•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

السبت، 6 أكتوبر 2012

Prometheus

كتب : عماد العذري

بطولة : نومي راباس ، مايكل فاسبندر ، تشارليز ثيرون ، غاي بيرس
إخراج : ريدلي سكوت

أن تنتظر فيلم خيالٍ علمي أمر ، و أن تنتظر فيلم خيالٍ علميٍ من مخرج مرموق و طاقمٍ مهم أمرٌ آخر ، و أن تنتظر فيلم خيالٍ علمي من البريطاني ريدلي سكوت هو أمرٌ مختلفٌ تماماً عن كل ما سبق. ليس فقط لأنها غزوة الرجل الثالثة في الصنف ، و الأولى له منذ ثلاثة عقودٍ كاملة حقق خلالها نجاحاتٍ مهمة في أفلام Black Rain و Thelma & Louise و  Gladiator و Black Hawk Down و American Gangster و غيرها ، بل لأن فيلمي الرجل الوحيدين في الصنف لطالما وضعا ضمن الأعظم في عالم الخيال العملي عبر العصور. و عودة الرجل هنا لا تعني أن تنتظر عملاً مهماً فحسب ، بل تعني أن تتوقع كلاسيكية سينمائيةً حقيقيةً ضمن الأعظم سبقاً و تأثيراً في دنيا الخيال العلمي. أمرٌ ربما لم تشهده هوليوود بصورته الحقيقية في هذا الصنف منذ The Matrix عام 1999 .

عام 1979  حقق المخرج البريطاني الشاب ريدلي سكوت فيلمه الذي كان – ولا يزال – التحفة الأعظم في رعب الخيال العلمي على الإطلاق Alien. سبر فيه مجاهل النفس البشرية ليتحرى - من خلال حبكةٍ عن طاقم سفينةٍ فضائيةٍ يواجهون مخلوقاتٍ غريبة – مجموعةً من أهم عقدها بدءاً من الرغبة تجاه المجهول ثم الخوف منه ثم الرغبة بالخلاص و الانعتاق ، مع الكثير من جنون الارتياب و رهاب الأماكن المغلقة. كان عملاً عظيماً و استثنائياً بطريقةٍ احدثت نقلةً مهمةً في مثل هذه النوعية من الأعمال التي لم يعتد صنف الخيال العلمي طرقها كثيراً. بعد ذلك بثلاثة أعوام أثبت ريدلي سكوت أن ما حدث لم يكن مجرد ضربة حظ. فيلم Blade Runner الذي حققه عام 1982 اعتبر واحداً من أعظم اعمال الخيال العملي على الاطلاق و أكثرها فرادةً و تجاوزاً لمقاييس الزمان بطريقة جعلته براقاً و مهماً و اصيلاً حتى بعد ثلاثة عقودٍ على اطلاقه. وبالرغم من أن ديمومة جزئية (الخيال) في هذا الصنف تحديداً هي الأكثر عرضةً للخفوت مع مرور السنوات ، الا أن Blade Runner استطاع ان يحتفظ لنفسه بمكانةٍ فريدةٍ في دنيا هذا الصنف - على الأقل في السينما الأمريكية - يكاد لا يجاريه فيها سوى تحفة ستانلي كيوبريك العظيمة 2001 : A Space Odyssey . و عندما يغيب مخرج هذين الفيلمين تحديداً لثلاثة عقودٍ عن هذا الصنف ثم يعود إليه – و لأول مرة مع والتر هيل و ديفيد غيلر منتجي Blade Runner - في ثاني عقود الألفية عقب الثورة الجبارة التي أحدثها Avatar في عالم المزج بين مؤثرات الـ CGI و تقنيات الـ Live-Action ، يبدو الأمر باعثاً على التفاؤل بطريقةٍ  لا يمكن اختزالها في كلمات. لكن Prometheus – الفيلم السينمائي العشرون في مسيرة البريطاني السبعيني – كان بعيداً تماماً عن تحقيق ذلك المجد المرتقب .

القصة تتمحور حول عالمي الآثار إليزابيث شو و تشارلي هولواي اللذان يعثران ذات يومٍ اثناء حملتهما التنقيبية في جزيرة سكايي الاسكتلندية عام 2089 على منحوتة تصور مخلوقات غير أرضية تشير إلى كوكبةٍ في السماء. أمرٌ كان ليكون عابراً لو لم يتطابق مع منحوتات مماثلة تم العثور عليها في أماكن أخرى من العالم. لاحقاً ننتقل إلى ليلة الكريسماس من عام 2094 على متن مركبة الفضاء العملاقة بروميثوس حيث يستيقظ أفرادها جميعاً من حالة السبات التي وضعوا فيها على مدى عامين هي مدة رحلتهم الفضائية ليلتقوا بمديرة الرحلة ميريديث فيكرز و بالروبوت بشري الهيئة ديفيد الذي أدار رحلة السفينة في مرحلة السبات. ميريديث و ديفيد يقدمان لطاقم الرحلة الهدف الذي سعى وراءه العالمان شو و هولواي و موّله الملياردير بيتر ويلاند : الإتصال بالأسلاف العظام اللذين قدموا إلى كوكبنا ذات يوم ، المهندسون العباقرة الذين بدأوا رحلة الخلق في جنسنا البشري !

لا أبالغ اذا ما قلت بأنني لم اشاهد فيلم خيالٍ علمي استطاع أن ينحرف بقيمته الفنية - بعد نصف ساعةٍ فقط من العرض - من البوادر الواضحة لعملية صناعةٍ كلاسيكيةٍ سينمائيةٍ مهمةٍ في هذا الصنف إلى مجرد فيلمٍ يتخبّط في حبكته الضائعة و تفرعاتها عديمة الجدوى التي حاول مخرجه جاهداً القفز عليها من خلال اعادة بعث المفاتيح العظيمة التي جعلت Alien شيئاً فريداً قبل ثلث قرن. يبدأ النص بقوة ، يعود للأرض البكر ليصل بنا إلى أحد المهندسين الذين سنطاردهم لاحقاً. نراه هناك يفني نفسه كي ينثر الـ DNA الخاص به ضمن بيئة هذا الكوكب ، عملية يُفترض وفقاً للنص طبعاً أنها تكررت أكثر من مرة لينتج عنها في الختام الجنس البشري. يبدو ريدلي سكوت عظيماً في النصف ساعة الأولى من الفيلم مخدوماً بالطبع بنصٍ جيد كتبه جون سبيتز و ديمن ليندلوف رسم بقوة ملامح شيءٍ من أفضل ما قدمه الصنف خلال عقدٍ على الأقل. لمسة الغموض التي ينثرانها سبيتز وليندلوف بين السطور ، و الأجواء الخاصة التي يضعان حبكتهما فيها بدءاً من افتتاحية المهندس وصولاً بالإثارة التي يولدانها من خلال هدف الرحلة مروراً طبعاً بلحظات صامتةٍ رائعة للروبوت ديفيد يعيش عامين كاملين وحيداً في السفينة ، إلى الأسئلة الوجودية التي يطرحانها ، حتى وإن كانت تستلهم الكثير من روح أسئلة Blade Runner على لسان الملياردير بيتر ويلاند. هذا لا يهم طالما أنهما استطاعا أن يجذبا اهتمام المشاهد وهما يؤسسان لهذه القصة التي تحاول الإجابة عن تلك الأسئلة .

و مع أن ريدلي سكوت يصر على ابقاء فيلمه منعتقاً من عظمة Alien على المستوى البصري على الاقل. إلا أن تفاصيل النص - مع تقدم الحدث - تعجز عن منحه مساحةً حقيقيةً لذلك، خصوصاً مع حقيقة أن هذا الفيلم يعرض مرحلةً زمنيةً سابقةً لتلك التي شاهدناها في Alien. محاولات ريدلي سكوت التحرر بصرياً من فيلمه العظيم تنجح فقط في النصف ساعة الأولى التي يبدو الفيلم قريباً فيها من بصرية Avatar أكثر من ارتباطه بـ Alien. يطرح النص في ربعه الأول أسئلةً مغرقةً في الوجودية (مستلهماً روح Blade Runner) ، لكنه ينجرف أكثر فأكثر في محاولةً لتعميق المشترك مع Alien فيخلق على مدى ساعةٍ ونصف متوالياتٍ متكررةً من التقليدية التي عفى عليها الزمن. تتسطّح الشخصيات اكثر فأكثر إلى الدرجة التي يصبح معها غموض ميريديث فيكرز في النصف ساعة الأولى مجرد غموضٍ أجوفٍ لا مغزى له. تسقط دوافع الارتباط الحقيقية بين ديفيد و بيتر ويلاند (المستلهمة بشكلٍ صارخ من روح شركة تايريل في Blade Runner) بتأثير العشوائية الواضحة في افكار بيتر ويلاند (الذي لم يكن بحاجةٍ واضحةٍ ليفعل ما فعل طالما أنه الرأس الكبيرة في كل ما يجري) بالإضافة لغموض الدوافع غير المفسّر لدى ديفيد و الذي فشل سكوت في استثمارها لصنع مقاربةٍ حقيقيٍة لروح الـ Replicants في Blade Runner عن جدوى صناعة البشر له الأمر الذي خلق فجوة بين رغبة ديفيد في تفسير ذلك و رغبته في تدمير صانعه (ممثلاً بالبشر ، طاقم الرحلة كله). يفقد ايقاع الفيلم الداخلي انسيابيته بين هذه الأسئلة الوجودية المهمة التي نستشفها من غموض ديفيد و نبرة صوته و محاولة النص إيجاد إجاباتٍ حقيقيةٍ لها من منطلق كونها سنداً درامياً مهماً لرحلة الإنسان نفسه (ممثلاً بشو و هولواي و ويلاند) في سبيل معرفة غاية الخلق و الهدف الذي وجدوا من أجله. كل ذلك العمق ضاع في زحام الكليشيهات الصارخة و المنافذ الجديدة التي تُفتحُ في المغامرة بتواترٍ غير منطقي متناسياً اتاحة المساحة الكافية للمتلقي للتعاطي مع تلك الأسئلة التي سخّر نفسه أساساً لتحريها. ربما حاول ريدلي سكوت جاهداً ألا يجعل تلك الكليشيهات تطفو على السطح لكنه نجح فقط في مواضع معينة و فشل في كثيرٍ أخرى .

علاوةً على ذلك يترنح سكوت محاولاً ملامسة مكمن العظمة الحقيقي في أفلام الخيال العلمي. لطالما استفزت أفلام الخيال العلمي العظيمة في مشاهديها (خيالهم). تركت فاصلاً واضحاً بين ما يشاهدوه و ما يشعرون به ، فوسّعت بالتالي من البعد القصصي و منحته فضاءاً أرحب و منحت المشاهد ذاته فهماً أعمق لمضمون ما تقدّم على اعتبار أن (الخيال) هو العنصر الأهم في هذه النوعية من الأعمال ، على العكس تماماً من الساعة و النصف التي يقضيها المشاهد هنا ابتداءاً من لحظة الهبوط على سطح الكوكب ، حيث يضيق الخيال بشكلٍ يتناسب مع ضيق المكان الذي يستكشفه الطاقم ، و توجّه الأحداث ، و تزداد الشخصيات هشاشةً – و كرتونيةً ان جاز التعبير – و يفشل النص تماماً في تقديم استفزازٍ جديٍ لـ(خيال) المشاهد إلى الدرجة التي تجعل أي شخصٍ من عشاق سلسلة Alien قادراً على التنبؤ بسهولة بالطريقة التي ستجري عليها الأمور. يسقط الفيلم في نصفه الثاني في تقليديته – بإستثناء أفضل مشاهد الفيلم ربما عندما تجري شو عملية إجهاض – و يبقى على مشاهده فقط تأمل المزيج – غير الخلاق – الذي يصنعه من Alien و The Thing و The Fly في مشاهد الذروة ، تاركاً الأسئلة الوجودية المهمة التي حاول سبرها واستنطاقها بسذاجةٍ وسطحية عالقةً دون مساحةٍ حقيقيةٍ لإكتمالٍ أو اجابة .

ربما بدى ريدلي سكوت موفقاً إلى حدٍ بعيد في اختيار مايكل فاسبندر في الدور التقليدي لروبوت السفينة الذي يقدّم هنا كمزيجٍ من ذكاء HAL 9000 في 2001 و رغبات روي باتي في Blade Runner . فاسبندر نجح في مهمته بما يتناسب طبعاً و ركاكة النص على مستوى بناء الشخصيات بطريقةٍ لا ابالغ اذا قلت بأنه يتفوق فيها على آش في Alien و بيشوب في Aliens. بطريقةٍ مماثلة تجتهد السويدية نومي راباس في دور إليزابيث شو لتصنع شخصيةً ثلاثية الأبعاد بين كومةٍ من الشخصيات الثنائية الأبعاد حولها. بينما تبدو شخصية ميريديث فيكرز فائضةً على العمل بالرغم من وجود تشارليز ثيرون ، ولا تختلف عنها بقية شخصيات الفيلم و أداءاته في شيء .

و مع أن أحداث الفيلم تنتهي من حيث يمكن أن يبدأ Alien بعد ذلك ، الأمر الذي يجعل احتمال اتباعه بجزءٍ ثانٍ وارداً و منفياً في آن ، إلا أنني كنتُ آمل أن أرى ريدلي سكوت يستثمر نصاً اقوى و أعمق في قصةٍ كهذه. النفس الإخراجي العالي للرجل ، و نغمة الإثارة التي يصنعها في الفيلم ، و الإخراج الفني البديع الذي قدمه للعمل ، و التصوير الممتاز الذي شاهدناه فيه ، و تخفيفه قدر الإمكان من الـ CGI في ميزان الـ CGI/Live-Action لصالح تقديم مؤثرات بصريةٍ حقيقيةٍ وليست مولّدة حاسوبياً ، كل تلك الحسنات صبّت في خانة صناعة فيلم خيالٍ علميٍ براق بالفعل في نصف الساعة التي استهل بها ، لكن فجوات النص و عقم خياله و شخصياته المسطحة التي لم يستطع ريدلي سكوت ترميمها في ساعةٍ ونصف لاحقة سرقت متعة الإنتظار و الترقب و خلقت بالنتيجة فيلم خيالٍ علميٍ متوسط في جودته و أثره و أهميته ، خلَق الأسئلة ، و خنَق الإجابات .

التقييم من 10 : 7

    

0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters