إخراج : ديفيد كرونينبيرغ
الفيلم الروائي الطويل الخامس عشر للكندي الكبير ديفيد كرونينبيرغ يعرض حكاية مراهقةٍ روسيةٍ مهاجرة تدخل إلى مستشفىً لندني لتضع مولودها في حالة نزف خطيرة. القابلة آنا خيتروفا (الروسية الأصل أيضاً) تتسلم الطفل عقب وفاة والدته. لكن قصة الأم لم تمت معها لأنها تركت وراءها مفكرةً صغيرة. تصمم آنا على تسليم الطفل لأهل والدته مستعينة بمذكراتها المكتوبة بالروسية ، لكنها تجد بطاقة مطعم لندني تقرر زيارته على أمل معرفة ما تريده. مالك المطعم جبل الجليد الروسي ذو العينين الزرقاوين والإبتسامة اللطيفة سايمون يعرض على آنا أن يترجم لها المذكرات ، لكن آنا تكتشف أن سايمون ليس بالرجل الذي يبدو عليه في الظاهر.
كرونينبيرغ يؤكد بهذا الفيلم تفرّده في مساحته ويصنع من العقد الرابع في مسيرته كمخرج عقداً مميزاً في الفكر السينمائي للرجل ، منقلباً بصورة عنيفة على الأبعاد التقليدية لرعب الجسد (أو رعب المادة) كمنفذ نحو رعب الروح التي لطالما استنطقها في أفلامه. يلامس كرونينبيرغ للمرة الثالثة توالياً - بعد Spider و A History of Violence - رعب الروح ذاته ، لكنه يُبقي هنا على تيماته المفضلة وعلى التفاصيل الكثيرة التي شكّلت جزءاً من ذاكرتنا معه. عشاقه الحقيقيون سيشعرون بحميمية عالية وهم يشاهدون إقتباساته البصرية هنا لحاملٍ يملؤها الذعر مما سيحدث ، أو لرجل يُذبح ، أو عندما يشاهدون الدراجة البخارية ، أو حتى عندما يشاهدون (الدم) الذي لطالما كان مدخلاً جيداً لقصصه ، وإذا أردت أن تعرف لماذا لُقّب الرجل بـ(بارون الدم) فعليك أن تشاهد المشهدين الإفتتاحيين لهذا الفيلم.
ما يثيرني أكثر هنا في تحوّل كرونينبيرغ بعيداً عن رعب الجسد في أفلامه الأخيرة هو إبقاء الرجل - بالرغم من ذلك - لألق تيمته الأساسية (الجسد كمدخلٍ بصري للتحول) مُباشراً وصريحاً من خلال تصويره لنظام الرتب القيادية في عصابات المافيا الروسية (ڤور ڤي زاكون) والذي تترجمه وشومٌ نجمية الشكل يحصل عليها أفرادها أثناء ترقّيهم في المنظمة. الجسد حاضرٌ أيضاً في نصوص الكاتب ستيفن نايت الذي يتعرض هنا مجدداً للأقليات المهاجرة في لندن بعد نصه الممتاز في Dirty Pretty Things. في فيلم ستيفن فريرز - الذي رُشّح عنه نايت لأوسكار أفضل سيناريو أصلي - كانت الأعمال التجارية للأقليات ستاراً لعصابات التجارة بالأعضاء ، الأمر هنا مختلف قليلاً فالعصابات هنا تتاجر بالآدميين أنفسهم من خلال ذراع من أذرع المافيا الروسية تستوطن لندن وتستجلب المراهقات الروسيات إلى مدينة الضباب من خلال (وعود شرقية) بمستقبل رغيد بعيداً عن أرض الوطن. يتحدى النص المشاهد بطريقة مستفزة في معرفة الخطوة التالية والحدث القادم ، إلا أن الفيلم لا يُفلت من برود غريب يلف أحداثه التي ما تلبث تتصاعد رغم كل معوقات النص والفضل بالطبع يعود لقدرة كرونينبيرغ على خلق صورةٍ تُغذي عمق الحكاية وتضيف لها دون أن يتخلى من خلالها عن تقديم فيلم إثارةٍ جيد يُحافظ على اهتمام المشاهد حتى الختام. ورغم الحاجز الواضح الذي يعيقنا عن الإهتمام بالعصابة وبما تفعله وما تُخفي وراءها إلا أن للمشاهد أن يُلاحظ كيف تمكن كرونينبيرغ من خلق شعور متوازن وغريب بين ضئالة حجم العصابة الذي نراه (3 أشخاص فقط في الصورة معظم الوقت) وقوتها وعظمة نفوذها وعلاقاتها وما الذي يمكن أن تفعله. يُضاف لهذا عمله العظيم - دائماً - على إحداث التأثير المطلوب للصورة دون أن يبهرجها ، أمرٌ من السهل التقاطه - مثلاً - في التناقض البصري الواضح على جانبي باب المطعم الروسي بين ما يحيط به من الخارج (في تصوير للبرود البريطاني) وبين أجواء المطعم الروسي الداخلية الدافئة والحميمية كترجمةٍ بصريةٍ للوطن الأم الذي بقي مصبّ هوى تلك المراهقات الروسيات كما يُخبرنا صوت تاتيانا المتعب في مذكراتها. هذا التضاد البصري بين البيئة البريطانية الباردة التي تحتضن الجيل الثاني من المهاجرين (بمن فيهم القابلة آنا خيتروفا نفسها) والحميمية والدفء الذي يجذبهم نحو الوطن الأم مُختَزَلاً في هذا المطعم السيبيري الدافيء لا يحتاج كرونينبيرغ معه لأكثر من باب صغير يفصل بينهما ليخلق ذلك الزخم البصري والفكري للحكاية التي يرويها. تفصيلٌ حققه عمل تصويري أعشقه من بيتر سوتشسكي يخلق لكل مشهدٍ في الفيلم روحاً وشخصية تُبقيه في الذاكرة. لا يُفارق ذاكرتي المشهد العظيم للقتال في الساونا أو مشهد عملية الوشم - بسكونِ لوحةٍ تشكيلية - الذي يُقدّم - دون كلمات - صورة كرونينبيرغ الأثيرة : لقاء الجسد بالتقنية كسبيل نحو التحول !
وعلى خلاف النظرة السلبية تجاه إستخدام أسلوب الراوي الذي عادةً ما يتم التعامل معه كنقطة عجزٍ في أي نص ، فإن كرونينبيرغ يجعل من صوت الراوي ذا قيمة فنية أفضل وأكثر تأثيراً، مكتسباً تعاطف المشاهد تجاه تاتيانا من خلال صوتها المنكسر ولهجتها الروسية حتى وإن لم نلتقيها فعلاً!
نيومي واتس تقدم دورها بحميمية عالية وصدقٍ أدائي لم تخدمه المساحة الممنوحة للشخصية في التحولات الدرامية التي تحدث. يمنحنا فانسان كاسل أيضاً أداءاً مقدراً لدور كيريل ، الإبن القوي من الخارج الهش جداً من الداخل كنتيجةٍ طبيعيةٍ لإنقسام الجيل الثاني من المهاجرين بين التوقّع والواقع. آرمين ميلر ستال عظيم في هذا الدور لرجل تملأ الإبتسامة وجهه المشرق وهو يحاول إبقاء عالمه كما هو ويرد بحزم وشراسة تجاه أي محاولةٍ لتدميره. في حين يقدم فيغو مورتينسن الدور التتويجي لمسيرة مشرقة لهذا الممثل خلال هذا العقد. الخامس على قائمتي لأفضل أفلام 2007.
التقييم من 10 : 8.5
0 تعليقات:
إرسال تعليق