•   شخصيات تختبىء وراء إدراكها
  • أريدك أن تصنع فيلماً عن معاناتي
  •  بركات الحضارة
  •  أشياؤه المفقودة
  •  كل الحيوانات تخرج ليلاً
  •  اللحظات المختلسة
  •  الفن والحب والحياة
  •  عن أحياءٍ لم يعودوا يحيون وأمواتٍ لا يموتون أبداً
  •  روسيا بوتن في شتائها الثاني عشر
  • أفكاره ومشهديته تجعله يستحق المشاهدة
  • الإضافة من خلال الحذف

الأربعاء، 15 مايو 2013

The 400 Blows

كتب : عماد العذري

بطولة : جان بيير ليو ، كلير مورييه
إخراج : فرانسوا تروفو

دائماً عندما يأتي الحديث عن الموجة الفرنسية الجديدة أكرر أن فرانسوا تروفو هو أفضل مخرجيها ، بالرغم من الإتجاه السائد دائماً لإعتبار جان لوك غودار أعظم أسمائها ، ربما أجد في غودار أكثرهم تأثيراً فيمن بعده ، لكنني أجد في تروفو المخرج الأكثر ولاءاً للموجة و الأكثر تعبيراً عن طقوسها و أفكارها التي وجدت لأجلها ، و بالطبع مخرجي المفضل بين رجالاتها و ربما مخرجي المفضل في السينما الفرنسية كلها .

و لا يأتي الحديث عن تروفو إلا و يجر معه حديثاً آخراً عن هذا الفيلم ، ليس لأنه برأيي أعظم أفلام الموجة بل لأنني أراه أيضاً واحداً من أعظم الأفلام في تاريخ السينما و أحد أكثرها تأثيراً ، جاء في تلك اللحظات المبكرة التي قرر فيها نقادٌ في مجلة ترجمة الأفكار التي لطالما عملوا عليها كوسيلةٍ لتحرير السينما الفرنسية من الجمود و التقليدية التي ضربتها أثناء فترة الحرب و استمرت بعدها ، ذلك التوقيت المفصلي الذي رأوا عنده أنه من الصعب أن يأتي المخرج القادر على تحويل افكارهم و نظرياتهم تلك و ترجمتها الى واقعٍ ملموس فقرروا نتيجةً لذلك التحوّل بأنفسهم إلى الإخراج السينمائي ، كانت أياماً عظيمةً للسينما تمنيت لو أنني عشتها أو على الأقل عشت عام 1959 منها ، صحيح أن كلود شابرول كان من قص شريط الإفتتاح عام 1958 ، الا أن عام 1959 هو من فعل كل شيء ، كان واحداً من أكثر أعوام السينما مفصليةً و أثراً و خلّف وراءه اعترافاً عالمياً بأكثر الحركات السينمائية إنقلابيةً في تاريخ السينما لا يوازيها في ذلك ربما سوى موجة السبعينيات الإنقلابية في هوليوود ، و من الصعب القفز على حقيقة أن باكورتي أعمال جان لوك غودار Breathless و فرانسوا تروفو The 400 Blows اللتين أطلقتا ذلك العام هما من حققتا الضربة المدوية للموجة الجديدة ، و مع أن الكثيرين يعتبرون أن الفيلم الأول ساهم أكثر من الثاني في رسم ملامح الموجة و جعلها حقيقةً واقعة ، إلا أنه من الصعب إنكار أن فيلم فرانسوا تروفو هذا هو من لفت أنظار العالم إليها عندما تعلّقت آمال أولئك الرفاق بفيلمٍ لأحدهم ذهب إلى مهرجان كان ذلك العام ليعود بجائزة أفضل إخراج قبل أن يرشح لاحقاً لأوسكار أفضل سيناريو أصلي ، الآن أصبح العالم كله يعلم عن أي رؤيةٍ سينمائيةٍ يتحدثون ، الحقيقة أصبحت واقعاً ، و المقالات أصبح موجةً هادرة .

في هذا النص الذي كتبه فرانسوا تروفو و أخرجه في سن السابعة و العشرين نتابع أنتوان دوينل الفتى الباريسي الذي يعاني بعض المشاكل في منزله تماماً كما هو الحال مع مدرسته ، أنتوان يفكر كثيراً خارج الصندوق ، لكن سوء حظه و عدم قدرته على التواصل مع محيطه القريب يجعلانه دائماً في دائرة النار ، يترك مدرسته و يسرق آلةً كاتبةً من مكتب والده ليموّل هروبه من منزله قبل أن يقرر اعادتها ليلقي والده القبض عليه و يسلمه للشرطة التي تقوده الى الإصلاحية .

ككل أفلام الموجة هذا ليس فيلماً عن الحبكة ، و هو في هذا الخصوص يمثّل الموجة و يعبر عنها بشدة خصوصاً و أنها كانت في خطواتها الأولى عندما تم إطلاقه ، أحب هذا العمل و أقدره كثيراً على ثلاثة مستويات ، أولها هو قيمة معالجته لقصة النضوج و لرحلة فتى في الرابعة عشرة من عمره وسط هذا الكم من الرفض الإجتماعي ، و ثانيها العلاقة المتوازية بين أنتوان دوينل و فرانسوا تروفو – كحال معظم الأعمال التي أنتجتها الموجة و ما بعدها حيث ذاتية المخرج تطغى على كل شيء – و هي العلاقة التي تنسل وراء الصورة العامة لهذه الحكاية المدروسة عن النضوج في محاولةٍ للحفر في الظروف التي شكلت شخصية فرانسوا تروفو ، و ثالثها قيمة العمل ضمن مسيرة الموجة الفرنسية و المقدار الذي عبر به عنها و جسّدها و قدّمها فيه بتلك الصورة الإنفجارية .

في تفاصيل حكايته يقدم فرانسوا تروفو برأيي أعظم فيلمٍ من نوعه في تناول فترة التحول الحرجة في حياة فتىً في عمرٍ كهذا ، يحرر تروفو بقوة من خلال شخصية بطله مشاعر الإختناق و العجز و التمرد و الشجاعة و يخرجها من قمقمها ، تشعر من خلال تقديم تروفو لدوينل بكميةٍ كبيرةٍ من الثقل في عملية التأسيس لشخصيةٍ بهذا العمر و هذا لم يكن اعتيادياً في حينه و ليس اعتيادياً حتى في عصرنا هذا ، يقف تروفو بشخصية بطله بين الصورة التقليدية للطفولة حيث الشقاء الدائم في المنزل و المدرسة على السواء و بين مرحلة النضوج بكل ما فيها من تمرد و اختلاف ، هذه الوقفة تتيح له معالجة هذه المرحلة العمرية بطريقةٍ غير اعتيادية ، أثقل بكثير مما يمكن لأي فيلمٍ أن يتناول في شخصيةٍ فتى بهذا العمر ، تروفو يعتمد في ذلك على محاولة خلق المشترك باكراً جداً بين المشاهد و بطله ، هو يؤثر في مشاهده إبتداءً من هذا الفيلم من خلال محاولة استنطاقٍ جديةٍ غير مفتعلة للشيء المشترك بينه و بين ما يشاهده ، لذلك يتفاعل بسهولة مع ما يجري و منذ المشهد الأول ، نتحمس له في مواضع ، نرثي له في أخرى ، و ننزعج بشكلٍ لا يمكن انكاره عندما نشاهد والده يقوده الى قسم الشرطة أو عندما نراه مع المساجين ، ربما لأن ميزان الفيلم الحياتي حقيقي جداً ، لا يأخذ خطاً معيناً بل يجسد حياة الفتى كما هي ، نراها ممتعةً و مملةً و سعيدةً و مخيبةً و مبهجةً و كئيبةً كلٌ حسب المفصل الذي يحكمها ، و لا يحاول تروفو من خلال ذلك أن ينهج النهج الميلودرامي في التباكي على بطله قدر اهتمامه بالظروف التي سيرت حياته و بالعجز التربوي الذي تحكم به من خلال انعدام التفاهم بينه و بين محيطه المباشر ، و هذا التجنب الميلودرامي أفاد قيمة العمل كثيراً ، ربما بوجود الميلودراما كان الفيلم ليحقق مجداً لحظياً من الصعب المراهنة على احتمالية أنه سيدوم ، لا يصور بطله الديكنزي بصورة الطفل السيء أو حتى بصورة الطفل المشاغب قدر تصويره لحظّه السيء و انعدام تواصله في البيت و المدرسة ، كل ما يقوم به اما لا يسير في الطريق الصحيح و إما لا يفسر بالشكل الصحيح ، نرى في بداية الفيلم المبكرة صورةً لحسناء تتنقل بين طلاب الصف ، لكن المدرس لا يلتفت لما يجري الا في اللحظة التي تكون فيها تلك الصورة في يد أنتوان ، يدعي وفاة والدته فيجدها أمامه في المدرسة ، يكتب فرضاً مدرسياً متأثراً ببلزاك الذي يعشق أدبه فيتهمه أستاذه بالسرقة الأدبية ، عندما يقرر التغيّب عن المدرسة يشاهد والدته و عشيقها ، يشعل شمعةً لبلزاك في غرفته فتشتعل الغرفة ، حتى و هو يقرر اعادة الآلة الكاتبة الى مكتب والده يقع في الفخ الذي لم يقع فيه عندما سرقها ، حظه السيء في كل شيء يلازمه حتى في تصرفاته الحسنة ، و كأنما يرى تروفو من خلاله أن بعض الأمور غير العادلة و الكثير من سوء الحظ هو من يشكل الجزء الأكثر مفصليةً و اهميةً في حياتنا ، و من النادر فعلاً أن تكون قصص النضوج عميقةً المعالجة و ثقيلةً القيمة الى هذه الدرجة ، على هذا الصعيد تحديداً أرى الفيلم فوق أي عملٍ آخر تناول الموضوع ذاته .

