كتب : عماد العذري
بطولة : يورغن بوركناو ، كلاوس
فينيمان ، مارتن زاملروغ
إخراج : فولفغانغ بيترسن
شخصياً أقدر كثيراً
الأفلام التي استطاعت أن تحفر لها مكاناً خاصاً ضمن نوعيةٍ محددةٍ و خاصة من
الأعمال السينمائية ، كأفلام التجسس ، أو أفلام الطريق ، أو أفلام المكان الواحد و غيرها ، من تلك النوعيات الخاصة التي
يفضل الكثيرون مشاهدة أفلامها ما اصطلح على تسميته ضمنياً بأفلام الغواصات
، حيث الثيم العام المتعلق بالأماكن المغلقة و الإثارة الحربية و الصراعات النفسية
و رهبة العزلة و خطر الموت بين لحظةٍ و أخرى ، صنفٌ قدم للعالم أفلاماً مهمة مثل Run
Silent Run Deep و The Hunt of Red October و Crimson Tide و K-19: The Widowmaker و غيرها ، بينها جميعاً
فرض Das Boot نفسه الأعظم قاطبة حتى صار ذلك أشبه بجزءٍ من قيمته ذاتها .
فولفغانغ بيترسن حقق في هذا الفيلم
الذي أخرجه مطلع الثمانينيات المنجز السينمائي الألماني الأكثر كلفة لسنواتٍ تلته
، لكنه حقق أيضاً واحداً من أعظم المنجزات في تاريخ السينما الألمانية ، ثلاث
ساعاتٍ و نصف استطاعت أن تكسر المستحيل و تولّد اثارةً و تعاطفاً حقيقياً غير متوقع مع شخصياتٍ تمثل الجانب
النازي من الحرب ، هذا التفصيل حقق للفيلم دوياً و استقبالاً مهماً لدى
جمهور السينما خارج بلده الأم قادت الفيلم لاحقاً ليحصد ست ترشيحاتٍ لجوائز
الأوسكار هو الرقم الأعلى الذي يناله فيلمٌ أجنبي في تاريخ الأكاديمية في حينها .
في العمق يحكي العمل
قصةً بسيطة الحبكة عن روايةٍ للمصور الألماني لوثر غونتر بوخهايم
يتناول فيها الليوتنانت هينريش ليمان فيلنبروك القائد المقدام لإحدى غواصات اليو ،
مفخرة الأسطول البحري لألمانيا النازية ، و المهمة الدورية التي كلف بها مع فريقه
في تمشيط المحيط الأطلسي ثم التوجه لاحقاً الى البحر الأبيض المتوسط عبر مضيق جبل
طارق ، و التناوب الذي عاشه مع فريقه على مدى أشهر بين أن يكون الصياد حيناً ، و
الفريسة أحيانا .
من وجهة نظري الشخصية
أجد من الصعب أن يمد نصٌ ما حبكةً صغيرةً جداً عن مجموعةٍ من البحارة في غواصة
لتصبح عرضاً من ثلاث ساعاتٍ و نصف و يحقق من خلال ذلك شيئاً ذو قيمة ، تحولات هذا
النص معدودةٌ جداً و مكرورةٌ في غالبها ، هي تراقب في جل وقتها انعكاس ما يجري
خارج الغواصة (و هو الجزء غير المرئي من الحكاية) على نفسيات و أحوال طاقم الغواصة
، و الملفت أن ذلك الإنعكاس لا يحتمل الكثير من التحولات الدرامية أو التغيرات
النفسية ، مع ذلك ينجح النص في جعل ذلك الحيز المحدود شيئاً عظيماً بالفعل ، فيقدم
تلك التحولات و الإنعكاسات المكرورة كل مرةٍ بطريقةٍ مختلفةٍ و مثيرةٍ و باعثةٍ
على الترقب ، هذا عظيم و لا يمكن نكرانه و يحقق برأيي واحداً من أعظم أفلام الحروب
و أكثرها تميزاً و أصالةً على الاطلاق ، الفيلم – و بإمتياز – لا يكتفي بأن يقول
الكثير عن الحرب ، هو يتجنب التأمل ، و الذكرى ، و حالات الإدراك الوجداني التي
نجدها في أفلام الحروب عادةً ، هو يضع ذلك جانباً و يستخدم الأسلوب الأكثر فعاليةً
كفيلمٍ من افلام الـ Anti-War فيجعلك تعيش الحدث بدلاً
من تأمله ، و قدرته على هذا الصعيد يكاد لا يضاهيها برأيي فيلمٌ آخر في تاريخ
الأفلام الحربية سوى تحفة ستيفن سبيلبيرغ Saving Private Ryan ، في جميع أفلام الحروب -
بما في ذلك تلك العظيمة جداً منها – نتأمل ، و نراقب ، و ندرك ، و نشكل صورةُ
حقيقةً لما يجري و قد نشرك أحياناً في تشكيل احساس المقاتل ، نادراً جداً ما نتخلى
عن ذلك من أجل أن نعيش التجربة بحذافيرها و نصبح جزءاً منها ، في سائر
الأفلام الحربية العظيمة لا نستطيع أبداً مراوغة حس الإثارة الواضح الذي يغرينا بمتابعة الحدث و
الإنتقال معه من مرحلةٍ الى أخرى ، و هذا التفصيل مهما بلغت جودة تقديمه يقف معترضاً جوهر
أفلام الحروب كأفلام Anti-War قبل كل شيء ، أن يثيرك شيءٌ يُفترض بك أن تنبذه ، من النادر أن يسحبك فيلمٌ
من نكهة الإثارة المعتادة ليجعلك تعيش الجو الخانق و الممل و الضغط الهائل لأن
تكون في معركة الى الدرجة التي لا تصدق متى تنتهي دوامة الأحداث تلك ، تماماً
كشعور المقاتل في تلك المعركة ، فقط فيلما بيترسن و سبيلبيرغ هما من جعلاني أنسل من الرغبة التأملية الإعتيادية
عند مشاهدتي لفيلمٍ حربي ، الى رغبة الانعتاق مما يجري ، ايصال المشاهد الى هذا
الشعور في فيلم Anti-War يستحق الإشادة بمفرده ، و في هذا الفيلم نعيش ذلك الإحساس لأننا نصبح جزءاً مما يجري
عوضاً عن الإكتفاء بالتأمل ، نعيش الجو الخانق للغواصة و حالة النشوة ضمن
طاقمها ، ثم نبدأ تدريجياً ندرك بُعدنا عن كل شيء و انقطاعنا الكامل عن العالم ، و
ندرك شيئاً فشيئاً أن اتصالنا بكل ما يجري أصبح تلك الأصوات المبهمة التي يلتقطها السونار ،
يصبح لإشعال الضوء الأزرق في الغواصة معنى ، و لإشعال الضوء الأحمر معنى ، و تصبح
لحظات الصعود للسطح مبهجةً بقدر ما هي مقلقةٌ أيضاً ، و سرعان ما يصبح ترقبنا
للأصوات العميقة للمراكب التي تعلو الغواصة أو صوت صرير جسم الغواصة عند زيادة حجم
الضغط ، كل تلك التفاصيل تصبح جزءاً نعيشه بالفعل على مدى الساعات الثلاث ، يصبح
لها معنىً لدينا كما هي لأفراد الطاقم ، لذلك هو لا يهتم بمن فاز أو خسر هذه الحرب
، و إنما بكم بقي من روح أولئك الأفراد اللذين عاشوا تلك التجربة ، هذا
التفصيل لا يمكن انكاره و هو الركن الأساس برأيي في عظمة هذا العمل و خلوده .
بالإضافة الى ذلك لا
يتماهى الفيلم مع الكليشيهات التي من المحتمل أن تصنع حبكاتٍ ثانويةً يمكن أن تغذي
حبكته الرئيسية البسيطة ، يتجلى ذلك على محورين ، المحور الأول من خلال التفاصيل التقليدية
التي اعتدنا مشاهدتها مع شخصياتٍ تعيش وطأة المعركة ، سنشاهد شاباً ينتظر
ارسال رسالةٍ الى صديقته الفرنسية الحبلى ، لكن تلك الرسالة لا ترسل و لا يهتم
النص بمعرفة ما جرى بعد ذلك ، هو يبتر الحكاية لكيلا يضيف شعوراً استبكائياً استنزفته
الكثير من الأفلام الحربية الأخرى ، و نرى أيضاً المهندس الرئيسي للغواصة ينتظر
الإذن للذهاب و البقاء بجوار زوجته المريضة لكننا نكتفي بمشاهدة قرار الموافقة و
هو يسقط ثم لا نعرف ما جرى بهذا الخصوص ، النص لا يذهب بنا أبعد من الغواصة ، يقول
أن لكل فردٍ هنا مشكلته الخاصة في الخارج ، لكنها ليست مهمةً بالنسبة لنا ، هم
الآن داخل الغواصة ، و كل شيء خارجها لا يهم في الوقت الراهن ، و المحور الثاني هو
التكثيف الذي يمارسه النص في تقديم مباديء قائد الغواصة مطلع الفيلم
و التي تعطينا صورةً مختلفةً عن الصورة التقليدية لرجلٍ يعمل لصالح النازيين ، هذا
التكثيف يسهم في جعلنا نقع رهن التشويش عندما نراه يتخلى – كقائدٍ عسكري – عن أولئك
البحارة الخصوم اللذين قضوا غرقاً أمام ناظريه بعد اشتعال مركبهم ، هو يجرد شخصية
القائد الحربي من أسطورتها المعتادة في الأفلام الحربية ، فنراه هنا يخطيء المرة
تلو الأخرى و ندرك خطأه بمجرد حدوثه ، لكن عمله يستمر لأن الحرب لا تسمح لأحد
بمراجعة حساباته أو تعديلها ، النص دائماً يسير مع الكليشيهات لكنه لا
يتماهي في ذلك ، لا من خلال شخصية القائد و لا من خلال أفراد طاقمه ، يرينا بصورةٍ
مجردة بأن هذه هي قسوة الحرب دون أن يستنزف الكثير من الكلمات لقول ذلك .
كل هذه العظمة النادر
تحقيقها في فيلمٍ من هذا النوع تتحقق بفضل فولفغانغ بيترسن الذي لا أدري في أي مزاجٍ كان عندما أقدم على
اخراج فيلمه هذا ، خصوصاً و أنه فقد ذلك المزاج على مدى العقود الثلاثة التالية
فلم يحقق ما يمكن أن يرتقي حتى لملامسة المجد الذي وصله هنا ، أعظم ما في عمله هو
ذلك الهارموني الذي لا يخطئه المشاهد بين العمل التصويري العظيم ليوست فاكانو
و المونتاج الحيوي لهانز نيكل اللذين حملا على عاتقهما جعل هذه الحبكة المكرورة
في هذا المكان الضيق و على مدى ثلاث ساعاتٍ و نصف شيئاً مهماً و مؤثراً و يضرب في
عمق قيمته كفيلم Anti-War ، فاكانو يخنق الصورة و يعمل بإنسيابية تستحق الثناء على خلق
وحدةٍ مكانيةٍ للحدث ، نراه ينسل بسلاسة ضمن فتحات الغواصة و في الممرات و عبر
السلالم و في غرف النوم و بين المولدات ليخلق رهبةً غير مبالغٍ بها تجاه الغواصة
كمكانٍ ضيق ، هذا الضيق نشعر به دون أن ننفر منه و هذا أهم ما في الأمر ، و مع كل
حالة استنفار في الغواصة تلتقطها كاميرا فاكانو و مونتاج نيكل الحيوي نشعر أكثر فأكثر بأننا متورطون بما يجري و بأن
علينا أن ننتهي من ذلك سريعاً كما هي رغبة كل فردٍ هناك .
عندما أستذكر بيضة الديك
السينمائية لا أجد أفضل من هذا الفيلم العظيم الذي حققه بيترسن و لم
يستطع أن يرتقي إليه مجدداً ، قليلةٌ جداً تلك الأفلام الحربية التي شعرت معها
بشعوري أثناء مشاهدة هذه الكلاسيكية ، Das Boot ليس مجرد واحدٍ من أعظم أفلام الحروب التي قدمتها الشاشة الكبيرة ، بل
هو واحداً من أكثر تميزاً و اختلافاً و اصالة .
التقييم من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق