•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الجمعة، 8 مايو 2009

Rashomon

كتب : عماد العذري

بطولة : توشيرو ميفيوني , ماتشيكو كيو , ماسايوكي موري 
إخراج : أكيرا كوروساوا
 
كاهن بوذي و حطابٌ فقير و رجلٌ من العوام يجلسون في إحدى السقائف أمام خراب بوابة معبد قديم تحمل إسم راشومون في كيوتو اليابانية القرن الثاني عشر. يستظلون بها من العاصفة المطرية التي تضرب المنطقة. و كمحاولةٍ لقتل الوقت , يتناقشون في الجريمة الغامضة التي صعقت سكان البلدة: قاطع طريق يعترض رحلة ساموراي مع زوجته الجميلة في إحدى الغابات و يتمكن بالحيلة من تقييد الرجل من أجل الحصول على زوجته. تكون النتيجة : إغتصاب المرأة ، و مقتل الرجل. لكن كيف حدث هذا ؟ مع أربع روايات مختلفة يرويها قاطع الطريق ، والزوجة ، وروح الرجل التي تستحضرها المحكمة ، والحطاب الذي كان شاهد عيانٍ على ماجرى ، أيها يمكننا أن نصدقه ؟ أكيرا كوروساوا في فيلمه الذي قدم تنظيره الشهير لما بات يعرف سينمائياً اليوم بـ (نسبية الحقيقة) .

في هذا الفيلم يصل أكيرا كوروساوا باكراً جداً إلى إنجازه السينمائي الأعظم ربما. صحيح أن الفيلم لم يحظ بذات الشعبية الجماهيرية التي حظيت به تحفته الأخرى The Seven Samurai ، لكن يبقى من الصعب تجاهل حجم التأثير الذي حققه هذا العمل في تاريخ السينما. باب التأويلات و حجم النقاشات التي دارت حوله ، مقدار الأثر الذي أحدثه على عددٍ واسعٍ من الأعمال السينمائية تناولت (نسبية الحقيقة) بشكلٍ أو بآخر - نذكر منها في السنوات القليلة الماضية فقط The Usual Suspects و Courage Under Fire و Hero و Memento و غيرها - أو تأثيره في مخرجين من وزن الأمريكي روبرت ألتمان والهندي ساتياجيت راي والسويدي إنغمار بيرغمان. و لو لم يكن للفيلم إلا ذلك الباب الواسع من النور الذي فتحه على مصراعيه للسينما اليابانية كي تنطلق إلى العالمية ، و القفزة النوعية التي حققها للأفلام اليابانية نحو تقديم ماهو (عالمي) إنطلاقاً من التنوع التاريخي و الحضاري لبلاد الشمس عندما أصبح أول فيلم ياباني يتوج بأسد فينيسيا الذهبي عام 1951 , وأول فيلمٍ ياباني يفوز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي (الشرفية حينها) عام 1952 ،  لكفاه. انتظرت السينما اليابانية سنواتٍ طوال كي يتحققها لها ذلك. 

 راشومون يسرد - عن قصتين قصيرتين للكاتب ريونوسوكي أكوتغاوا بعنوان : Rashomon و In a Grove – أربع قصص متبانية - ذكرت ثلاثٌ منها في جلسة محاكمة لم نعرف نهايتها – عن جريمتي إغتصاب و قتلٍ تعرض لهما ساموراي وزوجته أثناء رحلةٍ لهما عبر الغابات القريبة من راشومون في مدينة كيوتو اليابانية. يمارس فيها المشاهد دوراً لا يختلف بطبيعة الحال عن دور القاضي المحكم بالبت في هذه القضية ، بل أننا نأخذ منظوره في المحكمة و لا نراه في أي مشهد. من خلال هذه القصص الأربع يحاول أكيرا كوروساوا – الذي كتب النص أيضاً بمساعدة شينوبو هاشيموتو – خلق تصوير حقيقي و منطقي للمفهوم شديد الهلامية لـ (الحقيقة). الحقيقة - كما يراها أصحابها - تتلون بألوانهم ، و تتسم بطباعهم ، و تتبع لأهواءهم ، وتستمد قوتها من قناعاتهم ، و تسعى بشكلٍ أو بآخر لإرضاء غرورهم و أنانيتهم (من منطلق كونهم يروونها وفقاً لم يرونه و يرضيهم). كوروساوا من خلال هذا المسعى يحاول جاهداً ألا يبقينا على تماس غير مباشر مع هذه الحقائق (على إعتبار كوننا نأخذ دور المتلقي فقط). يلغي كوروساوا تماماً دور الوسيط أو الرقيب ويتركنا نواجه الحقيقة بنسبيتها و هلاميتها. و هو من خلال توجهه هذا يبلغ ما يريد : فلا توجد قصةٌ تقنعنا بشكلٍ كافٍ ، و لا يوجد في أي قصة من يستطيع أن ينال رضانا و تقديرنا على مافعله. في جميع هذه القصص الأربع نلامس الحقيقة من وجهة نظر صاحبها ، و من وجهة نظر الأهواء التي تحكمه والقناعات التي يتبناها. و مع كون النهاية في القصص جميعها واحدة : مقتل الرجل و إغتصاب المرأة ثم هربها ، إلا أن الحيرة التي تضربنا في الختام حول حقيقة ما جرى هو ما منح هذا العمل قوته الحقيقية النابعة من فكرته. لا وجود لشيء إسمه الحقيقة. الحقيقة أمرٌ نسبي بقدر ما تتتباين بإختلاف معطيها ، تتباين أيضاً بإختلاف متلقيها : اختلاف تقبلنا لها نحن أيضاً كمشاهدين. 

في القصة الأولى و هي قصة قاطع الطريق ، يرى قاطع الطريق تاجومارو بأن قتله للرجل لم يكن في حسبانه ، كان يرغب فقط في الحصول على المرأة ، ومع حيلته التي تخلص بها من زوجها من خلال إصطحابه لرؤية خناجر ثمينة خبأها و دفنها ويريد أن يبيعها له بسعرٍ بخس قبل أن ينفرد به و يقيده ، عاد تاجومارو و حصل على المرأة. إنفتان تاجومارو بالمرأة عندما رأى وجهها هو ما جعله يحقد على زوجها و يقودها لرؤيته مقيداً. و عندما حاولت قتله بإستخدام خنجرها تمكن من مراوغتها ، فاستسلمت له. و عندما تحقق ما أراده و أراد أن يمضي في طريقه أجبرته الزوجة على قتال زوجها كيلا يقال بأنها عرفت رجلين. تقاتلا بضراوة و إشتبكا 23 مرة ، قبل أن ينتصر قاطع الطريق. في هذه القصة الأولى (كما جميع القصص) هناك إصرارٌ من صاحب الرواية على كونه هو من إرتكب جريمة القتل. و هناك أيضاً ثغرةٌ لا تجعل القصة المروية منطقية ، فالزوجة هنا كان يمكنها أن تحرر زوجها مستخدمةً الخنجر الذي في يدها خصوصاً أنه كان أقرب إليه من تاجومارو. هذه الثغرة (التي نشاهدها ولا يسردها الراوي) تبدو و كأنما هي تطويع لأهواء الراوي (كما نشاهد في الروايات الأربع) في سرد القصة كما تقنعه ، أو كما يحب أن يقتنع بحدوثها. في نظر تاجومارو إستسلمت الزوجة بمجرد رؤية زوجها مقيداً و حاولت بعض المحاولات البائسة لقتل تاجومارو ، لكنها في الأخير إنهارت أمام رغباته ، أو على الأقل هكذا يحاول أن يقنعنا. 

في القصة الثانية التي ترويها الزوجة تختلف الصورة. الزوجة تقول بأن تاجومارو أعلن لها بفخر من يكون بعدما إغتصبها ، ثم إنطلق يركض في الغابات كالمجنون. ملأ نحيبها الغابة و عندما إقتربت من زوجها لم تر في عينيه أي غضبٍ أو حزن ، بل رأت نظرة إحتقار و شماتة. تعامل معها كعاهرة ، و توسلت إليه ألا يفعل ذلك. و عندما قتلتها نظراته ، فكت وثاقه و طلبت منه أن يقتلها فرفض و إستمر في نظراته. غابت عن الوعي وعندما أفاقت و جدت نفسها وقد غرزت خنجرها في صدر زوجها. قصة تبدو ثغرتها الحقيقية نابعة من رد فعل الزوج تجاه ما حدث لزوجته والذي لا يتناسب مع شرف الساموراي ، خصوصاً مع كونها غصبت على ما فعلته. تبدو الزوجة في قصتها (على عكس تفاخر تاجوامارو في قصته) و كأنما تصر على وضع نفسها موضع الضحية البريئة التي خرجت من مأساة إغتصاب لتجد مأساة جحود زوجها و إحتقاره لها. و هي في روايتها تبدو غير واثقةٍ من كونها هي فعلاً من قتلت زوجها رغم أنها وجدت زوجها مقتولاً بخنجرها الذي كان في يدها. ربما هو منفذ قصصي آخر سيأخذ بعداً ذو أهمية في القصة الرابعة التي يرويها الحطاب. 

في القصة الثالثة التي ترويها روح المقتول التي تستحضرها المحكمة و تستمع إلى شهادتها عبر وسيط ، يقول المقتول بأن القاتل أغرى زوجته - بعدما قام بإغتصابها - وأخبرها بأنه يهيم بها ، و بعد برهة أحست بميلٍ تجاهه و تجاه البقاء معه لكنها طلبت منه أن يقتل زوجها كيلا تكون لرجلين معاً. إقتراح يصدم زوجها المندهش لقرار زوجته. لكن المقترح يشعر تاجومارو بالنفور تجاه هذه المرأة، نفور (الرجل) تجاه (خيانة المرأة)، فيخيِّر زوجها بين أن يقتلها أو يحررها. يقول المقتول بأنه شعر كما لو أنه سامح تاجومارو على فعلته هنا. لكن الزوجة تهرب فيركض تاجومارو في إثرها لكنه لا يتمكن من العودة بها ، فيعود ليحرر زوجها الذي لا يلبث ينتحر من شدة الألم الذي أصابه جرّاء ما حدث. هذه القصة تفتقر لجزئية إقناع تتعلق برد فعل تاجومارو أساساً تجاه خيانة الزوجة والضمير الذي إستيقظ فجأة في قلب قاطع الطريق. تبدو الرواية نابعةً من هاجسٍ خفي لدى المقتول تجاه تبريره تخلي زوجته عنه و هروبها بعدما تعرضت له. يرسم صورةً بريئةً جداً و مظلومةً جداً عن نفسه. على خلاف ما حدث في الرواية الثانية ، يبدو المقتول هنا و كأنما يرى في الإنتحار وسيلةً أفضل للموت بشرف بعدما سلب شرفه منه. الرواية الثالثة أيضاً تخضع لهوى صاحبها الذي يصر أيضاً - كما بقية الرواة – على كونه هو من إرتكب جريمة القتل! 

القصة الرابعة ، وهي الوحيدة التي تروى خارج المحاكمة ، يرويها علينا الحطاب الفقير ، وروايتها بحد ذاتها تضرب في عمق عمل كوروساوا هذا وفي الجوهر الذي يحاول تحريه عن (الحقيقة). فالسبب الذي يدفع الراوي الأخير لرواية قصته أصلاً هو ولع الإنسان بالحقيقة ، غريزته تجاه معرفتها. الراوي الرابع يريد أيضاً أن يحكي القصة كما يراها هو ، لعدم إقتناعه بمنطقية أيٍ من القصص الثلاث. يقول الحطاب – الذي كان شاهد عيانٍ على ما جرى – بأن المرأة واصلت بكاءها بعد إغتصابها ، و أن تاجومارو إستمر في مواساتها ، وأخبرها عن حبه لها و أنه على إستعداد للزواج منها و على إستعداد لترك حياة اللصوص و البحث عن أي عملٍ شريف. لكنها أخبرته بأن قراراً كهذا لا تحسمه إمرأة ، و أن عليهما كرجلين أن يتقاتلا كي يحددا من يظفر بها. وعندما تحرر زوجها من أجل ذلك ، يرفض زوجها القتال من أجلها لأنها لا تستحق ذلك وأنه يمكن لتاجومارو أن يحتفظ بها. قرارٌ يصدمها. وعندما تقع حائرةً بين الرجلين ، تستفز رجولتهما وتدفعهما لقتال غريب. مكمن غرابته هو الخوف الذي تملك الرجلين من بعضهما البعض. لم يكن قتالاً ضارياً كما صورته قصة تاجومارو الأولى بل كان أشبه بالهروب من المواجهة ، لكنه ينتهي في الأخير بمقتل الزوج على يد تاجومارو. هذه القصة تبدو مزيجاً من القصص الثلاث: ففيها إغراء تاجومارو للزوجة كما تقول القصة الثالثة ، وتخلي الزوج عن زوجته كما في القصة الثانية ، وقتال الرجلين بسبب المرأة كما تقول القصة الأولى. في هذه القصة – و على خلاف بقية القصص – يبدو الراوي بعيداً عن نسب جريمة القتل إلى ذاته ، وإن كان يداري حقيقة سرقته لخنجر الزوجة ، الأمر الذي يكشفه الرجل الذي يشاركه الإستماع عند بوابة راشومون. هذه القصة و على الرغم من تقديمها على أساس كونها الأكثر مصداقية كونها تُروى من قبل شاهد عيان و ليس من قبل أحد الأطراف الثلاثة ، إلا أنها تبدو أكثر القصص الثلاثة إهتزازاً و عدم منطقية. سواءً بدعوة تاجومارو للزوجة بالزواج منه ، أو بتخلي زوجها عنها ، أو بالخوف الذي يملأ قلب ساموراي وقاطع طريق شهير تجاه قتال بعضهما البعض في سبيل الشرف. تبدو القصة الأكثر موثوقية من حيث راويها ، الأقل إقناعاً من حيث أحداثها. ربما لسببين : الأول هو هزليتها كقصة وإمتلاؤها بالثغرات مقارنةً بغيرها ، والثاني هو كذب الحطاب منذ البداية بخصوص كونه رأي ما حدث ثم تعمده إخفاء سرقته لخنجر الزوجة المرصع بالجواهر. مع هذا، تبقى قصة الحطاب هي الأقرب للتقبل من قبل المشاهد بسبب أن الدافع الوحيد الذي يمكنه أن يجعله يكذب هو الطمع. 

في القصص الأربع تختلف الحقيقة ويبقى الدافع موحداً : (الأنا). الحقيقة شيء نسبي نابع في الواقع من ذات من يرويها و من أهواءه و توجهاته ومن الطريقة التي ينظر بها إليها ومن القناعات التي تسيره. مهما كانت الطريقة التي تحكم تلقينا لها ، فإنها في الأخير تبقى مسألةً نسبية غير متفقٍ عليها لأن بعض التفاصيل الصغيرة التي حدثت هنا بين راوٍ و آخر كانت كفيلةً تماماً بإعطاء القصة بمجملها بعداً مختلفاً. 

بالإضافة لذلك، فإن نسبية الحقيقة كما يراها كوروساوا لا تنبع فقط من أهواء الرواة في الروايات الأربع ، بل هي تنبع أيضاً من أهواء المتلقين ومن إستعدادهم لتقبلها ومن القناعات التي تملؤهم تجاهها ومن الكيفية التي يطوعون أنفسهم بها لتلقيها. الأشخاص الثلاثة الذي إستمعوا للروايات الثلاث لأطراف الجريمة ، إضافةً للشخص الرابع - وهو القاضي غير المرئي أو المشاهد بمعنى آخر - جميعهم تلقوا هذه الروايات الثلاث بطرق مختلفة ومالوا تجاه إحدى الروايات على حساب أخرى. جميعهم أحسوا بتعاطفٍ ما تجاه قصةٍ على حساب أخرى لكنهم في الأخير لا يتفقون على شيء ولا يصلون إلى نتيجة توحد آراءهم. حتى منظور الأشخاص الثلاثة تجاه الجريمة بحد ذاتها – بمفهومها الواسع – يبقى متبايناً. الحطاب يبقى مشدوهاً وعاجزاً عن إستيعاب الروايات التي إستمع إليها في هذه المحكمة مدفوعاً بذنب يحمله تجاه الجريمة التي شاهدها ومنع نفسه عن الإدلاء بشهادته فيها. والكاهن يفقد بسببها إيمانه بالجنس البشري وببقايا الإنسانية فيه ، خصوصاً مع الروايات التي إستمع إليها عن بشاعة ما إرتكبه الإنسان بحق أخيه الإنسان. والرجل الثالث يرى بأنها تبقى مجرد جريمةٍ مثل أي جريمةٍ سمع بها يوماً ، وأنها كانت وسيلةً جيدةً لقضاء بعض الوقت ريثما تتوقف الأمطار عن الهطول. و النهاية التي يقدمها كوروساوا لفيلمه تبدو وكأنما هي لفتة تفاؤلٍ اخيرة بالجنس البشري الذي هاجمه في فيلمه. و كأنما بالإنسانية ما زالت موجودة في قلوب المجرمين و اللصوص حتى وهي ضائعةٌ وسط ركام الإختلاف و أنانية البشر. الكاهن في البداية ظن شراً بطلب الحطاب أخذ الطفل ، لكنه يعتذر عن ظنه عندما يعلم بنية الحطاب تربية الطفل كواحدٍ من أولاده. مشهد يخبرنا ببساطة بأن الحقيقة تائهة. كلٌ منا يمكن أن يرى المشهد ذاته ، لكنه يفهمه بطريقته الخاصة ويطوعه وفقاً لظنونه و أهواءه ثم يرويه بطريقته. 

كوروساوا في هذا العمل يقدم منجزاً بصرياً عظيماً. يبدو فيه و كأنما يرفع القبعة لحقبة الأفلام الصامتة ، حيث كان هذا الفيلم ليكون إنجازاً عظيماً لو قدم في حقبة الأفلام الصامتة خصوصاً في مشهده الإفتتاحي الطويل. الحوار والصوت لا يسلبانه الكثير من قوته وعمقه الذي تكون الصورة كفيلة لوحدها بتقديمه. أولى كوروساوا - كحال أفلامه جميعاً - للطبيعة مساحتها الخاصة لإحتواء الحدث، تربط المتلقي (عاطفياً وذهنياً) بالحدث. في سينما كورواساوا تتكلم الطبيعة في خلفية الحدث الذي تديره الشخصيات في المقدمة. المشهد المطري الذي تروى من خلاله الفلاشباكات التي تسترجع وقائع المحاكمة يبدو - بفعل كاميرا عبقرية يديرها كازو مياغاوا - إنذاراً بصرياً موظّفاً بفعالية. محاولة جلب الإهتمام لفهم - أو على الأقل لمحاولة فهم - ما يحدث ، أكثر من كونه عمليةً تطهيرية (خصوصاً مع كون أطراف الجريمة الثلاثة غير موجودين). يتحرّك أبطال الحكاية المروية في غابة، تحجب الأشجار السماء فوقهم ويلتقط كوروساوا - في واحدة من أشهر اللقطات في تاريخ السينما - ضوء الشمس المنسل من بين فراغات الأشجار كترجمةٍ بصريةٍ لما ينتظرنا لاحقاً. الحقيقة التي ستصلنا لن تتجاوز مقدار اشعة الشمس التي تنسل وسط فروع الأشجار. كورواساوا من خلاله تصويره مشهد الجريمة ذاته – في رواياتٍ أربع – من زوايا التقاط مختلفة يبدو وكأنما يحاول إعطاء مشاهده ترجمةً (بصريةً) تجريدية عن إختلاف وجهات النظر تلك. يعطي كوروساوا كل رواية منها خصوصيةً بصريةً تزيد حيرة المتلقي في تمييز أي روايةٍ هي الحقيقة. يمعن كوروساوا في إعطاءنا ترجمةًً بصريةً - مع كل رواية تروى - للدواخل التي تعتمل في نفس راويها دون أن يشعرنا – بصرياً – بأننا نشاهد الحقيقة. أمرٌ لم يتوقف عند حدود الكاميرا ، بل طوع فيه أداء ممثليه لمساندة الدور الهام الذي يلعبه التصوير (يقودهم شريكه الأثير توشيرو ميفيوني في أول أعمالهما معاً و التي إمتدت لتشمل 11 فيلماً في واحدة من أنجح الثنائيات في تاريخ السينما). يكون تعبير الأوجه كافياً بمفرده لقول الكثير بين روايةٍ واخرى. يصبح المقاتل الصنديد في روايةٍ ما شخصاً خائفاً في روايةٍ أخرى , وتُصبح المرأة الوفية المنكسرة في رواية مجرد خائنة في روايةٍ أخرى. كوروساوا يسرد حكاياه الأربع من خلال إدارةٍ - غير مقدّرة - للغة الجسد وموضع العناصر من الكادر والحركة السائلة للكاميرا ابتعاداً أو اقتراباً منهم وطول لقطات مختلف لكل رواية جعلت النتيجة درساً سينمائياً مكتملاً في التكوين والحركة وخلق اللغة السينمائية.

ميزة المخرجين العباقرة أنهم لا يحاولون الغوص في عقول جمهورهم و مريديهم لمعرفة ما يقدمونه لهم ، بل يجبرون جمهورهم على الغوص في عقولهم. و هنا مخرج غاية في العبقرية إسمه أكيرا كوروساوا لم ينتظر أن يجبره الغرب على مجاراة سينماه ، بل أجبر الغرب على رفع القبعة لأعماله العظيمة. جميع أفلامه كانت ملهمةً في الغرب ، و بينها جميعاً يبقى راشومون تحفته الأهم ، و ثورته التي لا تنسى ، و عمله الأكثر تأثيراً في سينما الغرب على الإطلاق. 

التقييم من 10 : 10


هناك 6 تعليقات:

  1. شكرا لك على المراجعة الجميلة والمتعوب عليها.
    من عادتي قبل ان اشاهد اي فيلم ان ابحث في المراجعات السينمائية حوله.
    فعلا يبدو الفيلم ححجر زاوية لباقي الافلام من نوعه, ذكرني بفيلم 12 angry men الرائع وبلا شك من نوعية الافلام المفضلة لدي.
    شكرا جزيلا

    ردحذف
  2. ألف شكر لك عزيزي على مرورك و تعليقك

    تحياتي

    ردحذف
  3. هذه المراجعة أصبحي جزء من مشاهدتي للفيلم ..
    احييك استاذ عماد ,,

    ردحذف
  4. شكراً جزيلاً يا محمد .. فخور بكلامك

    ردحذف
  5. أجود المراجعات باللغة العربية نقرأها بقلمك أستاذنا. لي بعض الأسئلة بعد إذنك:
    - ما المعنى لمعبد راشومون القديم المهجور والمهترئ.
    - لطبيعة النفس البشرية بعد كذلك في الفيلم. إلى أي حد ؟
    - ما المعنى خلف التصوير الرائع لمشاهد أشعة الشمس تخترق أشجار الغابة و الأمطار في معبد راشومون. وهل هذه مقابلة ؟
    شكرا.

    ردحذف

free counters