كتب : عماد العذري
بطولة : كريستينا كوهوتوف
إخراج : يان شفانكماير
عندما قرر لويس كارول أن
يضع الخطوط الرئيسية لروايته الكلاسيكية الشهيرة Alice in Wonderland لم يكن يخطر بباله أن يصبح ذلك العمل في غرائبيته ، و مضمونه ، و رسالته
التهذيبية المهمة ، واحداً من أكثر الأعمال الأدبية جاذبيةً لدى صناع السينما ،
ذلك الإختراع الذي لم يبصر النور بعد ، لا أتذكر على وجه الدقة عدد الأعمال
السينمائية التي شاهدتها تقتبس ، أو تستلهم ، أو تتأثر برائعة لويس كارول
تلك ، لكنني أتذكر تماماً أن عمل يان شفانكماير هذا كان أكثرها غرابة بالنسبة لي .
لا تتذكر السينما
الروائية الطويلة شيئاً مهماً للمخرج التشيكي السيريالي يان شفانكماير قدر
تذكرها لهذا الفيلم ، فقد أفنى الجزء الأكبر من مسيرته السينمائية منذ بدأت في
الستينيات في صناعة الأفلام القصيرة التي حققت له صدىً مهماً و إحتراماً واسعاً
بين صنّاع هذه النوعية من الأعمال ، و مع أن الرجل أتبع Alice الذي كان
باكورة أعماله الطويلة أواخر الثمانينيات من القرن الماضي بعددٍ من الأعمال المهمة في التسعينيات ، إلا أن شفانكماير لم يحقق عملاً روائياً طويلاً بعد ذلك استطاع أن
يسرق بريق Alice من مسيرته السينمائية .
في هذا الفيلم يستلهم
الرجل – كما يخبرنا في مقدمة فيلمه – العمل الأدبي الكلاسيكي للأديب البريطاني لويس كارول عن
الفتاة غير المروّضة أليس التي تنزلق ذات يومٍ في جحر الأرنب الأبيض لتجد نفسها
هناك ، في بلاد العجائب ، حيث الرحلة التهذيبية التي ستغير حياتها للأبد
، و عندما يقول لنا الرجل في بدايات فيلمه بأنه (يستلهم) فهو يعي
تماماً ما يقوله ، أنت لا تجد هنا اقتباساً حقيقياً للعمل الأدبي ، لا من مفهومه
السردي ، و لا من منظوره الفلسفي أيضاً ، الفيلم ينأى بنفسه بعيداً عن كل هذا
ليقدّم صورةً سيرياليةً مختلفةً لرحلةٍ خاصة قامت بها أليس (تؤديها كريستينا كوهوتوف
في الظهور البشري الوحيد في الفيلم) في مجاهل مخيلتها ، لا وجود حقيقي لأرض
العجائب في الفيلم ، أرض العجائب التي تحدث عنها لويس كارول في عمله
الادبي يجسّدها شفانكماير في مخيلة هذه الطفلة و يرسلنا إلى هناك في هذه
الرحلة الموحشة ، و الغريبة ، و الرتيبة أيضاً .
أليس فتاةٌ بائسة ، تقضي
معظم أوقاتها لوحدها في غرفتها التي تمتلئ بكل شيء ، الدمى والألعاب و وسائل
الترفيه التي تناسب عمرها ، تنام أليس ذات يوم ، لتجد نفسها تطارد الأرنب الأبيض في
رحلةٍ ضمن أرض العجائب التي ابتدعتها مخيلتها ، رحلةٌ موحشةٌ و غريبةُ و
فريدةُ من نوعها في الأجزاء الأكثر ظلاماً و وحشةً من عقل الطفل الذي يمثل الشخصية
الحقيقية الوحيدة فيه ، يبدو النص قائماً على تقديم شخصيةٍ حقيقيةٍ وحيدةٍ هي أليس ، لخلق
تجسيدٍ ملموسٍ لحجم الوحدة ، و العزلة ، و الوحشة الذي يعيشها الطفل ضمن عالمه
الخاص ، تشعر بأن أليس تعيش في غرفتها تلك ضمن كوكبٍ فريدٍ في مجرةٍ بعيدةٍ عن
أي تواصلٍ بشريٍ آخر ، يصر النص على جعل أليس كل شيءٍ في الفيلم ، حتى بقية الأدوار التي نشاهدها ضمن
العالم الخاص الذي تبتدعه مخيلة الطفلة تقوم أليس ذاتها بتجسيدها
صوتياً ، ربما يمكننا أن نقول بطريقةٍ أخرى أن أليس تبتدع فيلمها
الخاص – كما تخبرنا في مقدمة العمل بأننا سنشاهد (فيلماً) - هي تكتب و
تحرر و تخرج لنا ما سنشاهده ، تبدو حبكة الفيلم أقرب إلى طفلةٍ صغيرةٍ تشبعت
بقراءة رائعة لويس كارول الأدبية الشهيرة دون أن تفهم مغزاها و بعدها
التهذيبي ، و سمحت لخيالها ذات يوم بتصويرها و هي تخوض تلك المغامرة مع شركائها
في حجرتها ، و لأنها الرأس الكبيرة في كل ما يجري ، و مديرة الحدث ، و مخرجة
الفيلم ، لا تبدو أليس مستاءةً إطلاقاً مما يجري ، و على الرغم من أن هذا العمل
يبدو أكثر وحشةً و قسوةً من العمل الأدبي ، إلا أن أليس هنا تبدو أقل
إنزعاجاً بكثير من أليس الحقيقية ، تبدو و كأنما هي المتحكمة في كل ما يجري ،
فتعيد صياغة الحدث بالطريقة التي تحب ، و تختار من الشخصيات ما تحب و تتخلص مما لا
يناسبها في الرواية ، الكثير من شخصيات العمل الأدبي غير موجودةٍ هنا ، بينما
تستمتع أليس بالجلوس طويلاً لدى شخصياتٍ أخرى – نفترض أنها أمتعتها في
الرواية – مثل اليرقة أو ماد هاتر ، أليس المنعزلة و الوحيدة تصنع عالمها الخاص من الأشياء التي
تحبها بالطريقة التي تحبها ، هي لا تنزلق في جحر الأرنب و إنما
تدخل في درج مكتبها الصغير ، هي لا تتناول الشراب السحري لتقلّص من حجمها و إنما
تشرب قارورة الحبر ، و عندما تتمرد قرب الختام في مشهد المحاكمة – على خلاف ما
يحدث في الرواية – تبدو أليس و كأنما تعيد صياغة الحدث بالطريقة التي ترغب ، تجري
التعديل الذي يروقها في الرواية بما يتناسب مع فهمها البسيط و القاصر لأبعادها
التهذيبية ، و لأن الفيلم يستلهم فعلاً و لا يقتبس فإن النص يبقيه محصوراً فعلاً
في خيال الطفلة و يرسم فيه صورةً لبلاد العجائب وفقاً لذلك ، و بعيداً عن الحكم و المواعظ و
الأبعاد التهذيبية التي تفوق عمرها العقلي .
ربما تبدو فكرة إعادة
تقديمٍ واحدةٍ من أكثر الكلاسيكيات الأدبية الخيالية (غرائبية) من قبل مخرجٍ (سيريالي) فكرةً مثيرةً فعلاً ، لطالما كان الجزء الأهم في قيمة أليس كعملٍ أدبي
تهذيبي يكمن في فانتازيتها الأقرب إلى قصص الأميرات و الساحرات و المطعمة بالكثير
من الشخصيات الغريبة و الأحداث الأكثر غرابة ، تفاصيل لطالما خففت كثيراً من قسوة
العبر و المواعظ التي يفترض أن تلقيها على القارئ ، هذا الركن الفانتازي (الأهم في
بناء العمل الأدبي) تتم سرقته هنا ، شفانكماير يعمل كثيراً - من خلال تقديم المجسمات ، و الدمى ، و
الإنتقال من لوحةٍ سرياليةٍ إلى أخرى ، و مزاوجة الـ Live-Action مع الـ Stop-Motion ، و توظيف لقطات الـ Close-up - على إخراج الرواية من
عالمها الحالم ، يجرّد القصة تماماً من بعدها الفانتازي فينتج فيلماً كئيباً ، محزناً
، موحشاً بحق ، رتيباً أحياناً ، لكنه مميزٌ و ملفتٌ في كثيرٍ من الأحيان ، يان شفانكماير
يطعّم رحلتنا مع أليس بالكثير من الروتين و التكرار و الغرائبية جعلتها أقرب
إلى الجحيم ، و لا يكتفي بذلك على مستوى الحبكة بل يذهب بعيداً في ذلك في تجسيده
البصري أيضاً ، شخصياته تبدو اقرب إلى لوحة طفل ، أو رسومات طفل ، العوالم
الفانتازية الساحرة التي لطالما ابهرتنا في العمل الأدبي لا تعدو كونها طيناً ، و
مجموعة دمى ، و نشارة خشب في هذا العمل ، نفس الرجل السريالي يبدو طاغياً كتابةً و
إخراجاً ، سواءاً في تركيب الصور و تتاليها ، أو في الرواية و السرد الذي يقدمها
مستلهما خيال هذه الطفلة ، و الذي تطوّعه بصرية شفانكماير بذات
الطريقة ، بصرية الفيلم ليست مبهجةً إطلاقاً ، بل تزيد من قسوة وحشته و صمته ،
يبدو الرجل مصراً على خلق حاجزٍ واضحٍ بيننا و بينه ليجسد الفارق بين الصورة التي
نرى عليها الأمور ، و الصورة التي يراها خيال الطفل ، و مع أن هذا الفيلم يلامس في
الأساس المحاولة الأبسط و الأكثر تجريدية لتجسيد الحلم سينمائياً من خلال الإبحار
في خيال الطفل ، إلا أنها ليس فيلماً للطفل إطلاقاً ، أمرٌ يبدو اقرب إلى رحلةٍ
غرائبية في خيال الطفل من المنظور الذي يفترض الإنسان البالغ أنه يبدو عليه ، و من
هذا المنظور لا يبدو الفيلم بأنه ينجح على الصورة التي يريد ، فعلى الرغم من أنه
يذهب في غرائبيته أبعد حتى من غرائبية بلاد العجائب التي صورها لويس كارول كمحاولةٍ منه لتجسيد مقدار الخصوبة و التنوع الذي
يمكن أن تمتلكه مخيلة الطفل ، إلا أن يان شفانكماير يتباطأ أحياناً على المشهد بصورةٍ تفقده قيمته ،
و يصر على ذلك في أكثر من مناسبة ، بطريقةٍ لا تجسد و لا تتناسب مطلقاً مع صورة
الحلم التي يقدمها ، و الذي يأتي غالباً سريعاً ، و خاطفاً ، و غير واضح ، و مبهم
التفاصيل ، تبدو سريالية الرجل طاغيةً في هذا الخصوص إلى الدرجة التي أدت المبالغة
فيها – في فيلمٍ لا تتجاوز مدته 85 دقيقة – إلى نوعٍ من الروتين و الرتابة غير
المبررين ، و اللتين جعلتا من العمل بالرغم من قيمته و أهميته و فرادته ، عملاً
غير مريحٍ إطلاقاً في مراقبته ، أو حتى في حال فكّر المرء في إعادة مشاهدته .
بالنتيجة يبدو هذا
الفيلم عملاً استثنائياً و مميزاً بحق ، تجربةٌ فريدةٌ في سبر أغوار الطفولة ، و
تجسيد خيالات الصغار ، أولئك الذين يحيطون بنا كل يوم ، نلاعبهم ، و نحملهم ، و
نشتري لهم الحلويات ، و نذهب بهم إلى مدينة الألعاب ، إلى أي مدى يمكن ان نتخيّل
أن خيالاتهم و تصوراتهم موحشة و كئيبة بالرغم من بساطتها ؟! ، إلى أي مدى يمكن أن نتخيل
المجاهل التي تقودهم إليها أحلامهم التي تستلهم تلك الأمور البسيطة الروتينية التي
تجري من حولهم كل يوم ؟! ، و إلى أي مدى يمكن أن نتخيّل أنهم سينمائيون في داخلهم ، أكثر بكثير مما قد يظهرونه لنا ؟!
التقييم من 10 : 8.5
0 تعليقات:
إرسال تعليق