•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الخميس، 9 يوليو 2009

Once Upon a Time in America

كتب : عماد العذري

بطولة : روبرت 
دى نيرو , جيمس وودز , إليزابيث ماك غوفيرن
إخراج : سيرجيو ليوني


في صغرهم ..
تعاهدوا أن يموتوا من أجل بعضهم البعض ..

في كبرهم .. فعلوا ذلك ..
 "


(هذا هو التعريف الحقيقي للملحمة .. حدث ذات مرة في أمريكا واحد من أكثر أفلام العصابات تجاهلاً .. رغم أنه – وهنا تكمن السخرية – واحد من أفضلها !) الناقد جون أولمر

لو تم تصنيف الجرائم التي إرتكبها منتجون بحق أعمال وقفوا وراءها ، فإن جريمة منتجي (حدث ذات مرة في أمريكا) التي إرتكبت عصر يوم حار من صيف 1984 قد تتفوق ربما على الجريمة التي كادت أن تعيق فيلماً مثل (المواطن كين) من الظهور إلى العلن عام 1941 !

تسعون دقيقة كاملة إغتالها منتجو العمل حرمت عشاق السينما من مشاهدة الكثير :
حرمتهم من مشاهدة الملحمة الأخيرة (الكاملة) لسيرجيو ليوني ..
حرمتهم من مشاهدة واحد من أكثر أداءات روبرت 
دى نيرو العظيمة تجاهلاً ..
حرمتهم من مشاهدة واحدة من أكثر القصص المؤثرة والعميقة التي عرضت على الشاشة يوماً ..
حرمتهم من مشاهدة إنيو موريكوني يتسلم جائزة أوسكار !


مع إعلان مجلة Entertainment Weekly نتائج إستفتاءها لإختيار أعظم المخرجين في تاريخ السينما تباينت الأراء والإنتقادات حول تلك القائمة التي ضمت خمسين مخرجاً وتصدرها ألفرد هيتشكوك. منهم من لم يرقه تراجع المرتبة المتوقعة لستانلي كيوبريك، منهم من إعترض على وجود تيم بيرتون، ومنهم من إستغرب وجود بستر كيتون في ظل غياب شارلي شابلن، وما إلى ذلك من الجدل الذي أثارته القائمة. لكن المدهش فعلاً هو الإرتياح الكبير الذي قوبل به تواجد سيرجيو ليوني في القائمة (في المرتبة الـ41 تحديداً) رغم كونه لم يقدم طوال مسيرته سوى 7 أفلام فقط ! ربما لأن الأثر الذي أحدثه هذا المعلم الإيطالي على غيره من المخرجين كان بالغاً . ومن النادر جداً أن يتعامل الوسط السينمائي مع مخرج ما بمثل هذا العدد الضئيل من الأعمال تحت مسمى Master ، لكنه مع ليوني فعل !!

في مسيرةٍ إمتدت لثلاثة عقود إرتبط إسم سيرجيو ليوني بما فعله منتصف الستينيات عندما جلب علبة بهارات أفلام العصابات الإيطالية وصبها كاملة في إناء الويسترن الأميركي ليخرج لنا أفلاماً بمذاق غير مسبوق ولم يجرؤ أحد على مجاراته لاحقاً في ثلاثة أعمال متتالية إنتمت تصنيفياً إلى ما اتفق على تسميته بالـ (سباغيتي ويسترن). ورغم النجاح الكبير الذي حققته الثلاثية (من أجل حفنة من الدولارات) و (من أجل بضعة دولارات أخرى) و (الطيب والشرير والقبيح) التي أدار فيها جميعاً كلينت إيستوود صانعاً نجوميته ، إلا أن 
ليوني تمكن لاحقاً من تخطي ذلك النجاح ربما لأن طموحه السينمائي لم يكن له حد حينها. قلة من مقربيه كانوا يعلمون جيداً أن هناك طموحين هامين يرضيان غروره كفاية : الأول هو إعادة تقديم كلاسيكية مارغريت ميتشيل الأدبية الشهيرة (ذهب مع الريح) ، والثاني هو إدارة الأسطورة هنري فوندا ! ومع أن طموحه الأول لم يتحقق ربما لأسباب إنتاجية ، إلا أنه تمكن لاحقاً من تحقيق طموحه الثاني عندما حشد أفكار بيرناردو بيرتولوتشي و داريو أرجينتو في نصٍ لسيرجيو دوناتي ليقدم لنا بنكهة السباغيتي ويسترن ملحمة الغرب الأكثر تفرداً على الإطلاق (حدث ذات مرة في الغرب). الفيلم الذي حقق فيه إثارةً سيكولوجية بمذاق إيطالي خاص وأجواء ملحمية غير مسبوقة في أفلام الويسترن صنعتها في الواقع (اللغة الإخراجية) لسيرجيو ليوني وليست (ضخامة الإنتاج) المعهودة في الملاحم.

وحتى وفاته ظل نقاد السينما يتعاملون مع عمل ليوني هذا على أنه الأكثر تفرداً وتكاملاً في مسيرته. ورغم أنه أتبعه بعمل متوسط النجاح عام 1972 إلا أن طموحات ليوني لم تتوقف هناك. كان الرجل مفتوناًَ برواية لهاري غراي حملت إسم The Hoods. هذه الرواية كلفت سيرجيو ليوني 12 عاماً من حياته ، ولم يكن يعتقد أنه سيعيش حتى يراها مضيئة على الشاشة الكبيرة. إبتعاد ليوني الذي دام قرابة 15 عاماً كلفه خسارة كل الأضواء التي أحاطت به وأدى إلى رفضه لعدد من الأعمال الهامة بين عامي 1968 و 1984 على رأسها جميعاً اقتباسٌ سينمائي لرواية ماريو بوزو (العراب). وبعد معالجة استغرقت وقتاً طويلاً لرواية غراي (عمِل عليها خمسة من كتاب السيناريو إلى جوار ليوني نفسه) صار العمل جاهزاً على الورق منتصف السبعينيات. أعقب ذلك مشاكل إنتاجية متعددة تمكن ليوني من حشد مناصريه في Warner Bros لتجاوزها. من بين أكثر من مئتي إسم رشحوا للعب دوري 
ماكس ونودلز اختصرت المقترحات في اسمي جيرار دو بارديو (في دور نودلز) و ريتشارد درايفوس (في دور ماكس)، لكن مع مطلع الثمانينيات أصبحت آخر طموحات ليوني بخصوص المشروع تتبلور نحو إدارة أسطورة جديدة من أصول إيطالية في أواخر الثلاثينيات من عمرها تدعى روبرت دى نيرو. مطلع الثمانينيات كان دى نيرو قد تشرب بلغات أدائية مختلفة وأساليب لا تنتمي لبعضها وقدم مجموعة من أكثر الأفلام خلوداً وإحتفاءً ونال جائزتي أوسكار على يدي مخرجين شابين صاعدين (ومن أصول إيطالية أيضاً) هما فرانسيس فورد كوبولا و مارتن سكورسيزي.

كان سيرجيو ليوني يعتزم أن يجعل من فيلمه القادم شيئاً للذكرى ، معلماً يمثل لأفلام العصابات مايمثله فيلمه السابق بالنسبة لأفلام الويسترن. هذا الهاجس هو ما دفعه للتضحية بصديقه المقرب ونجمه الأول كلينت إيستوود ليجلب 
روبرت دى نيرو إلى العمل. ومع منتصف عام 1984 كان حلم ليوني الاخير يتحقق عندما احتفى الوسط السينمائي في تصفيق طويل في القاعة الرئيسية للعروض في مهرجان كان السينمائي الدولي بالـ 229 دقيقة الكاملة التي شكلت قصيدة ليوني الأخيرة (حدث ذات مرة في أمريكا).

مع نهاية ذلك العام كانت Warner Brothers تجهض ذلك الحلم وهي تعهد للمونتير زاك ستاينبيرغ بتقليص المدة الزمنية للعرض وإعادة التراتبية الزمنية للسرد الروائي للفيلم فكانت النتيجة (النسخة / المسخ) ذات الـ 139 دقيقة. لم تخسر فقط ساعة ونصف من العرض (وهي تقريباً مدة فيلم كامل !) بل خسرت أيضاً عاملي الذاكرة والتاريخ اللذين كانا المفتاحين الرئيسيين للبناء الملحمي للفيلم. أدى ذلك إلى سحب الفيلم باكراً من دور العرض. خسر كل الإحتفاء المتوقع وكل الكلام الذي إنتظره ليوني 12 عاماً. إختفى من كافة المهرجانات والجوائز التي كانت تنتظره وغدى فيلماً مقتولاً برصاص منتجيه في جريمة لا تزال في ذاكرة التاريخ السينمائي كشاهد على وحشية ما قد يرتكبه منتجون بحق أعمال صنعت لتكون أكبر مما كانت.

المعركة الأخيرة لسيرجيو ليوني كانت عملاً إعجازياً بحق. رحلة حتى الرمق الأخير في تفاصيل صداقة حميمة ، تخفي في طياتها قصة حب دفنتها عجلات الزمن ، وخرافة ثلاثين عاماً من العمر الضائع.


على إمتداد خمسة عقود تجري فيها احداث الفيلم يسرد علينا سيرجيو ليوني قصة بارعة الجمال عن ديفيد آرونسون (نودلز) ، صبي العصابة الإيطالية الصغيرة ورفاقه اليهود مؤرخاً لطفولتهم في عشرينيات القرن الماضي في الجانب الشرقي من نيويورك ثم يتتبع مسيرتهم الإجرامية في الثلاثينيات قبل أن يقف مراقباً عودة نودلز العجوز من منفاه الإختياري في بوفالو ليخبره الحقيقة عن مصير أصدقاءه ويهيل عليه أكواماً من الغبار حملتها ذكريات الماضي.

شخصيات الفيلم الرئيسية ثلاث : نودلز و ماكس و ديبرا. وعندما نضع هذه الحقيقة أمامنا ، فإن مهمة صناعة ملحمة من أربع ساعات بعيدة عن الإبهار البصري وضخامة الإنتاج وحول ثلاث شخصيات محورية هو أمر يكاد لا يصدق. لكننا نوقن بإمكانية ذلك مع مخرج فعل الشيء ذاته في ملحمة الغرب ! بمجرد أن تمتلك نصاً بمثل تلك الضخامة تكون أمام إمتحان عسير للغاية : كيف تحوّل قصة بمثل تلك الجودة إلى فيلم يوازيها في ذلك ؟ من أي طريق ستسلك ؟ وأي تقنيات ستستخدم ؟ وربما بشكل أكثر بساطة : من اين ستبدأ ؟!

ليوني يبدأ قصته هذه من منتصفها عام 1933 عندما نلتقي نودلز الشاب لأول مرة في وكر لمدخني الحشيش في المسرح الصيني. اللقاء الأول يبدو مثيراً للتساؤلات : ماالذي يجعل رجلاً يشارف الثلاثين من عمره تقريباً يحمل كل هذا القلق ، وكل هذا الخوف ؟ ماالذي سمحت له حياته بمعايشته ليبدو مطارداً ولاهثاً على هذا النحو وعلى حافة الإنهيار النفسي هكذا ؟ بدلاً من الإجابة يفضل ليوني الإنزلاق بنا إلى المستقبل لنقابل نودلز العجوز يعود إلى الحي الذي شهد أحلى لحظات حياته وأمرها قبل قرابة خمسين عاماً ، قبل أن يقفز بنا إلى الماضي البعيد ليقص علينا الحكاية كلها كما بدأت قبل نصف قرن. وليوني من خلال سرد قصته لا يحاول أن يبحث عن التفسيرات بقدر ما هو يبحث عن العواقب. رحلتنا مع نودلز لا تقودنا مثلاً إلى والديه ، أو إلى رجال الحي ، أو إلى مشاكل الحي ، أو إلى الازمات التي ولدت الإنحراف لدى هؤلاء الصبية. المهم لدينا هو أننا سنكون شاهدين على حياة خمسة صبية وجدوا الإنحراف طريقاً لحياتهم. نحن ننظر للذكرى كما يريد أن يقصها علينا رجل في أواخر عقده الثالث ، مطارد ، لاهث ، مختبيء ، لايصعب علينا لاحقاً – من خلال رنين هاتف متواصل تجعله سلسلة مونتاجية ذكية شلالاً من الذكريات القريبة – إدراك أن الرجل لا يختبيء من مطارديه فحسب ، بل هو يختبيء من حياته كلها ، من العفن الذي كان يعيش فيه ، ضائعاً بين الوضاعة والعدم .

إذا كنت قد سمعت عن الأفلام التي تعتمد بشكل رئيسي في بنيتها على بناء شخصياتها ، فهذا هو واحد من أفضلها. ورغم كونه يتمحور حول شخصيات ثلاث فقط ، لكن الغنى الذي تمتلكه الشخصيات الثلاث يجعل من العمل عليها مثيراً للرعب لأي مخرج. لن يمضي وقت طويل من المشاهدة حتى تبدأ الصورة في الإتضاح حول شخصيتنا الأولى (نودلز). الولع الشديد لديه بكل ماله علاقة بالتحدي والمنافسة ، والعاطفة الشديدة وأحياناً العمياء التي تربطه باصدقاءه ، هما مزيج مدهش لذلك الإطار الذي يخفي داخله رقة خفية قد لا تتناسب مع رجل عصابة مما يضطره لمواراتها كلما ظهرت واحياناً برعونة ووحشية تحملها بعض تصرفاته.

مع مرور الوقت يظهر ماكس ، الفتى القادم من برونكس. ظهوره الأول في الحي وإن حمل وقعاً سيئاً لدى نودلز بسبب إنقاذه للثمل إلا أننا لا نستطيع تجاهل نظرات الإعجاب التي تملأ عيني نودلز الممتعض من تصرف (ماكس) الذكي. ومع قراءة أكثر في جوانب شخصيتيهما نكتشف أن الشخصيتين لا تنتميان لبعضهما مطلقاً وهنا ربما يكمن سر الإنجذاب من اللقاء الأول. ماكس في الواقع لم يكن يشبه نودلز في شيء لكنه في الحقيقة كان (يكمّله) : جريء ، شجاع ، طموح للغاية ، يقف بتعقل إلى جوار أصدقاءه ، كما أنه ذكي ولا يغلب عاطفته.

هنا تندلع شرارة العلاقة التي ستستمر لقرابة خمسين عاماً ، محملةً بلحظات النصر وخيبات الهزيمة وإختلاف الآراء وتناقض المصالح. هذه العلاقة (التكاملية) تسلك بهما منذ بدايتها درباًَ وعراً مع الروح (القيادية) لماكس و (التحدي والعزيمة) التي يحملها نودلز ، فكان قرارهما الإستقلال عن (باغسي) زعيم الحي نقطة تعكس إلى حد بعيد طبيعة العلاقة المتشكلة وإسلوب الإنسجام (التكاملي) في أعمالهما الإجرامية ، وهو قرار يدفعان ثمنه غالياً على يد باغسي ورجاله لاحقاً.

في الزاوية الأخرى من المثلث هناك ديبرا. وديبرا لاتظهر في الصورة فجأة ، لأنها موجودة أصلاً حيث تدير مع والدها وشقيقها (مو) حانة الحي. ديبرا هي حب نودلز الحقيقي ، وإن كان الأمر لا يبدو بهذا الوضوح من جهتها ، فكم الجفاء الذي تظهره له يبدو غير منسجم مع قصة حبيبين ، لكنه جفاء من نوع خاص. نودلز مفتون بديبرا ، وهي في المقابل سعيدة بإنفتانه بها ، لكنه يبقى مجرد (صرصور) من وجهة نظرها !

بعد تعرفنا المبدئي على شخصيات 
ليوني الثلاث يطلق ليوني العنان لشخصياته للنضوج على نار هادئة ضمن بنية أميل إلى تسميتها بـ (السحر الملحمي) ، وهو نوع من سحر الصورة يقدم عن طريق البنية الملحمية للفيلم. لا تشعر في نظرتك العامة للعمل أنك أمام ملحمة ، لكنك بنظرة فاحصة تلمح نوعاً من السحر الذي يضفي على هذا العمل مذاق الملحمة. جزء من هذا السحر ينبع من قدرة ليوني على الإنتقال التدريجي (غير المحسوس) من النصف الأول المليء بالعنف والدموية وأعمال الجريمة القذرة نحو النصف الثاني الذي ينسج فيه قصيدة حزينة للغاية عن صداقة مدمرة وحب ضائع. وما يمنح هذا العمل فعلاً مذاق الملحمة لا يكمن فقط في مدته التي تقارب الساعات الأربع ولا يكمن فقط في العناية الفائقة التي أولاها ليوني للزمان والمكان وهو يجوب بنا قرابة نصف قرن من الأحداث ، بل تكمن أيضاً في قدرته على تجسيد الإنتقالات بين العصور من خلال الـ Flash-Back والـ Flash-Forward وكذلك عبر التخيلات والأحلام. يتجلى الفكر البصري والصوتي لليوني في مشاهد من الماضي تذوب في الحاضر ولحظات من الحاضر تتلاشى أمام المستقبل متقصداً هنا إذابة إطارات الزمن وكأنما يحاول ليوني إثبات نظرته للتداخل بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا بصرياً أيضاً ، ليس هذا فحسب بل أنه يغازل أسماعنا مع كل مرحلة ننتقلها ومع كل جديد نصادفه في رحلتنا مع شخصياته. ربما كان من الصعب تقديم سيرةٍ كهذه مليئة بالغموض والتوتر على مدى ساعات أربع دون الوقوع في فخ الأحداث المفككة أو السيناريو التقليدي ، لكن مع إلغاء ليوني للتراتبية الزمنية في عمله هذا لم ينجح فقط في إعطائه الحيوية والديمومة اللتين تمنحان المشاهد المتعة الكافية اثناء إعادة مشاهدته ، بل نجح أيضاً في الحفاظ على أربع ساعات من الأحداث المتوترة والإنتقالات المتوازية والغليان النفسي لشخصياته دون إحداث خلل في البنية العامة للعمل. وما أنتجه في الواقع لم يكن مجرد ملحمة مانلبث نشعر بالإرتياح بمجرد الفراغ منها ، بل هو عمل أصيل جداً في بناءه الدرامي وفي التداخل المدروس فيه بين الماضي والحاضر والمستقبل ، وهو تداخل لا يأتي لمجرد أن ليوني يحب إستعراض بعض من مهاراته في رسم حبكةٍ معقدة بقدر ما يأتي ليؤكد أهمية الماضي في التأثير على كل المنعطفات في حياتنا التالية ، الماضي الذي لا ينتهي عند لحظة معينة نقرر فيها أننا قد ضجرنا منه ، الماضي الذي لا يموت ، الظل الذي لا يظل فقط يلاحقنا أينما ذهبنا ، بل يلقي بإنعكاسه على كل (الخيارات) التي قررنا إتخاذها في حياتنا التالية. وما يحدث لنودلز هنا هو ما يمكن أن يحدث لكل منا ، ماضي نودلز يرفض أن يموت ، يرفض أن يغادره ، وطالما ظلت الذاكرة معنا فستظل تجره معها أينما ذهبنا حتى ونحن نحاول تجاهله وإتخاذ خطوات مستقبلية جديدة مغايرة عن تلك التي خطوناها في الماضي. ومع كل (خيار) ستقابله في حياتك ستجد أن هناك (خياراً) آخراً ما يزال متاحاً أمامك يمكن لك أن تتخذه ، ومع كل درب قررت أن تسلكه في حياتك عليك أن تترك درباً آخراً كان يمكن أن يقودك بطريقة مغايرة. نودلز كان يمكن بطريقة ما أن ينتهي مقتولاً في الشارع كحال صديقه دومينيك الذي قضى طفلاً لأنه بكل بساطة (إنزلق). نودلز كان يمكن بطريقة ما أن يُقتل في إحدى عملياته كحال صديقيه المقتولين في عملية تهريب لو أنه سلك (خياراتهما). نودلز في المقابل كان يمكن أن يكون شخصاً آخراً لو أنه ركل منذ طفولته كل أعمال الجريمة وسلك (خيار) ديبرا. نودلز كان يمكن 
أيضاً أن يكون (الوزير بايلي) ويحظى بحب حياته ديبرا لو أنه سلك (خيار) ماكس. لكن (خيار) نودلز قاده ليصبح (روبرت ويليامز) ، الرجل المطارد بعقدة ذنب فتكت به تجاه أعز أصدقاءه والذي لا يلبث أن يكتشف بعدما فاته قطار العمر أنه كان الطريدة – وليس الصياد – طوال 35 عاماً.

نودلز ليس وحده من يعيش متاهة (الخيارات). ماكس كان يمكن أن يعيش ويموت مجنوناً مثل والده (وهي عقدة لازمته طوال حياته). كان يمكن أن ينتهي إلى ما انتهى إليه رفاقه لو سلك (خياراتهم). كان يمكن أن يبقى في حضيض نودلز لو أنه سلك (خيارات) صديقه. لكنه أصبح بخياره الشخصي (الوزير بايلي)! وديبرا التي قادتها (خياراتها) لتصبح الراقصة المشهورة والممثلة الكبيرة كان يمكن لخيارات أخرى أن تقضي بها زوجة لرجل عصابة. لكنها – ورغم أنه لم يرُق لها طوال أحداث الفيلم – وجدت نفسها في أحضان ماكس ، الرجل الذي لطالما كرهت فيه تسلطه وتحكمه بنودلز. وجدت نفسها في أحضانه لأنه سلك (الخيارات) التي كانت ترتئيها لنودلز. ورؤية ليوني هذه للخيارات واضحة من تعمده وضع صديقي طفولة عاشا الظروف ذاتها – مع إختلاف شخصيتيهما – في مفترق طرق قادت كلاً منهما ليعيش حياة لم يكن يتوقعها سابقاً. قادت أحدهما ليصبح روبرت ويليامز وقادت الآخر ليصبح الوزير بايلي. الوزير بايلي هو في الواقع من ظفر بديبرا ! ليس نودلز وليس ماكس ، الشخصين اللذين كانا سيظلا نكرتين على الدوام. ومتاهة الخيارات التي يضع فيها ليوني شخصياته – ومن ورائهم نحن جميعاً – هي جزء من تفسير ليوني العبقري للتجربة الإنسانية : ما سنتركه وراءنا من لحظات الماضي هي ليست مجرد (حياةٍ) أخرى كنا لنعيشها لو سلكنا ذلك الدرب ، بل هي (كينونة) أو (ذاتٌ) أخرى كنا لنكونها ، (شخصٌ) آخر كنا صرناه.

في هذا الفيلم سنقابل أيضاً نوعاً شديد الخصوصية من مثلث السينما الأزلي (الرجل والمرأة والطرف الثالث). شديد الخصوصية لأن علاقة الطرفين الرئيسيين فيها بالطرف الثالث مبهمة ، وغامضة ، ومرهقةٌ لنا في إدراك كينونتها. ولكل علاقة هنا قصة تستحق الوقوف أمامها.

ليوني يقود نودلز وديبرا في قصة حب بائسة منذ طفولتهما ، فتى العصابة الإيطالية الصغيرة ، وراقصة الباليه الطموحة الحالمة بالذهاب إلى هوليوود. قصة كل ما فيها جيد وممكن ، لكن (هو بالمجمل شخص يحب , لكنه سيبقى نكرة طوال حياته .. لذلك لن يصبح حبيبي .. للأسف). هذه الجملة المفصلية التي تنطقها ديبرا الصغيرة في واحد من أجمل وأخلد مشاهد الفيلم هي خلاصة قصة حب تجعلها معالجة ليوني مثيرة للأسى لا تلبث بضع دقائق تالية على تأكيدها عندما تغلق ديبرا بابها (وربما للأبد) في وجه نودلز ! هذا (الطموح) الذي كان يتملك ديبرا على الدوام ، و (الرضا) الذي لطالما طبع شخصية نودلز جعل الحبيبين يسلكان دربين شديدي التباعد عن بعضهما. لكن الأمر لا ينتهي هكذا دوماً ، فعاطفة الحب التي تجمعهما هي أكبر مما نعتقد ، وهي العاطفة التي دفعت ديبرا يوماً لتقول لنودلز (ألا تنظر إلى نفسك .. ديفيد آرونسون ؟). ديبرا هي أول (مرآةٍ) رأى نودلز نفسه من خلالها ، مع تبطين مميز لمشهدي نودلز وهو ينظر لنفسه في المرآة مرةً عام 1922 وأخرى عجوزاً عام 1968. هذه العاطفة التي جمعتهما هي ما يجعل ديبرا تتفائل لاحقاً بخروج نودلز من سجنه. تفاؤل مصدره إعتقادها بأن السجن لابد أن يكون قد غير شيئاًَ في عقلية الشخص الوحيد الذي أحبته ، وهي التي عدت الأيام في سجنه ليخبرها بعد كل ذلك :

لم يكن (الخيار) لي.
بلى كان ، ولا يزال.

الجو الجديد الذي تفوح منه روائح الإجرام والذي رأت ديبرا أن نودلز قد أحيط به بعد خروجه هو ما ولّد لديها لمحة الجفاء التي رسمتها ملامحها يوم خروجه. جفاءٌ لم يرق لنودلز وهي تتجاهله للمرة الثانية ، ففجّر ثورة غضب مكبوتة ومتراكمة تجاه فتاة أحبها وقدمها على كل شيء في حياته لكن طموحها فضّل أن يقودها إلى (خياراتٍ) أخرى على أن تصبح لرجل نكرة في يوم من الأيام. ثورةٌ قادته لإغتصابها في ليلة بدأها الحبيبان بتساؤلٍ و رد :

هل إنتظرتني طويلاً ؟
طوال حياتي !

قبل حفل عشاء ساهر عنى الكثير لنودلز وصنعه ليوني بحميميةٍ خاصة تناسَبت وآخر اللحظات الحميمية في قصة الحبيبين. ديبرا تعلن لنودلز (لكنك ستحتجزني وترمي المفاتيح) وإعلان كهذا يرسم في ذهن نودلز شيئاً من الإختلاف الجذري بين شخصيته وشخصية ماكس الطموحة أيضاً. نودلز يرى هنا أن ديبرا لا تختلف كثيراً عن ماكس ، فكلاهما يسعى نحو القمة ، وهما عقليتان من الصعب أن تتوائما مع (البساطة) التي تطبع طموحات نودلز. تجاهل ديبرا الثالث له (أو رفضها إن صح المعنى) لا يبدو تصرفاً مغفوراً في نظر نودلز ، ومشاعر الخيبة والغضب التي تتولد في هذا المشهد لا تنبع فحسب من رفض فتاة لرجل بقدر ما تنبع (لدى نودلز بالذات) من إظهاره ضعفه وهشاشته أمامها ، وهو أمر لم يقدم عليه طوال حياته لا لرجل ولا لإمرأة. والنتيجة التي ينتهي بها المشهد لا تبدو غريبة مطلقاً ، فالنضوج الباكر لفتىً وجد نفسه منذ مولده يلتحف الشوارع هو ما جعله يقفز خطوة للأمام في كل علاقاته الجنسية. نودلز لم يفكر مطلقاً بالتودد لأي فتاة ، هو شخص يقيم العلاقة الجنسية مباشرةً ، ولاعجب أن كانت معظم علاقاته مع بائعات هوى! مشاعره لم تتحرك سوى تجاه الفتاة الوحيدة التي أحبها فعلاً والتي يعلن لها أن (حبها هو ما أبقاه حياً في سجنه). لكنه لم يجد ما يقدمه لها سوى تاريخ إجرامي دامٍ وطريق مستقبلي شائك. هذه الخطوة التي إتخذتها شخصية نودلز وهي تقفز مرحلة المراهقة دون أن تعيشها مطلقاً صنعت نوعية معينة من العلاقات العاطفية التي إعتاد عليها ، الأمر الذي لم يجعل الجنس لديه هماً أو غاية (كما هو حال معظم من هم في سنه) بل نوعاً من المتعة يجب (ولا أقول يمكن) أن يحصل عليه. وهو ما يدفعه لاحقاً ليغتصب أول فتاة أقدمت على رفضه (بل ورفضته ثلاث مرات). هناك شيءٌ ما في كرامة نودلز جرح بقسوة ، شيء لم يعتده ، ذات القسوة التي كان يغلف بها رقته الخفية والتي أظهرها في أقصى جنونها وهو ينتقم لدومينيك بقتله باغسي وطعنه رجل شرطة ، أو بإغتصابه السكرتيرة (كارول) ، أو بإغتصابه حبيبته الوحيدة (ديبرا).

هذه النظرة لشخصية نودلز التي يريد ليوني إيصالها لنا تتجلى مباشرة بعد الإغتصاب عندما نراه يمنح السائق نقوداً لإيصالها يرفضها السائق بنظرة لوم. هذا هو نودلز ، وهذا هو تعامله الدائم مع النساء منذ مولده. هم مجرد وسيلة متعة مدفوعة الثمن ، مهما بلغت عاطفتك تجاههم. الفارق الوحيد هنا هي تلك الوقفة الطويلة لنودلز وحيداً في ختام المشهد وملامح وجهه المعجونة بالذنب ، ليس الذنب الذي إرتكبه بحق حبيبته ، بل شعوره بالخزي والإنزعاج من عدم قدرته طوال كل هذه السنين على نيل إحترام إمرأة وإعجابها ! هو بكل بساطة لم يعتد طوال حياته أن يحترم إمرأة أو أن يمنحها كلمة إعجاب واحدة ! تلك الوقفة الطويلة يختصر فيها ليوني الكثير من ملامح بطله ، هو لا يشعر بتأنيب الضمير مما فعله بحق الآخر ، بل يشعر بتأنيب الضمير مما فعله بحق نفسه.

في مشهد لاحق يذهب نودلز ليلقي نظرته الوداعية على حبيبته في تأكيد صريح على أن الإغتصاب لم ينهي المسألة. الحب لا يزال يملأ قلب نودلز ، والإغتصاب ما هو إلا صورة طبيعية لتعامل نودلز مع المرأة. في مشهد المحطة تلتقي العيون لوهلة ، لكنها كافية تماماً لجعلنا نشعر بالأسى على الطرفين . الأسى على جهل نودلز وإثمه ، والأسى على ديبرا التي ذهبت ضحية له. مصدر الأسى الذي نشعر به تجاه (صياد وطريدة) نابع في الواقع من يقيننا وقناعتنا الحقيقية من أن هناك حباً بينهما ، حب أكبر من أن تلخصه نظرات عينيهما. حب أسيء التعبير عنه - أو أسيء فهمه (لا فرق) - وقاد طرفيه إلى نهاية مأساوية.

في المشاهد الأخيرة يزور نودلز ديبرا عام 1968. يبدو وكأنما قد وعى جيداً مكامن الخلل في ذاته. ولا أستطيع هنا أن أصف مقدار السعادة التي أضاءت عيني ديبرا عندما يخبرها أخيراً ولأول مرة خلال نصف قرن (أنت رائعة !). جملة لم يعتد نودلز أن يلقيها على مسامع إمرأة ، لكن 35 عاماً من الضياع كانت كفيلة بأن تقلب كل مفاهيم الرجل وتصوراته للحب والحياة ، ليعود بعد 35 عاماً من أجل سببين كان أحدهما : أن يتأكد من صواب (الخيارات) التي إتخذتها ديبرا قبل 46 عاماً وعجز يومها عن إستيعابها !!

في الجانب الآخر من المثلث هناك قصة صداقة قل أن جادت الشاشة الكبيرة بمثيلاتها جمعت ماكس بنودلز. وربما من المهم ونحن نقرأ أبعاد شخصيتيهما (التكامليتين) كما ذكرت سابقاً الإلتفات إلى النقاط المحورية التي مرت بها هذه العلاقة. نودلز كان زعيم أقرانه في الحي قبل حضور ماكس ، وإنبهار نودلز بذكاء ماكس وطموحه (اللذين يغلفان نزعة تسلط وأنانية خفيتين) لا يعني الإنزلاق في محيطه مباشرة بالنسبة لأي شخص آخر. لكن مع نودلز الوضع يختلف تماماً ، فعاطفته هي من تقوده على الدوام ! عاطفة الصداقة التي تتشكل لدى نودلز تجاه ماكس وبقية الرفاق تبدو أكبر من تلك التي يحملها ماكس له ، وإن لم تبد على ذلك النحو اولاً. هذه العاطفة التي توجه تحركات نودلز والتي قادته أيضاً في علاقته بديبرا هي ما دفعته للإنجراف في مستنقع ماكس الذي لا حدّ له (نودلز يعيش أصلاً في مستنقع !). ذلك القبول الذي يمنحه نودلز بقوة لماكس هو نتيجة حتمية ورد فعل مباشر لرفض ديبرا له ، وكأنما هي محاولة من ليوني لإعادة توازن العاطفة في دواخل نودلز. هنا يقف نودلز وقفة حائرة في مفترق طرق : حب الطفولة (المتمثل بديبرا) وحلم الرجولة (المتمثل بماكس) وهي رجولة من نوع خاص تعني المزيد من أعمال الإجرام والمزيد من االمال. وذلك الجفاء الذي تقابله به ديبرا هو ما ولد لدى نودلز (مطلع العشرينيات) الرغبة بمجاراة الحلم الأمريكي في أسوأ صوره وأشكاله حيث جوهره القائل بأن أي فكرة ذكية – مهما كانت سلبياتها ومساوئها – لو قابلتها النية الصادقة والمال والمهارة في التنفيذ فستصعد بصاحبها إلى القمة ! ومع أفكار ماكس (الطموحة) فإن الحلم الأمريكي يبدو لنودلز على أطراف أصابعه. هذه الصورة تتجلى مباشرة لدى العصابة الصغيرة عندما نجدهم يجنون ثروة صغيرة – لكنها مهمة – من بيع أحد إختراعاتهم لعصابة من عصابات التهريب. ومع الرمزية المشهدية الذي ينتهجه ليوني في التعامل مع شخصيتي ماكس ونودلز يرسم لنا ليوني صورة بسيطة للقاء (العاطفة) لدى نودلز و (الذكاء) لدى ماكس في مشهد (الغرق) : ماكس صار في القارب بينما نودلز (الاعمى) يصرخ ويصرخ ! ذات الصورة التي يتباهى بها الوزير بايلي في أحد المشاهد لاحقاً وهو يخبره (كانت عيناك مغرورقتين بالدموع فلم تتبين أنني لم أكن الشخص المحروق في الشارع !).

لاحقاً تزدهر الأعمال في طريقهم ويتعاهدون على البقاء معاً إلى الأبد وهم يغلقون حقيبة تضم نصف عوائدهم. لكن الحياة ليست وردية إلى هذا الحد. مقتل دومينيك يعيد رسم الصورة الحقيقية للشخصيتين : ماكس (بذكائه ، بتعقله ، وربما بأنانيته) يختبيء مراقباً ما يحدث ، بينما يندفع نودلز (بعاطفته تجاه أصدقائه ، وبرعونته ووحشيته) : يقتل باغسي ، ويطعن رجل شرطة ، وويُرسَل إلى الإصلاحية لعشرة أعوام قادمة. الرمزية المشهدية لليوني تتجلى تماماً في هذا المشهد ، حيث أفكار ماكس (القيادية) هي من قادت دومينيك إلى حتفه بقراره الوقوف في وجه باغسي ، بينما (رعونة) نودلز المعهودة هي ما تدفع الثمن. واللافت حقاً أنه رغم كل السلبيات التي تحملها شخصية نودلز يبقى طوال المرحلة التعريفية السابقة هو نصيرنا الأول !

فترة السجن لها مدلولاتها لدى أطراف المثلث : هي لنودلز فترة مراجعة حسابات ، وأمل مشوش ببقايا حب ضائع تكنه له ديبرا ، وهي لديبرا بصيص أمل تولده ثقتها بأثرٍ ستُحدثه الإصلاحية على عقلية الرجل الوحيد الذي أحبته ، وهي لماكس تعني المزيد من العمل والمزيد من المال والمزيد من الطموحات الجنونية في ظل تأسيسه لشركة ترعى أعمال المجموعة كستار يخفي وراءه عمليات تهريب الكحول المزدهرة آنذاك.


بعد خروجه من السجن نشاهد الملامح االمشوشة في عيني نودلز وكأنما هو الخوف والرهبة من تكرار أخطاء الماضي. ربما أثمر عمل الإصلاحية فيه. تبدو أعمال المجموعة الآن مجرد إهتمام لا أكثر بالنسبة لنودلز حتى يأتي لقاء ديبرا والجفاء الذي يتولد بينهما للمرة الثانية مما يؤدي في الواقع إلى اندفاع نودلز تجاه شبكة ماكس الجهنمية مع طموحات أكبر بكثير من ذي قبل. هذه الرهبة المبدئية ثم القبول التام يلخصه ليوني ببلاغةٍ مشهدية (مكثفة بشدة في علاقة ماكس بنودلز) في مشهد لاحق حيث نرى إبتسامات نودلز المتوجسة وهو يلتقي فرانكي (أحد زعماء المافيا) وصديقه جورج ، ثم نشاهد ذلك التوجس وهو يزول تدريجياً لينتهي بضحكة من القلب ترتسم على وجه نودلز ! لقد عاد نودلز إلى الدرب ذاته ، الدرب الذي كلفه عشر سنوات من عمره وصديقاً من أصدقاء طفولته ، سيكلفه أكثر بكثير هذه المرة ! ونتاج علاقات نودلز ضمن هذا المثلث - جفاء ديبرا وقبول ماكس - أن يجد نودلز نفسه فجأةً وعلى خلاف ما كان ينتظر : لصاً ومغتصباً وقاتلاً. في عملية سرقة االماس التي يقوم بها الرفقة تتجلى الثورة الجنونية لنودلز (بإستغلال ذكي كالعادة من ماكس) فيقوم بإغتصاب السكرتيرة ويردي رجلاً في معمل للقطن. ذات الوحشية التي قادته مع باغسي سابقاً ، ومع ديبرا لاحقاً.

بعد تلك العملية تبدأ الهوة بالإتساع بين نولدز وماكس. وفي ثلاث مشاهد متفرقة يرينا ليوني الإطار الكامل للصورة. في المشهد الأول نشاهد نظرات متوترة ، قلقة ، غاضبة ، بين نودلز و ماكس داخل السيارة بعد العملية مباشرة وتساؤل نودلز يلخص أحد أهم مشاهد الفيلم (اليوم طلبوا منك التخلص من جوي .. غداً سيطلبون مني التخلص منك .. هل هذا يناسبك ؟ لأنه لا يناسبني). هل بدأنا ندرك هنا أبعاد العلاقة التكاملية كافة ؟ نعم. طموح ماكس الذي لا ينتهي يقابله في الواقع الرضا والقناعة التي تطبع شخصية نودلز ، القيام فقط بما يجب كي تستمر أعمالهم ، لا أكثر ولا أقل. يصطدم ذلك الرضا لاحقاً بالعمليات التي يقوم بها ماكس مع نقابات العمال والتي لا تروق لنودلز لكنه - تحت تأثير تسلط ماكس - يقوم بها. في المشهد الثاني يتجلى مرة أخرى الصراع بين شخصية ماكس الطموحة وشخصية نودلز الراضية ، مشهد العرش ، النفوذ الذي يبحث عنه ماكس طوال حياته ويتمكن من تحقيقه لاحقاً. رجلٌ يمكنه أن يدفع - عام 1933 ! - 800 دولار لعرش من القرن السابع عشر فقط لـ (يجلس عليه) ! بينما الآخر يندهش لذلك ، يحب أن يعيش متعة اللحظة بكل تفاصيلها ، يعشق البساطة حتى في أحلامه ، يكره التغيير ولم يفكر مطلقاً بما سيحمله الغد. كنتيجةٍ طبيعية لهذا الصراع يأتي رفض نودلز (في المشهد الثالث) لدخولهم عالم التهريب بعد عملية جيمي. مفهومهما حول النقود لا يلتقي أبداً. نودلز يرى أنه طالما ينفق النقود ببذخ وطالما جيوبه عامرة فهو لن يحتاج للمزيد. بينما المال لدى ماكس هو جزء من روحه وجزء من روتينه اليومي . إنهاء الحظر يدفع ماكس في أعلى فترات جنونه إلى التفكير في المصرف الإحتياطي الفيدرالي ، وقرار نودلز تعديل خط سير ماكس كان يتطلب (من معرفتنا بشخصية نودلز) التضحية بحريته هو أيضاً. عاطفته تجاه أصدقاءه هي ما تجعله يقودهم على ذلك النحو كي يبتعدوا عن الأضواء لأكثر من عام خلف القضبان. لكن الأمر يبدو مغايراً من وجهة نظر ماكس ، فـ(أنانيته) تقوده للتفريط بصديقيه العزيزين في المواجهة مع الشرطة مفوتاً الفرصة على نودلز في رؤيتهم وراء القضبان !!

الضلع الثالث في المثلث هو الضلع الأقصر والأكثر غموضاً ، لكنه بشكل ما يبدو الأهم لأنه يربط بين الضلعين الآخرين من خلال التساؤلات التي يثيرها : ضلع (ديبرا – ماكس). في الواقع إن العلاقة بين المرأة والطرف الثالث في هذا المثلث ليست علاقة رومانسية ، بل هي علاقةٌ من نوع خاص ، ومحاولة إلغاء وجودها أو التقليل من أهميتها أو على الأقل إفتراض عفويتها وتلقائيتها هو نوع من سوء الفهم.

من فهمنا المسبق لأبعاد الشخصيتين فإن ديبرا وماكس يلتقيان عبر نزعة إنسانية مشتركة لكنها الأكثر أهمية في شخصيتيهما وهي (الطموح). وفي حين تبدو الأفكار والتوجهات شديدة التباين بينهما ، لكن ذلك الرابط موجود فعلاً. بالمقابل فإن العاطفتين الحقيقيتين اللتين تحكمان نودلز هما الحب (تجاه ديبرا) والصداقة (تجاه ماكس) ، والعلاقتان كما ترسمهما معالجة ليوني تتناسبان عكساًَ. عندما يكون نودلز مع ديبرا فهو لا يريد أن يسرقه أحد منها ، ومع كل جفاء من ديبرا هناك قبول تجاه ماكس ، قبول أكثر من السابق. من الصعب تجاهل نظرات عيني ماكس (المريبتين) وهو (يسرق) نودلز من ديبرا عام 1922 ليعطيه أجرته ، ومن الصعب في المقابل تجاهل نظرات عيني نودلز وهو يحاول تجاهل إستدعاء ماكس! نودلز يفضل البقاء مع ديبرا في هذا المشهد وهو تفضيل حرفي ورمزي ، و سرقة ماكس لنودلز من ديبرا هي أيضاً سرقة حرفية و رمزية ، وكأن بـ(العمل) يتغلب على (العاطفة) هنا. في اللقاء الثاني بين ديبرا ونودلز عام 1933 بعد خروجه من السجن وبينما المشاعر المكبوتة بين نودلز وديبرا تحاول إستعادة شيء من ألقها يسرق ماكس نودلز من ديبرا مرة أخرى. هل يمكننا تجاهل نظرات ماكس (المريبة جداً) هذه المرة أيضاً ؟ في إعتقادي لا ، وتساؤل نودلز العفوي (هل ماكس هو من أخبرك بخروجي اليوم ؟) لا يدرجه ليوني لمجرد ملء المشهد بالحوارات ! بالطبع ليس ماكس ، ومن المستحيل ربما على ماكس أن يقدم على أي خطوة تقرب نودلز من ديبرا. نودلز مرةً أخرى يحاول تجاهل ماكس لوهلة قبل أن يدرك الجفاء الذي تقابله به ديبرا (للمرة الثانية). هنا يندفع بقوة تجاه ماكس ليعيش الإجرام بكل صنوفه وأشكاله. من المهم التركيز هنا على أن نودلز الذي يدعو ديبرا لحفل عشاء ساهر لم يقدم على هذه الخطوة إلا في ظل غياب ماكس وإنشغاله بأعمال النقابة. هل بدأ نودلز يدرك شيئاً من الخط الرابط بينهما؟ ربما في تشبيهه لها بماكس في هذه السهرة شيء من ذلك. المهم هو أن ماكس يشن بعد هذا المشهد حرباً على نودلز لأنه وضع ديبرا قبل كل شيء في حياته مفوتاً على نفسه بعضاً من الأعمال الإضافية مع النقابة. من السذاجة هنا أن ندعي أن تلك الثورة الجنونية لماكس وهو يحاول جاهداً الإدعاء بأن النساء لا يشكّلن شيئاً في حياته نابعة من لا شيء ، ومن العبث القول أن إستيلاء الوزير بايلي على ديبرا جاء بالصدفة أيضاً ! هل العاطفة هي ما دفعت بماكس نحو ديبرا ؟ من وجهة نظر ديبرا فالأمر لا يبدو على ذلك النحو أبداً. فالمرأة التي لطالما إحتقرته صغيراً وإحتقرته في شبابه بسبب تسلطه وسيطرته على نودلز لم تكن لترتمي في أحضانه بكل تلك السهولة. ديبرا في الحقيقة لم تكن تحتقر في نودلز و ماكس (إجرامهما) بل (وضاعتهما). وعلاقتها بالوزير بايلي – رغم سجله وتاريخه الإجرامي الذي تعرفه جيداً – تبرهن ذلك. في الجانب المقابل فإن رابطة ماكس بديبرا تبقى لغزاً غامضاً يخص ماكس وحده ، قد تفسره أنانية ماكس التي لمسناها في مواضع عدة على أنه نوع من حب الإستحواذ على نودلز. صداقته لنودلز – بل و إستفادته من هذه الصداقة – تجعله يريده لنفسه دون أن يشاركه فيه أحد. شعور يضاهي ربما شعور المرء بحجم الفراغ عند زواج (أعز) أصدقاءه مثلاً ! ماكس يدرك جيداً أن ديبرا – رغم علاقاته المتعددة – هي حب نودلز الوحيد وهي الشخص الوحيد الذي يمكن أن يقوض أركان صداقتهما لو منحت نودلز القبول الذي يبحث عنه ، لذا فديبرا تبدو خطراً على علاقته بنودلز. وهو أمر قد يفسر محاولة ماكس كسر لحظتي الصفاء الوحيدتين بين ديبرا ونودلز ، ويفسر أيضاً ثورته الجنونية وغيرته من ترك نودلز بعض الأعمال المهمة تفوته وهو يقضي وقته مع ديبرا. ثورة محورها الرئيسي هو (ديبرا) وليس (الاعمال التي فوتها نودلز) خاصةً إذا ما علمنا أن نودلز كان خارجاً للتو من سجنه وقد إعتادوا غيابه لعشر سنوات كاملة ! كل هذا يصب في مجرى واحد : عاطفةٌ غامضة حملها ماكس تجاه ديبرا ، أرضيتها الطموح الذي وحّدهما ، وبناءها مزيج من الغيرة والإستحواذ ، وربما الحب. عاطفة قادت الوزير بايلي لاحقاً للحصول عليها ، بل والمفاخرة بأنه سلبها من نودلز في أهم و أعظم مشاهد الفيلم.

في أهم وأعظم مشاهد الفيلم – وكما حدث في ملحمة الغرب – هناك مكاشفة ، وهناك سر. سرٌّ يفسر الكثير مما شاهدنا دون أن يبدو هدفاً بحد ذاته. سرٌّ يأتي وقد عاشت شخصيات ليوني من العذابات ما يكفيها وصارت تواقة للخلاص من جراح الماضي. والتداعيات التي يقدمها ليوني قبيل النهاية فيها من الذكاء ما يكفل أن تلخص كل أبعاد الشخصيات الثلاث لهذا العمل في مشهدٍ واحد!

يزور العجوز نودلز ديبرا وهي على مشارف الستين من عمرها ليتأكد من صواب (الخيارات) التي قادتها بعيداً عنه وبدافع آخر لم يستطع مقاومته وما كان أي منا ليستطيع مقاومته هو (الفضول) : من أخذ حقيبة المليون دولار قبل 35 عاماً ؟ ومن بنى تلك المقبرة الفخمة لأصدقاءه وأهداها بإسمه ؟ ومن هو الوزير بايلي الذي يدعوه إلى حفلته ؟ هذا الفضول الذي تجابهه ديبرا بالتوسلات (إذا ذهبت إلى الحفلة ليلة السبت ، فلن تعود لك ذكريات) كان أكبر من صبر نودلز وهو الطامح ليجد في اللقاء إجابةً لبعض من تساؤلاته. لقاء الوزير بايلي يحمل لنودلز الكثير من (الخلاص) ، وحقيقة (حيثما تكون ، أكون) التي قالها نودلز ذات يوم ملخصاً علاقته بماكس تبقى معه حتى النهاية. ماكس وهو يحمل في ذاته الرغبة في التطهير تجاه أعز أصدقاءه ، معيداً حقيبة المليون دولار ، ومانحاً إسمه لإبنه ، ومهدياً تلك المقبرة الفخمة للرفاق بإسمه ، ومانحاً إياه الفرصة للإنتقام ، لا يخفي وراء ذلك كله روحه (الأنانية) : هو في الحقيقة يبحث عن (الخلاص) لنفسه أولاً قبل أن يُفكر بإراحة نودلز. يبدو ماكس هنا في أعلى درجات تسلطه المعهود رغم أنه في الواقع في أضعف حالاته ، حتى وهو يمنح نودلز الفرصة بالإنتقام يبدو الطلب (أمراً) أكثر من كونه (رجاءًا).

وفجأةً كما لو أن كل الحقد والمرارة والثقل الهائل للندم قد فرغت من نودلز في لحظة. (خيار) نودلز الأخير قد يكون للأسف أول (خيار) صائب في حياته. وقرار نودلز أن يسامح هو عذاب نفسي شنيع لأنانية ماكس ، يكاد يكون الأمر الوحيد الذي جرؤ على رفضه لماكس. وهو في الوقت ذاته نصر حقيقي لروح ضائعة ونفس أحرقها الندم طوال 35 عاماً. نودلز دون شك في أكثر لحظات إرتياحه النفسي ، وليوني بالمقابل يمنح بطله بضع لحظاتٍ للذكرى في مشهد فلاش باك يستعرض فيه نودلز مجموعة من أجمل لحظات صداقتهما ، لحظات الطفولة حصراً ، وكأنما هو يتناسى تماماً كل ذكريات الشباب حيث قادتهما أفكارهما بعيداً ووصلت بهواجسهما إلى هذه اللحظة الصعبة. بعد ذلك الفلاش باك يُنهي ليوني رحلة صداقة نصف قرن كما بدأها أول مرة ، بـ(الساعة) ، بينما نودلز يملي على الوزير بايلي قصته البسيطة (لدي قصة كذلك .. إنها أبسط من قصتك .. منذ سنوات كان لدي صديق .. صديق عزيز .. وشيت به للشرطة لأنقذ حياته .. لكنه قتل .. لكن هذا ما أراده .. كانت صداقة رائعة .. ساءت أموره .. وساءت أموري كذلك).

آخر لحظات الفيلم ختام مميز ، ربما هو ختام مميز للمسيرة كلها. ليوني ينهي عمله المرهق هذا مقتبساً إبتسامة غريبة لنودلز الشاب في وكر للمدخنين في المسرح الصيني عام 1933. إبتسامة هي مزيج من البهجة ، والإرتياح ، والنشوة. لقد تخلص نودلز من الثقل الذي أعيا كاهله ، إنتصرت (الروح) التائهة رغم أنها خسرت كل (الماديات) التي عاشت من أجلها.

من المهم ربما للقارئ أن يعلم أن المربع الذي صنع عظمة أفلام السباغيتي ويسترن التي صنعها سيرجيو ليوني (ديللي كوللي و سيمي و بارالي و موريكوني) موجود هنا ايضاً. وكما تمكن هذا المربع من صنع الملحمة كما لم يسبق لنا مشاهدتها في أفلام الويسترن ، يعودون هنا لتقديم ملحمة عصابات غير مسبوقة.

ربما لو سألت أي مصور اليوم عما يمثله سيرجيو ليوني بالنسبة لفن التصوير السينمائي فلن يتردد في الإجابة (سيرجيو ليوني هو سيد الكلوز آب واللقطات الواسعة والمتسعة) وعلى هذا فستجد الكثير من ذلك في ملحمته الاخيرة. تونينو ديللي كوللي وراء الكاميرا في أعلى حالات توهجه. تعمده هنا إستخدام معظم الأفكار التصويرية المتاحة هو جزء من محاولة الحفاظ على ألق الفيلم طوال ساعات عرضه الأربع. جزءٌ من الإرهاق الذي نشعر به مثلاً أثناء مشاهدة إنقاذ الجندي رايان هو تمسّك كامينسكي بأفكار التصوير الواقعي والكاميرا المحمولة المهزوزة كترجمةٍ بصريةٍ طوال ثلاث ساعات كاملة ، مع فارق مهم هو أن إرهاقنا كان هدفاً من أهداف سبيلبيرغ في تلك الملحمة ، وقد نجح في ذلك. لغة الـ Close-up التي تكلمت في كافة إفتتاحيات أفلام الويسترن التي قدمها ليوني تتكلم أيضاً في بدايات هذا العمل ، وهي لغة إعتاد ليوني التعريف بشخصياته من خلالها. لا تلبث بعدها المشاهد الواسعة أن تظهر كأسلوب للتعريف بالمكان ، ربما هنا بحرفية أعلى على إعتبار فارق المكان (حيّ نيويورك اليهودي .. وصحاري وقفار الغرب). لا تحتاج للكثير من المعرفة لتدرك أنك أمام كاميرا ذكية للغاية مولعة بالتفاصيل ولا تنهج أسلوباً ثابتاً في التعامل مع أحداث تمتد لتغطي نصف قرن مع ولع واضح بالتصوير من زوايا تعكس ضيق المكان وإنغلاق الجو (وكر للحشيش – حمام – سيارة – غرف مغلقة – درج – مقبرة .. إلخ). اللقطات الواسعة هنا ساحرة ، حتى حانة مو الصغيرة تبدو واسعة جداً من خلال كاميرا ديللي كوللي. مايحضرني الآن : اللقطة الواسعة لنودلز وحيداً بعد إغتصاب ديبرا والتي تحكي الحكاية بمفردها .. واللقطة التي تتلو صفع ماكس لنودلز على الشاطيء معطيةً شعوراً عميقاً بالإنقسام والضياع. إلى جانب ذلك تستخدم كاميرا ديللي كوللي مجالاً واسعاً من اساليب التصوير : من الحيوية بتعدد زوايا التصوير والكادرات الواسعة والضيقة لأسطح البنايات في مشهد الشرطي ، وصولاً إلى الطقوس البصرية النوارية التي رافقت مشاهد تعذيب رجل النقابة ، مروراً بمجموعة من الزوومات المعمولة ، كذلك الذي نقترب فيه من الحبيبين في مشهد رقصهما الاخير ، أو ذلك الذي نبتعد فيه لنلقي نظرة على الوضع المحير الذي ينتج عن عملية تبديل الأطفال! في أحد المشاهد التي لا تنسى تبدو ديبرا الصغيرة مارةً في شوارع الحي بينما نودلز ورفاقه يتعقبونها. نشاهد الكاميرا تبتعد لترينا صورة عامة للشارع المزدحم فنفقدهم للحظات ، قبل أن تعود للإقتراب شيئاً فشيئاً لنعثر عليهم ! يحضرني أيضاً مشهد صامت فاتن جداً ، لقطة واسعة لحانة (مو) من الخارج نفهم من خلالها أن مو تلقى إتصالاً هاتفياً لايلبث على إثره من الإعتذار لزبائنه بحجة أنه سيغلق باكراً هذه الليلة. بعد ذلك تنزل الكاميرا على كابينة هاتفٍ مقابلة للحانة يقف فيها نودلز العجوز متحدثاً في الهاتف ! أعجبني أيضاً تعامل ديلي كوللي مع المشاهد الثلاث لفتح الحقيبة : التصوير في مشهدي 1922 و 1933 يكون من الجهة المعاكسة لفتح الحقيبة. ليوني يحاول إثارتنا ربما ، أو هو لايريدنا أن نرى مافي الحقيبة ربما لوضاعته. لن نجد سوى بضع دولارات عام 1922 ومجموعة من الصحف عام 1933. الوضع مختلف عام 1968 ، يلتقط ليوني الحقيبة المفتوحة من الجهة المواجهة ليشهد معنا لحظة فتح الحقيبة وإكتشاف رزم النقود التي تمتليء بها ، وحسب أهمية ماتحمله الحقيبة تختلف نظرتنا لها. سيصل بنا هذا التنوع إلى أسلوب تصوير كلاسيكي لكنه ناجع جداً في لقاء ديبرا ونودلز الأخير عام 1968 وهو التصوير عبر المرآة ، حيث حساسية المشهد تستلزم إلتقاطنا لتعابير وردود فعل الطرفين في آن ، وهو ما يعجز المونتاج عن إيصاله بذات التاثير .

الإخراج الفني لكارلو سيمي إنجاز عظيم. يحمل على عاتقه مسؤولية البُعدين المتحركين هنا (الزمان و المكان) وهو يجوب بنا مناطق مختلفة خلال أزمان مختلفة. ومع إلغاء التراتبية الزمنية لأحداث الفيلم قد لا يبدو عمل كارلو سيمي واضحاً للعيان ، لكن مع تكرار المشاهدة يمكنك بسهولة تبيّن ذلك الإهتمام الدقيق بتفاصيل الزمان والمكان ونحن نشهد ذلك التدرج الطبيعي للمكان بين حيّ يهودي (بكل معنى الكلمة) عام 1922 إلى حيّ بدأ يفقد بعضاً من ملامحه عام 1933 حيث حميمية المكان تصل ذروتها في هذه الفترة ، وصولاً إلى حيّ أمريكي عصري فقد كل ملامح يهوديته إلا من بعض المارة عام 1968. هذا التدرج في التغيير يصيب كل البيئات التي تدور فيها أحداث الفيلم وليس الحيّ وحده : محطة القطار ، السيارات ، الشوارع ، الخزانات ، حتى حانة (مو) شملها التغيير ايضاً.

مونتاج نينو بارالي (الذي صنع جزءاً هاماً من عظمة أفلام السباغيتي ويسترن التي قدمها ليوني) يُشعرك بالخجل من نفسك عند الحديث عنه ! ولا أدري حقيقةً أين يكمن الفاصل بين تأثيره وتأثير السيناريو ذاته. هل كان لسيناريو يجسّد تداخل نصف قرن من الأحداث ليصل كما شاهدنا لولا براعة بارالي ؟ بالتأكيد لا . ما أراه لافتاً بالفعل هو منجزه في تقديم التداخل الذي يربط بين أحداث عام 1968 وأحداث عامي 1922 و 1933 بحيث يبدو كل مشهد حديث هو نتيجة لمشهد قديم ، وكل مشهد قديم هو تمهيد لمشهد سيحدث لاحقاً. في أحد المشاهد مثلاً يسير نودلز العجوز خائفاً وهو يحمل حقيبة المليون دولار على صوت ضجيج عربات القطار ، ومع ثقل الحقيبة وماتحمله (وهو ثقل حرفي و رمزي) يرتفع التوتر مِنَ القادم ، فينقلنا بارالي مباشرة إلى مشهد نودلز الخارج للتو من السجن حاملاً حقيبته عام 1933 وجملة ماكس في مسامعه (هل أحملها عنك يا سيدي ؟) في تداخل مدروس : نعم يا ماكس ، لقد فعلت ، لقد حملتها عني ، 35 عاماً !! 

عند تناولنا الموسيقى في (حدث ذات مرة في أمريكا) سيقودنا ليوني – كعادته – إلى صديق الطفولة والدراسة : العبقري إنيو موريكوني. أحد معالم الموسيقى التصويرية في القرن العشرين ، وواحد من بضعة مبدعين فازوا بأسد فينيسيا الذهبي عن مجمل المسيرة (بعيداً عن ثنائية المخرجين / الممثلين اللذين يلتهمون عادةً الجوائز الشرفية) ، وهو بالتأكيد الإسم الاول (بعيداً أيضاً عن ذات الثنائية) الذي يستحق أن يوضع على لائحة الأوسكار الشرفي ! هل في كلامي عن هذا العجوز الإيطالي نوع من التحيز ؟! إذا كنت تعرف أعماله جيداً فلن تفكر في ذلك .

في الواقع إن حديثي عن الموسيقى في (حدث ذات مرة في أمريكا) هو ضرب من العبث !!! فهي واحدة من الحالات القليلة التي أعتقد أنني (شاهدت) فيها موسيقى لفيلم سينمائي ، ولا أبالغ بشان كلمة (شاهدت)  مطلقاً ! بعد هذه الرحلة الطويلة لي مع أعمال موريكوني أقول بثقة : هذه ليست أعظم موسيقى قدمها هذا الإيطالي . ليست الأعظم لأننا ببساطة نتحدث عن الرجل الذي وضع موسيقى أعمالٍ مثل (حدث ذات مرة في الغرب) و (الطيب والشرير والقبيح) و (الإرسالية) و (المحصنون) و (سينما باراديسو). من الصعب مع كل هذا الإبداع تحديد (الأعظم). لكنني سأضعها في مراتب الصدارة - بين أعمال موريكوني وغيره - عند الحديث عن أكبر إسهام لموسيقى تصويرية في عظمة فيلم ! كنت أتظاهر بالجمود العاطفي أحياناً ، وأحاول إقناع نفسي بالنضج وتأمل أعمال موسيقية عظيمة الأثر منذ فجر السينما وحتى اليوم ، وأحياناً كنت أصل إلى قناعاتٍ جديدة ترضيني إلى حد بعيد ، ثم لا ألبث بعدها أن أعيد مشاهدة ملحمة ليوني الأخيرة فأفضل عندها ألا أنضج ! موريكوني في هذا العمل إستثنائي للغاية ، صنع من مقطوعاته كائناً حياً يتجول في ثنايا أحداثه المعقدة ، ويبرز في كل لحظاته المفصلية ، ويسهّل رحلتنا عبر خمسين عاماً من الذكريات ، ويتداخل في كل العواطف التي تتجاذبنا اثناء الإبحار معه ، ولا أرى في الأمر مبالغةً إذا إعتبرنا أن موسيقى موريكوني هي شخصية ليوني الرابعة التي نراقبها ونتأملها وهي تتطور وتتقدم مع كل مرحلة نتجاوزها في الأحداث ! لو أمكن على سبيل التصور القول أن موسيقياً يمكن أن يرسم بموسيقاه فإن موريكوني يرسم في هذا العمل ! ولو أخبرني أحدهم أن ليوني كتب هذا السيناريو إستلهاماً من تلك الموسيقى لربما صدقته ! .. إعتاد سيرجيو ليوني في جميع أفلامه السبعة تقديم (التيمة الموسيقية الرئيسية) للعمل مع لقطات قريبة في كل إفتتاحيات تلك الأفلام. وعندما تظهر التيمة الموسيقية الرئيسية للفيلم (بالناي هذه المرة وليس بالغيتار كما فعل في أفلام الغرب) يغمرك شعور لا يوصف بأنك ستشاهد شيئاً لا ينسى. موسيقى الفيلم لم تعد ترمز اليوم إلا لكل ما له علاقة بالصداقة ، بالذنب ، بالشرف ، بالخيانة ، بالخلاص ، بكذبة العمر التي لا تغتفر. هل أبالغ بتقديرها ؟! لا أعتقد ، فالعظمة التي تمنحها للعمل كله تستحق ذلك التقدير فعلاً ، بل أنه من المدهش أن تكون موسيقى الفيلم هي الشيء الوحيد المحتفى به نقدياً في (مسخ الـ 139 دقيقة) الذي شوهد عام 1984 !!!

أداءات سكوت تايلر و روستي جاكوبس في دوري نودلز وماكس عام 1922 جذابة. إذا كان من حياة حقيقية عشناها مع شخصيات العمل فإننا في الواقع عشناها مع هذين الفتيين. أداءهما نابض بالحيوية ، ممتليء ، لا تملك إلا أن تقدره ، ولا تستطيع إنكار أن ملامح وجوههم تظل معك طوال أحداث الفيلم اللاحقة. شعورنا بالخيبة تجاه ما يفعله نودلز بالذات في طفولته يعكس المهمة الملقاة على عاتق سكوت تايلر في كسب تعاطفنا تجاه الشخصية السلبية التي يمتلكها ، وقد نجح في ذلك فعلاً .

قد يكون هذا هو أعظم أداءات روبرت دى نيرو المتجاهلة ، أو بشكل أكثر دقة (غير الممدوحة). بقدر ما شاهدت أعمالاً لدى نيرو بقدر ما ترسخ لديّ أن هذا العمل قد يكون أكثرها خصوصية على صعيد الأداء في مسيرته. الشعور الأول الذي يراودك مباشرة وأنت تتأمل أداء بوبي هنا هو أن دى نيرو قد فقد بصمته. تلك البصمة التي نراها دائماً وراء فيتو كورليوني و ترافيس بيكل و جيك لاموتا و آل كابوني و جيمس كونوي. لكنك بتمعن أكثر تصل إلى حقيقة مغايرة : دى نيرو يصنع بصمة جديدة له في هذا العمل ! إذا شعرت بأن هذا هو العمل الوحيد الذي لم تشاهد فيه دى نيرو االذي إعتدته فأنت على حق. دى نيرو يبدو كما يجب فعلاً أن يكون نودلز : عاطفة العمل الحقيقية ، ومخلوقنا الضعيف والمشوش الذي نحاول مساعدته رغم تاريخه الدامي ، كائنٌ له من العذابات النفسية ما يكفيه ولم تكن بضع جراح جديدة لتصنع فرقاً. تثيرني المرونة العجيبة التي يروض فيها دى نيرو إنتقاله المدهش من رجل عصابة هائج ، إنفعالي ، منقسم العاطفة بين صديقه وحبيبته ، إلى العجوز المنهك الضعيف الخائف ذي التاريخ الدامي الذي يكتشف فجاةً أن كل حياته السابقة كانت وهماً. عندما أتأمل لغة الجسد ولغة العينين اللتين لعب عليهما دى نيرو هنا كأداة رئيسية يصمت لدي الهاجس الذي يراودني كلما شاهدت فيلماً له (لماذا صار دى نيرو اسطورة ؟!). كم من الممثلين قادرون على أن يمنحوك نظرة الأسى الخاصة ، الأسى المغلف بالكثير من (رباطة الجأش) والمعطر برائحة (الخلاص) التي يتفحّص فيها نودلز قصر الوزير بايلي بعد معرفته بالحقيقة دون أي كلمة ، دون أي رد فعل ، عيون دى نيرو ، وملامح دى نيرو وحدها تحكي الحكاية كلها. المشاهد الأخيرة من هذا العمل تقدّم لغة أدائية فريدة لا أقول لم يعتدها دى نيرو ، وإنما لم يكثفها في أي من أعماله السابقة كما فعل هنا.

جيمس وودز هو شخصية المشاهد المفضلة دون شك. الدفع الأدائي المميز الذي يمنحه لماكس من المستحيل نسيانه. وقوة الشخصية والجاذبية والغموض التي يتمتع بها ماكس وصلت تماماً على يد وودز ، بل أنك بحاجة لعمل مضاعف كي تصبح هدف المشاهد أمام دى نيرو بالذات. وودز متمكن للغاية ومدرك جيداً لأبعاد شخصية شديدة التركيب ، متسلطة وانانية حتى في أشد لحظاتها ضعفاً.

في الأداءات النسائية ، أداء تشيوزداي وايلد لدور كارول ضحية نودلز في عملية الألماس وصديقة ماكس لاحقاً ممتازٌ على صغر دورها. إليزابيث ماك غوفيرن جيدة إلى حد ما ، ولن أنتقصها كثيراً. لا أعتقد أن هذه الممثلة الشابة كانت تعلم بأن وجه الصعوبة الحقيقية في دورها هو ملؤها لشخصيةٍ تلعب جينيفر كونيلّي دور طفولتها. جينيفر كونيلّي إبنة الثالثة عشر تمنحنا ديبرا للذكرى! قد تتناسى الكثير من لحظات الفيلم لكنك لن تستطيع نسيان البراءة والرقة اللتين تمنحهما لديبرا وفي الوقت ذاته العزيمة والطموح اللتين تصدح بهما ملامح وجهها. كم من الممثلات في عمرها يمكن أن تنطق عيونهم بتلك المشاعر (المتناقضة) التي نراها في عيني كونيلّي وهي توصد بابها في وجه نودلز ؟! بل أن الجزء الأكبر من التعاطف الذي نحمله لديبرا في شبابها وكبرها هو في الحقيقة تعاطف تجاه ديبرا التي عرفناها عن طريق كونيلّي أكثر من تلك التي قدمتها ماك غوفيرن . بالمجمل ، سيرجيو ليوني كان هنا في أعلى درجات توهجه كمدير للممثلين ، ومن شاهد أعماله السابقة قد لا يخالفني في هذا ..

قبل الختام تقول الحكمة السينمائية (لكي تمنح فيلمك المتعة والحيوية إملأه بالتفاصيل واللحظات اللتي لا تنسى) ، وجزءٌ كبير من عشقي لهذا العمل يمكمن في تفاصيله ولحظاته التي تعيش في الذاكرة : نظرات نودلز التي (تتكلم) وهو يقطع تذكرته إلى بوفالو مع ناي موريكوني لأول مرة ، تلك الوقفة الصغيرة لمو قبل أن يفتح بابه لنودلز العجوز ، عيون نودلز المنهكة وهي تتأمل صور ديبرا أو تلك اللحظة التي يصعد فيها على المرحاض لينظر من ثقب ذكرياته ، من ينسى مشهد حلوى الشارلوت الروسية في الدرج ؟!! تلك اللحظة التي يختار فيها نودلز الجلوس أمام ديبرا (وليس إلى جوارها) في مشهد لاينسى ، تلك اللحظة المثيرة للشفقة عندما يعود دومينيك ببراءة الطفولة ليتأكد من غلق باب الخزانة ، وضع نودلز – كأي رجل عجوز – نظاراته في كل مرة يريد فيها أن يقرأ ، أو تلك اللحظة التي يعيد فيها فتح باب المقبرة لأنه لايستطيع القراءة في الإضاءة الخافتة ! جملة رئيس الشرطة اللذيذة (الصبي الأول بعد أربع بنات !) أو الأخرى اللذيذة للغاية (لكنه يشبه والدي .. الكبرياء ذاته !!) ، تلك الطرافة في مشهد تبديل الأطفال مترافقة مع أكثر المقطوعات الموسيقية طرافة في الفيلم ، لحظة التوتر التي تكتنف الرفاق وعيونهم تتأمل تحريك نودلز للسكر في فنجان قهوته ، وجه نودلز الذي (يتكلم ! يتكلم) عندما يصفعه ماكس على الشاطيء ، تلك اللحظة التي يرفع فيها نودلز سماعة الهاتف ليجري إتصاله المصيري ، مستوى السكون الذي يقترب فيه نودلز العجوز من لوحة ديبرا الممثلة ، أو تلك اللحظة التي يفضّل فيها نودلز – كأي رجل عجوز أيضاً – الجلوس أثناء حديثه مع ديبرا ! الكلوز آب على وجه ديبرا مع جملة (أنت رائعة !) ، ذلك الصمت لوهلة قبل أن تنطق ديبرا متوجسةً كلمة : Party ؟ ، اللحظة التي يتأمل فيها نودلز – وكل تساؤلات الكون في عينيه – ديفيد إبن الوزير بايلي ، اللحظة التي يمسح فيها نودلز حذائه على باب قصر الوزير بايلي ، الطريقة التي يأمر بها الوزير بايلي نودلز بالجلوس ، أو تلك التي يضع فيها مسدسه على الطاولة ، النظرة في عيني نودلز عندما يفتح الوزير بايلي الساعة أمامه ، من ينسى نظرة نودلز الأخيرة على المكان الذي كان يمكن في يوم من الأيام أن يكون له ؟! تفاصيل أعشقها وقد لا يهتم بها غيري ، لكن مذاقها إزداد حلاوةً مع كل مشاهدة وجعلت منه فيلماً أعشقه ، أعشقه بكل ما فيه.

ختاماً (حدث ذات مرة في أمريكا) واحد من أعظم أفلام العصابات. حرمنا منه منتجوه ، وحرموه أيضاً من الكثير من التقدير والثناء والتكريم الذي كان يستحقه في وقته. ربما من حسن الحظ أن Warner Brothers إكتشفت خطأها الفادح وتلافت الأمر بتقديمها الإصدار الكامل ذي الـ229 دقيقة بعد عام كامل على الفضيحة المدوية. يقول روجر إيبرت (أتحدى أي شخص أن يفهم نسخة 1984 !) ولا يبدو كلامه مبالغاً به ، فالناقدة شايلا بينسون مثلاً صنفته كـ(أسوأ فيلم في عام 1984) لكنها عادت بعد ستة أعوام لتعلنه (أفضل أفلام الثمانينيات). إدعاء من شاهده بأنه أدرك كل مكنوناته من المشاهدة الأولى هو نوع من الإختلاق ، وإدعاء من لم يشاهده أنه شاهد أعظم أفلام العصابات هو نوع من سوء التقدير. من الجيد أن سيرجيو ليوني شاهد عمله معروضاً في كانّ قبل أن يموت وهو الذي تجدد طموحه مرة أخرى ليدير روبرت دى نيرو عام 1989 في فيلم عن الحرب العالمية الثانية حمل إسم (لينينغراد) و أعلن أنه سيحطم بتكاليفه حاجز المائة مليون دولار لأول مرة (الأمر الذي تأخر عامين آخرين قبل أن يحققه جيمس كاميرون في Terminator 2: Judgment Day). لينينغراد لم يبصر النور لأن ذبحة قلبية داهمت ليوني قبل أيام من توقيعه العقد و أودت بحياته ، لكنه أصبح الآن مشروع مخرجٍ إيطالي آخر هو جيوزيبي تورناتوري وعد بتقديمه في 2006 ..

وبعد ثلاثة أعوام على رحيله عادت ذكرى المعلمين دون سيغل وسيرجيو ليوني للظهور عندما أهدى صديقهما المقرب وتلميذهما النجيب كلينت إيستوود رائعة الويسترن المتوجة بالأوسكار عام 1992 Unforgiven (إلى سيرجيو و دون).

هو فيلم مهم. فيلمٌ عن (الخيارات) التي ترسم مصائرنا. فيلمٌ عن (الحب) وما يجب أن نقدمه من أجله. فيلمٌ عن (الصداقة) و (الخيانة) والحاجز الذي لا يكاد يُرى بينهما. فيلمٌ عنا بكل مافينا من لحظات الإنتصار وساعات الخيبة ،من قسوة الماضي ورهبة المستقبل. فيلمٌ عن (الخلاص) الذي لا يأتي عندما نحتاجه ، عن (الجراح) التي تأبى مبارحة نفوسنا وتظل معنا إينما ذهبنا. فيلمٌ عظيم على قلة ما شاهدت من أفلام عظيمة ، وفيلمٌ مرهق على قلة ما عايشت من أفلام مرهقة. ببساطة أكثر (لا يجب على المرء أن يمضي به الدهر دون مشاهدته) كما يقول الناقد جون أولمر.


نشرت هذه المراجعة في منتديات سينماك بتاريخ 2-6-2006

هناك 8 تعليقات:

  1. مُدهِش ، قُلت لك من قبل أن هذه المراجعة صارت بالنسبة لي وكأنها جزءً من الفيلم ذاته ، محبتي لها جزءً من عشقي له ، ومنذ طرحها في 2006 حتى الآن قرأتها لمرات عديدة تتجاوز العشر ربما .. أحياناً لأعيد حنيني للعمل .. وأحياناً لأتعلم منها

    هل تعرف تلك الحالة التي تُصاب خلالها بهوس بفيلم معيّن ؟ تفكر فيه دوماً وتعيد مشاهد كثيرة منه ، تتذكر حواراته وتتأمل تفاصيله حضوراً وغياباً

    أنا - خلال الأسبوع الأخير - : in the mood of "once upon a time in america" ، للدرجة التي أضجرتُ فيها أصدقائي حديثاً عنع، أكاد لا أصدق - حتى مع المشاهدة السادسة وعشرات من مشاهدة المشاهد المتفرقة - أن هناك شيئاً بمثل هذه العظمة ، أحد أكثر ما رأت عيناي قرباً إلى الكمال

    ---

    أفكر أحياناً في الكتابة عن "ثلاثية الألوان" أو بالتحديد عن أحمر - أعظم وأقرب فيلم بالنسبة لي من كل ما جادت به السينما - ولكني أخاف دوماً من التوهة والتضاءل في ظلال الكمال التي تحيط الفيلم وأتوقف في النهاية ممتدحاً ومشدوهاً بالجمال دون أن أحاول الاقتراب منه وتحليله ، سعيد لأنك في هذه المقالة تحدثت عن الجمال الكامل مُحللاً دون أن تخدش عظمته .. سعيد لأنني أحظى بمقالة كهذه لفيلم من أعظم وأقرب الأفلام لقلبي

    أشكرك أشكرك أشكرك ، رغم أن الشكر كثيراً لا يُكفي

    ردحذف
  2. شكراً لك يا محمد ..

    لم أكن أعلم بأنك تعشق الفيلم إلى هذه الدرجة .. الهوس ..

    هل تصدق أن ثلاثية الالوان كانت مشروعاً لي نويت أن أنشره في ( بقعة ضوء ) , لكنني أجلته بعد ذلك ..

    أتمنى ان انجزه في يومٍ من الأيام ..

    أشكرك مجدداً , و لا تحرمنا من ردودك يا محمد ..

    ردحذف
  3. مراجعة رائعة لاسطورة فنية قتلها المنتجون ..فلم تلق التقدير على مستوى الجوائز والمحافل..لكن ستظل في ذاكرة عشاق السينما للأبد..

    ردحذف
  4. ألف شكر عزيزي فراس

    و آسف عالتأخير

    ردحذف
  5. الحلو بالموضوع انه المخرج اتخذ السباغيتي في مسيرته الطويله وفجأه يتحول لاعمال الجريمه وينتج تحفه فنيه سينمائيه رهيبه رغم انه من المفروض وك تجربه اولى ما يوصل لهذا النجاح ولكن لكل مجتهد نصيب ....

    ردحذف
  6. أين أجد النسخةالمطولة

    ردحذف
  7. بحث كبير يستحق الاهتمام والمراجعة لمن يهتم بجوهر السينما
    وخصوصا طلبة السينما
    ولو اني كنت اتمنى الاشارة للقطة حاوية النفايات في المشهد قبل الاخير

    ردحذف

free counters