كتب : عماد العذري
بطولة : جيك جيلنهال , مارك
روفالو , روبرت داوني جونيور
إخراج : ديفيد فينشر
فيلم الإثارة العظيم بالنسبة لي هو الفيلم الذي يستطيع أن يوجد لنفسه مساحةً
جديدةً تجعله مثيراً في كل مشاهدة ، حدث معي هذا في
مشاهدتي الثالثة للفيلم يوم أمس. لو استثنيت فيلمه السينمائي الأول فإن Zodiac كان دائماً أبعد أفلام فينشر عني بالرغم من
اقراري بقيمته ورفعة صنعته ، في المشاهدة الثالثة تحديداً تغير هذا الشعور إلى
حدٍ بعيد .
نص جيمس فاندربيلت المقتبس عن كتاب روبرت غراي سميث Zodiac يسرد على مشاهديه القصة الكاملة
لإحدى أكثر جرائم القتل التسلسلية إثارة لحيرة علماء وأخصائي الجريمة في تاريخ
الولايات المتحدة الحديث. قصة القاتل التسلسلي الأشهر زودياك الذي روع
قاطني ومرتدي خليج سان فرانسيسكو والساحل الغربي كله بمجموعة من جرائم القتل
التسلسلية الغامضة في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي ولم يخلف
وراءه سوى رسائل مرمزة واتصالٍ متلفز والكثير من الحيرة.
منذ البداية يبدو الفيلم مثالياً جداً وفقاً
لمعايير ديفيد فينشر. لا تخطىء العين أسلوبه منذ مشهده الافتتاحي الذي لا ينسى بهدوئه الرومانسي وعنفه الدموي وتصويره
الذي ينطبع في الذاكرة. فينشر ينجح تماماً في هذا المشهد في نقل كل مشاهديه إلى
ساحة المعركة مبكراً جداً : هذا ما عاشه سكان الساحل الغربي في تلك الفترة ، هدوء
يسبق العاصفة ومجرم لا يراه أحد ! على مدار ساعةٍ تاليةٍ من العرض يستمر فينشر بالعزف
على هذا الوتر بريشة مخرجٍ عظيم لا يتخلى عن استفزاز مشاهده بفضلٍ إثارةٍ غنيةٍ
جداً يقدمها له ويجعلها تلامسه كل مرةٍ بطريقةٍ مختلفةٍ عن سابقتها. مع كل
مشاهدة ازداد اعجابي بالعمل العظيم لفينشر كضابط ايقاعٍ. أن تشاهد ذات الحدث في ذات الفيلم لثلاث
مرات دون أن تشعر بأن ضبط ايقاع الإثارة قد أفلت من فينشر طوال 160
دقيقة هو أمرٌ أصبح تخصصاً لا يوجد في هذا الزمان
من يجيده أكثر منه .
على السطح يبدو الفيلم نسخةً من All the President' Men تتناول حكاية قاتلٍ
متسلسل بدلاً من فضيحةٍ سياسية! بين الفيلمين الكثير من المشتركات ووراء كليهما نصان ذكيان ومخرجان يتفهمان جيداً ما الذي يمكن أن يجذب المشاهد في حكايةٍ كتلك تستكشف المدى والتأثير الذي
يمكن أن يبلغه اطلاق العنان لأنف الصحفي في القبض على الحقيقة. يتضافر جهد النص وبراعة الإخراج في تشكيل حالة الغموض التي تلف الحدث بصرياً حيث التوازي الدائم بين
المشاهد الليلية للجرائم والمشاهد النهارية للنقاش حولها والتحقيق فيها يخلقان
مكافئاً مدروساً للرهبة التي عاشها صناع الحدث في حينه. يخبرنا النص منذ البداية أنه لا يتفوق
علينا في شيء ، لا يعرف شيئاً لا نعرفه ، الحدث الذي يقدمه مجهول التفاصيل ، ومريب ، ومشوش ، واستحواذيٌ أيضاً ، وفينشر ينتصر لهذا التفصيل ولا يخذله محولاً فيلمه إلى لغزٍ تتكشف تفاصيله مع تقدم الحدث بصورةٍ قد تفقده
العمق الحقيقي الذي يقوم عليه في تناول رحلةٍ استحواذيةٍ سيطرت على ابطال الحكاية
لأكثر من عقد .
علاوةً على ذلك يراوغ النص الصورة النمطية لأفلام النوع ، ومن النادر
أن يعمل فيلم التحقيقات تحديداً بعيداً عن ذلك الكم الوافر من الكليشيهات التي
التصقت بالنوع. النص يلعب عملياً خارج القضية نفسها ، في المساحات شبه الفارغة
التي لم يفكر أحدٌ ربما في التعامل معها بذات الكيفية. الشخصيات هنا لها عالمها
الخاص واهتماماتها البعيدة عن الحكاية. الحدث ذاته يتطور نفسياً بصورةٍ لا
تتماشى مع كليشيهات الصنف التي لا تستطيع تجنب الإنزلاق من الغموض نحو الأكشن. يكتفي صناع الفيلم بالتعامل مع الحدث كدراسةٍ نفسيةٍ في الأساس : غموض زودياك للجمهور ، ثم الخوف
منه ، ثم الإختلاف حوله ، ثم إدعاء معرفته كسبيلٍ ربما للإطمئنان له ، قبل
الإستسلام للحيرة الصماء لسنواتٍ وسنوات ! كل ذلك يحدث دون مطاردةٍ حقيقية ، دون
أكشن أو اشتباكات. يجرد فاندربيلت و فينشر فيلمهما من أكشن الجريمة محترمين حقيقة أن هذه القضية كانت لغزاً ، ولا يغريان المشاهد ولو قليلاً في توقع أن تذهب أبعد من إطار اللغز الذي كانته. مفاجئات
الحدث ناعمةُ التقديم ، صادمة النتيجة ، تجعل المشاهد يشعر بأنه جزءٌ من نسيج
الحكاية يهمه فك طلاسمها أكثر من مجرد اهتمامه بالمشاهدة .
في العمق ، هذا فيلمٌ عظيمٌ عن الشغف ! وهذا تحديداً ما
يبقى وراءه بعد مرور سنواتٍ على مشاهدته ، وبرأيي هو شيءٌ عظيم أن يبقى في فيلمٍ
من هذه النوعية تحديداً. لطالما ارتبط الشغف والهوس بأفلام الرومانس
والموسيقى والرياضة ، لكنه من النادر أن ارتبط بفيلم جريمة ، تماماً كما حدث في Memories of Murder ، رائعة جون هو بونغ الذي يصف فيلم ديفيد فينشر هذا بـ (التحفة). الفيلم – كما سلفه
الكوري - أعمق من أن يجعل من إثارة أحداثه – بالرغم من عظمة كتابتها وتنفيذها –
وسيلةً دائمةً لجذب مشاهده. ينظر بعمق - على مدار سنواتٍ طوال هي عمر
قضية زودياك - في حجم الشغف والإستحواذ الذي سيطرت به هذه القضية – في
مراحل زمنيةٍ مختلفة – على حياة ثلاثة رجالٍ ارتبطوا بها : المحقق ديف توسكي الذي أوكلت إليه ، والصحفي بول إيفري الذي تحرر من رسمية رجال القانون ليقوم بأبحاثه وتحرياته الخاصة ويصبح بحد ذاته هدفاً من أهداف زودياك قبل أن يتخلى عن كل ذلك بتقادم القضية ليصبح مدمناً على الشراب والمخدرات ، ورسام الكاريكاتير روبرت غراي سميث الذي استنزفته القضية البعيدة تماماً عن اختصاصه لتحيل حياته إلى
سلسلةٍ لا تنتهي من الأحاجي والأدلة على مدارٍ أكثر من عقدٍ من الزمان. ذات
الهوس ربما الذي أصاب كاتب السيناريو جيمس فاندربيلت تجاه تحويل هذا
الكتاب الذي قرأه في مرحلة الثانوية وأراد أن يراه على الشاشة الكبيرة كما يجب أن
يكون ، أو الذي أصاب ديفيد فينشر منذ أن سمع لأول مرة اسم زودياك من والده عندما كان
طالباً في المدرسة الإبتدائية في سان فرانسيسكو يوم أخبره عن دوريات
الشرطة التي تسير خلف باص مدرسته منذ أسبوعين. أو الهوس الذي أصابهما معاً وحوّل
فترة اعدادهما لهذا الفيلم والتي استمرت عاماً ونصف إلى رحلة تحقيق في الجرائم والأماكن والتفاصيل تشبه تلك الرحلة التي خاضها أبطال الحكاية الثلاثة. شخصيات
الفيلم الثلاثة – وفي مراحل مختلفةٍ من القضية – تدرك حجم الشغف الذي قادها في
التعامل مع القضية ومقدار الهوس الذي استحال إليه. بول إيفري يعلم أن هناك مئات
الجرائم التي حدثت بينما هو يطارد رجلاً لمجرد أن لا أحد يعلم عنه
شيئاً. توسكي يعترف لغراي سميث بحدوث أكثر من مئتي جريمة قتل في فترة الأعوام الثلاث التي صمت فيها زودياك بينما استلذوا هم
بمطاردته. إيفري يسأل غراي سميث في بدايات القضية (ماذا تريد من ذلك ؟) ، فلا يجد غراي سميث جواباً ! ذات السؤال
الي تسأله إياه زوجته في الذروة فيخبرها أنه يقوم بما يقوم به (لأنه لن يقوم به أحدٌ
آخر) وهي عبارةٌ تضرب في صميم خصوصية (الشغف) الذي لا حدود له ولا تفسير
حقيقي له. غراي سميث نفسه يختزل غايته (البسيطة / الممتنعة) في تفسير ما أصابه (أحتاج لأن أعرف من هو ، أحتاج
لأن أقف هناك ، أحتاج لأن أنظر في عينيه وأتأكد أنه هو) ، وهي الغاية التي
تجعل من وقوفه هناك في المستودع أواخر الفيلم ينظر في عيني آرثر لي آلن نظرة انتصارٍ وهميةٍ
فيها الكثير من الضياع والتشويش بين ما تحرضه المشاعر وما تتطلبه الأدلة .
بين (المشاعر) و (الأدلة) يضيف نص فاندربيلت عمقاً آخر لشخصياته
، يترك مساحةً ملموسةً للمشاعر والأحاسيس تتدفق من خلالها بنعومةٍ وسط عالمٍ كل
ما فيه يقوم على الأدلة والقرائن. تطارد شخصياته الثلاث هواجسها بمقدار ما تطارد اللغز.
يخبر توسكي رئيسه في العمل عندما يقترب كثيراً من حل غموض القضية ثم يفشل (أتدري ما هو أسوأ ما
في الأمر ؟ ، أنني لا أستطيع أن أحدد ما إذا كنت قد تمنيت أن يكون آلن هو القاتل
لأنني اعتقدت أنه هو ، أو لأنني أردتُ أن ينتهي الأمر فحسب) ! قبل أن نشاهده يجلس
لاحقاً مع غراي سميث في مشهدهما الشهير قرب الختام يسترجعان سيناريو القضية كلها. يحدثه غراي سميث عن رأيه (لا أسألك كشرطي) ، فيرد توسكي (لكنني شرطي ، لا
أستطيع اثبات هذا). طوال الفيلم تتصارع الشخصيات داخلياً بين هوسها بالحدث وأحاسيسها
تجاهه وبين انتماء الحدث إلى عالمٍ لا يؤمن إلا بكل ما هو قطعيٌ ومثبت ، الهوس
الذي يختزله غراي سميث في رده (مجرد أنك لا تستطيع إثباته لا يعني بأنه ليس صحيحاً) .
في المشاهدة الثالثة كان منطقياً أن يزداد تقديري للعمل كما حدث في مشاهدةٍ
تلفيزيونيةٍ سابقة. يثبت فينشر هنا - قبل أي شيء - نضجه في خلق
إيقاعٍ داخليٍ وخارجيٍ للحدث والشخصيات مكتمل وحقيقي وغير محمّل بأي طاقةٍ وهميةٍ اعتداناها في مساحة التماس بين الحدث والشخصية في أفلام هذا النوع وقدرته - التي اتضحت ابتداءاً من هذا الفيلم تحديداً - على ترسيخ بصمةٍ بصريةٍ بدأ البحث عنها في Se7en و Fight Club قبل أن يجدها مع Zodiac. توظيفه للإضاءة الداخلية الخافتة والمساحات المعتمة في الكادر ومقدار الخصوصية
التي يضفيها على جميع المشاهد من خلالها كإنعكاسٍ لثنائية (ما نعرف ومالا نعرف) ، إستخدامه المتكرر للقطات الجانبية
المنخفضة التي فيها من الفضول بمقدار ما فيها من التلصص ، انتقاله المتكرر هنا في السجالات الحوارية بين لقطاتٍ بمستوى مرتفع أو منخفض كترجمةٍ بصريةٍ لعلاقة الشخصية بما تعرفه أو تشعر به، و (الوحدة البصرية) التي يحققها لمشاهد تنفيذ كل جريمة بما يمنحها (خصوصية قاتلها المتسلسل) دون أن يحرمها في
الوقت ذاته من حضورها الخاص بحيث تبدو جميع مقطوعات الجرائم في
الفيلم شيئاً مختلفاً عن نسيج الفيلم البصري ومنتميةً إلى عالمٍ آخر هو عالم القاتل، شيءٌ ننتظره كمشاهدين كما تنتظره
الشخصيات ذاتها. وبالتأكيد - كعادته - عملٌ مونتاجيٌ واعٍ ليس فقط لقيمة الانتقال بين لقطةٍ وأخرى وإنما أيضاً للتون الذي يخلقه طول اللقطة. فينشر يُسرف في الإعادات اثناء تصوير كل مشهد لأنه يعرف تماماً - وليس افتراضاً أو تخميناً - كيف ستكون النتيجة النهائية على الشاشة. نضجٌ مدهش في مراقصة نوع اللقطة وطولها بحيث تغني السرد وتضيف له عوضاً عن أن تكون وسيلةً له وصل ذروته لاحقاً في The Social Network و The Girl with the Dragon Tattoo.
وبالرغم من حاجزٍ يبقيني على مسافةٍ مع
الأداء الإنفعالي الذي يقدمه روبرت داوني جونيور لشخصية بول إيفري ، وأمنيةٍ
راودتني في المشاهدتين الأخيرتين بشريط صوتٍ يضع عليه أتيكوس روس و ترينت رزنور
بصمتهما العظيمة التي أضفت أفلام فينشر الثلاثة الأخيرة جمالاً على جمالها ، وتفاصيلٍ صغيرةٍ تناثرت هنا وهناك وأثرت - ولو قليلاً – على حس الإتساق الزمني
للحدث ، يبقى هذا واحداً من أعظم أفلام التحقيقات على الإطلاق .
التقييم من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق