كتب : عماد العذري
بطولة : كيفن مكارثي ، دانا وينتر
إخراج : دون سيغل
كتب دانيال مينورينغ هذا النص اقتباساً عن روايةٍ كتبها جاك فيني عن
ثلاث قصص نشرها مسلسلةً في احدى المجلات. قيل بأن سام بكنباه (المقرب
جداً من سيغل) أعلن في أكثر من مناسبة أنه ساهم في كتابة جزءٍ منه ،
الأمر الذي أنكره مينورينغ وهدد باللجوء إلى نقابة الكتاب الأمريكيين
لإيقاف بكنباه عن ادعاءاته. وفي الواقع ما تزال حقيقة الدور الذي
لعبه بكنباه (الذي سيصبح مخرجاً كبيراً بعد سنوات) في كتابة هذا
النص مجهولةً. الشيء الوحيد الثابت في الموضوع أن هذا النص العظيم أنتج فيلماً
سينمائياً عظيماً !
الأجواء لم تكن مشرقةً إلى تلك الدرجة حينها ! دون سيغل استغرق
في هذا الفيلم 23 يوماً فقط ، وأنتجه بممثلين مغمورين تناسباً مع الميزانية
المحدودة ، والنقاد لم يتقبلوا الفيلم كما يجب مع أنهم لم يضطهدوه أيضاً ، لكنه
سرعان ما اكتسب أهميةً إضافيةً بفضل الظروف الزمنية التي انتج فيها حيث مرحلة ما
بعد الحرب الكورية وذروة الحرب الباردة وقوائم المكارثية السوداء. تزايدت قيمة الفيلم بمرور الوقت وأصبح
كلاسيكيةً بارزةً في صنفه والمنجز السينمائي الأهم لأحد أبرز معلّمي سينما
الإثارة والتشويق في تاريخ هوليوود ، الكبير دون سيغل .
الحكاية عن مايلز بينل ، طبيبٌ في بلدة سانتا ميرا بكاليفورنيا
يتعرض لمجموعةٍ من الحالات التي ينكر فيها أصحابها على المقربين منهم شيئاً من
روحهم وحميميتهم ويبدءون في الشك بأنهم (ليسوا هم). تلك
الحالات لا تلبث أن تتحول إلى كابوسٍ من الهيستيريا الجماعية التي تضرب البلدة حول
غزوٍ فضائي على صورة أقرب المقربين إلينا .
تتدفق الحكاية بسلاسة منذ لحظاتها الأولى ، ولا تدفعنا سرعة ذلك التدفق للشعور بأي حاجةٍ لمكابح أو
استراحات. باكراً يبدو الحدث مغرياً لنا وفي الوقت ذاته مثيراً
للفضول والقلق. لا يبدأ الحدث بعيداً حيث الشق الرومانسي من الحكاية بل يبدأ من الحبكة الرئيسية ذاتها عن أهل البلدة اللذين لم يعودوا كما كانوا. تأتي الحكاية الثانوية دون مقدماتٍ أو
استنزاف جهد لتبدو مجرّد صراعٍ ثانوي محوره بطل الحكاية الرئيسية. حبٌ قديمٌ يعود إلى الجوار ، وأسئلةٌ عن أين كانت ستمضي بهما الأيام (لو تزوجت بيكي من
طبيب) ، ورغبةٌ ملحّة أن يكونا إلى جوار بعضهما لبعض الوقت ، هكذا بكل
بساطة ، لا أكثر و لا أقل ! يربطنا سيغل بهذه الحكاية الثانوية لنعود لها من حينٍ لآخر أثناء مراقبتنا للحبكة
الرئيسية تسود وتسيطر شيئاً فشيئاً على الصورة مع تصاعد نبرة الإثارة دون
أن يجعل الحكاية الثانوية تتراجع. هذا النهج يثمر فيلماً مشبعاً على صعيد الحدث والتطورات النفسية قياساً لثمانين دقيقةً
فقط هي مدته. الجديد في الحدث لا يتوقف في أي مشهد. اللافت والمغري في علاقة
الحب التي نراها تُستعاد مطلع الفيلم هو المقدار الذي يشغله الحدث الرئيسي حولها مع
كل تطور ، يبدأ صغيراً ولا يلبث أن يأخذ مساحةً أكبر بعد ثلث ساعة قبل أن يضربها
في صميمها عندما تتحول إلى رحلة هروبٍ مزدوجة : حفاظاً على الكائن الذي
أحببنا ، وحفاظاً على كونه كائناً قبل كل شيء. لا
تصبح الحكاية الرئيسية رئيسية إلا بمقدار استحواذها المنطقي على حياة بطلينا والمساحة التي تشغلها منها مع تقدم الأحداث .
عندما تبدأ الإثارة بالإستحواذ على الصورة لا يقدم نص مينورينغ وإخراج سيغل شيئاً اعتيادياً أو متوقعاً. إثارة الفيلم فريدة ومختلفة حتى بعد قرابة ستين عاماً على اصداره ، غير مبتذلةٍ في زمننا ، وغير اعتياديةٍ في زمنها. جانبها
الذي يستمد قيمته من سينما الرعب مختلفٌ تماماً عن رعب حقبته حيث عادةً ما كان مصدر الرعب في الحكاية شيئاً سهل التمييز ، مخلوقاتٌ غريبةٌ أو كائناتٌ ممسوخةٌ أو
مشوهة. مينورينغ يرى في حكايته أن أكثر الأشياء رعباً على
الإطلاق هو (نحن) ! لذلك يأتي الرعب هنا على صورتنا نحن (حرفياً) ! هيئتنا البشرية
ذاتها التي لا مثيل لها في القدرة على الحاق الضرر بنا. يتفوق فيلم سيغل أيضاً على اقرانه في الطريقة التي يعالج بها تعامل الإنسان مع الكارثة. عادةً تبدأ
الكارثة في منطقةٍ صغيرة وسرعان ما تتفشى كالوباء في كل مكان. مينورينغ وسيغل يضعان
هذه الصورة النمطية جانباً. يصنعان حكايةً أكثر تأثيراً ورعباً في بيئةٍ ضيقةٍ
لمنطقةٍ صغيرة قبل فترةٍ طويلةٍ من مرحلة التفشي. يجعلك تعيش كابوسية ما يحدث دون الحاجة للإسراف البصري المعتاد في تقديم حكاياتٍ كهذه. رعب الفيلم يأتي من وضع مجموعةٍ من البشر
رهن جنون الإرتياب في بلدةٍ صغيرةٍ لا يعلم فيها أيٌ منهم حقيقة المحيطين بهم ، لا
يعلم فيها أيٌ منهم حقيقة نفسه أيضاً .
جنون الإرتياب هذا تضافر مع قوائم المكارثية المسعورة
حينها ليضيف للفيلم قيمةً تحتملها حكايته عن الوباء الذي ينتشر إلى الدرجة التي
تتلاشى معها الحواجز بين الصديق والعدو وبين من يستحق الثقة ومن لا يستحقها. صحيح
أن دون سيغل قال في أكثر من مناسبة أن اسقاط الحكاية على المكارثية كان
أمراً جماهيرياً صرفاً ولم يكن في حسبانه بالرغم من انكار بعض العاملين في الفيلم
لكلام سيغل ، إلا أن الفيلم يذهب بالفعل أبعد من هذا الإطار الضيق ، متجاوزاً هستيريا المكارثية بوضوح ليصبح قابلاً لكل الأزمنة والبيئات. و بغض النظر عن صحة استلهامها من عدمه فالنتيجة الختامية عممت محتوى المكارثية على
كل رد فعلٍ هستيريٍ شعبوي تجاه أي شيءٍ مختلف ، ومن هنا يكتسب
الفيلم جزءاً مهماً من عمقه و قيمته. يحفر في عمق ثنائيةٍ أزليةٍ عن الحليف و العدو. يلامس بارانويا الهوية حول (هل ما زالوا هم ؟) و (هل ما زلت أنا ؟) ، محاولاً استكشاف المعيار في كونهم (ما زالوا) أو
كوني (ما زلت) ! الشك هنا يفتك بالبلدة شيئاً فشيئاً ، والغزاة هنا
يصوّرون أقرب الحلول للتخلص من هذا الرعب الهيستيري - القائم على الشك – من خلال
الإنضمام إليهم ، وحده الإنضمام اليهم يسقط ذلك الشك و ينهي كل شيء. الفيلم
يتعامل مع هذا البعد في حكايته ويذهب به أبعد بكثير من ارتباطه اللحظي بحقبة المكارثية ، وهذا ما يفسر تناول هذا البعد في ثلاث اعاداتٍ حظي بها الفيلم خلال العقود التي
تلته. كل اعادةٍ استلهمت ثنائية الحليف والعدو وبارانويا الهوية في حكايةٍ
مختلفةٍ انتصرت كلٌ منها لمرونة هذا النص وقيمته الحقيقية .
أعمق من ذلك لا يكتفي سيغل بتناول التضاد المفترض بين المادي والروحي (و الذي أشبعته السينما تناولاً) بل يتقصى حقيقة الشعور المربك بأن
ما يجعلنا ضعفاء في الواقع هي (روحنا) ، وأنه كلما اختل التوازن بين
الروحي والمادي لصالح الأخير كلما غدا الإنسان أكثر قوةً وسعادة ! الفيلم على
العكس يجدد الإيمان بالروح ويجعلها مصدر الثقة الوحيد في تمييز الصحيح والخاطئ. مخلوقات الفيلم (الروحانية مطلع الفيلم) تشتكي ، تقصد الطبيب ، ترفض التأقلم مع
احساسها المشوش بأن أقرب المقربين إليها (ليسوا هم). يتجاوز سيغل الجزء المادي فيهم - والذي يصر الجميع على
أنه (لم يتغير) - ليفتح نافذةً على الروح نختبر فيها ثقتنا بها وبأن
ما تخبرنا إياه الآن عن أقرب المقربين إلينا حقيقيٌ جداً ، وصادمٌ جداً ، ويجعل
من مرجعية تقييم الكارثة ذات البعد (العلمي) أمراً (روحانياً) محضاً ! لا يوجد فحصٌ ما أو آليةُ طبيةٌ منهجيةٌ
لمعرفة مَن مِن هؤلاء البشر (تحوّل) و مَن مِنهم ما يزال إنساناً. مرجعية ذلك هو ما تدلنا
عليه الروح وحدها. يُميّز بطل الحكاية حبيبته - مازحاً - من خلال قُبلة ، ثم يقول
لاحقاً في أخلد مشاهد الفيلم (لم أعرف المعنى الحقيقي للخوف ، حتى قبّلت بيكي) ! يعرض سيغل شيئاً مهماً جداً عن مرجعية (السلوك الشاذ) : هل هو شيءٌ في طبيعة السلوك ذاته تدفعنا
لإعتباره (شاذاً) ؟ أو هو شيءٌ مستمدٌ من النفوذ المحدود لذلك السلوك مجتمعياً والذي يسقط عنه صفة الشذوذ بمجرد أن يطغى ويستفحل ؟! وفي الوقت ذاته لا يبدو سيغل سلطوياً في ذلك الطرح ولا يضع أحكاماً مطلقة ، فقط يعيد التأكيد على القيمة الساحقة للفرد
في احداث الفارق دون أن يرسم في شخصيته الرئيسية الملامح التقليدية
للبطولة. مايلز بينل حارب شيئاً اعتبره شاذاً في بلدته حتى غدا هو الشيء
الشاذ في البلدة ! سيغل ينأى ببطله عن الصورة النمطية للمنقذ في واجهة أفلامٍ من هذا النوع ويخرجه هنا من رحم
معاناة (النفوذ المنحسر للسلوك السائد) أمام (الصعود المتنامي للسلوك
الشاذ) ، ليمنحه في الختام – بناءً على ضغوطٍ إنتاجية – نهايةً بها قليلٌ
من الأمل .
أفلامٌ كهذه تعيش عقوداً لأن ورائها مخرجين من طينة دون سيغل. كل
لحظة وكل منعطف وكل كادر في الفيلم ينطق بعظمة دون سيغل الذي وظف
أداء مدير تصويره إلسويرث فريدريكس في خدمة إيقاع مدروس بأدق وحدة قياس.
التقاطه لتفاصيل المدينة وثنائية الضوء والظلال التي يتفنن في ادارتها في المشاهد
الداخلية شيءٌ عظيم ، وكأنما وضع دون سيغل قالباً للفيلم كله صنعه بالكامل في ذهنه ثم صبّ فيه كل كادر وكل حركة وكل
ضربة موسيقى لتأخذ الشكل الذي رسمه بدقة في مخيلته. فيلمٌ عظيمٌ و معلمٌ من معالم
الصنف .
التقييم من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق