجاه زوجته ميلاني ، بعدها أصبح قادراً
على قيادة الأوركسترا ليعزف أغانيه البسيطة في ختامٍ يليق بالفيلم .
الفيلم – مع ذلك - لا
يفلت أحياناً من بعض الخفة (كما هو الحال في مواجهة ميك مع إبنه جوليان مع أداءٍ رديءٍ من إد ستوبارد) أو المباشرة التي ينهجها
سورنتينو لتقديم أفكارٍ لا يعجز أساساً عن تناولها بصرياً (وهي مشكلتي الدائمة
معه) ، نرى ذلك في مواجهة جيمي تري مع ملكة جمال العالم التي تنتقص برأيي من قيمة الهالة البصرية التي صنعها سورنتينو حولها كرمزٍ للشباب
في فيلمه خصوصاً و أنها مواجهةٌ لا تقول أكثر مما يصلنا فعلاً عن كلا الشخصيتين ،
مثلها أيضاً لقاء جيمي تري بالطفلة الذي يحاول أن يخلق توازياً مفتعلاً جداً بين شجارها مع
والدتها و حديثها عن دور الوالد الذي لعبه جيمي
تري في أحد أفلامه ، مثلها لقطةٌ عابرةٌ لميك يتأمل طفلاً يحمله
والده ، أو يتكلم لطاقمه عن الماضي و المستقبل من خلال منظار مراقبة الجبال ،
وصولاً إلى إنتحار ميك المفتعل قياساً لطبيعة الشخصية التي قدمها سورنتينو و الذي أراه محاولةً
أخرى لخلق توازٍ (لا يخلو من إدعاء) بين إسم فيلمه (آخر
أيام العمر) و ما تؤول إليه الشخصية بإنهيار ذلك الفيلم ، يقول فريد عن الموسيقى أنها (لا
تحتاج لكلماتٍ لكي تفهمها) و أعتقد أن هذا ما كان يقصده سورنتينو في المقام الأول
عندما استلهم روح الأوركسترا ليصنع تناغم فيلمه ، لكنه يخون ذلك التناغم عندما
يلجأ أحياناً – على خلاف الموسيقى – للكلمات كي يجعلنا نفهمها .
أعتقد – بعيداً عن
تلك التفاصيل التي تخفف من اكتمال حالة الإشباع مع الفيلم – أن سورنتينو حقق فيلماً يعيش في
الذاكرة طويلاً ، تون الفيلم صعبٌ جداً بسبب تنافر شخصياته و تداخل ثيماته و تشعب
أحداثه ، مع ذلك يفلح سورنتينو في الحفاظ عليه متزناً جداً و موحداً طوال الفيلم ، (بهجة
الصورة) توضع على ميزانٍ حساسٍ في مقابل (الحزن
الداخلي للشخصيات) و هذا الميزان يستقيم ليمنحنا نتيجةً عظيمةً فعلاً ، أعتقد أن هذا
تحديداً هو أعظم ما في الفيلم وهو ما سيجعله يعيش في ذاكرة المشاهد طويلاً .
التقييم
من 10 : 8.5
0 تعليقات:
إرسال تعليق