ما يعمّق من سحر الفيلم بعيداً عن معنى الحكاية بحد ذاته هو الطريقة التي تتماهى بها مع المخزون الإنساني لفرانسوا تروفو ذاته و كيف يرسّخ من خلالها و بقوة القيمة الأكثر أهمية لأفلام الموجة الفرنسية و المتمثلة في ذاتية المخرج ، لا يخطئنا التعبير عن ذاتية تروفو و مرجعية شخصية أنتوان دوينل اليها ، وهو الذي أعاد تقديمها في أربعة أفلامٍ أخرى قام ببطولتها جان بيير ليو ، خصوصاً من خلال طفولتها المقموعة و فراغها التربوي و علاقتها الحميمية بالسينما ، أنتوان دوينل في تلك المرحلة المبكرة من حياته يتخلى عن الجزء المقموع من طفولته ، يتجرد منه و يجد نفسه بعيداً عما يقوم به من هم في مثل سنه ، يجد روحه و أنسه في صالات السينما ، و تروفو من خلال شخصنته للحكاية – كنهجٍ مهم للموجة الفرنسية الجديدة – يجعل من تمرد دوينل – الذي يحقق من خلاله جان بيير ليو واحداً من افضل أداءات سنه عبر سائر عصور السينما - نوعاً من التوثيق المبكر لتمرد الحركة ككل و نزعاتها التحررية و الإنقلابية ، و في هذا التفصيل أعشق هذا العمل كثيراً كما أقدّر قيمة تروفو ضمن الموجة الفرنسية الجديدة أكثر من أي مخرجٍ آخر ، قدرته على اثبات قيمة الحركة و اعلانها بهذه الصورة الصارخة يستحق رفع القبعة ، يفعل هذا أولاً من خلال تأكيده الواضح على المعنى المبسط و غير الإعتيادي حينها لمفهوم المخرج المؤلف ، و ثانياً من خلال العلاقة الحميمية التي ينسجها عبر كاميراه مع باريس مسقط هوى جميع أفلام الموجة ، سلسلةٌ لا تتوقف من الوله بباريس تحضرني دائماً من هذا الفيلم ، أتذكر منها على الخصوص اللقطات الحيوية في الجولة المدرسية في شوارع باريس ، و اللقطات الفريدة لدوينل في مدينة الألعاب ، و كاميرا تروفو التي تراقب أنتوان عن كثب في جميع جولاته اليومية ، و ثالثاً من خلال نقل ذاتية الحكاية و مرجعيتها الباريسية في أفضل صورةٍ ممكنةٍ تعبر عن أفكار الموجة ، سواءً من خلال الإستخدام الواضح للقطات الطويلة و الكاميرا المتحركة و الصوت الطبيعي و المواقع الحقيقية و الحس التوثيقي و المونتاج غير المتصل و المرجعية الإنسانية العالية للقصة ، هذه التفاصيل التي ضخها تروفو بقوة في باكورة أعماله جعلت منه قيمة عظيمةً و دفعاً قوياً لموجةٍ تلتمس الطريق لذاتها نحو تغيير خارطة السينما الأوروبية و العالمية ، يروقني ذلك في الفيلم أكثر مما يمكن تخيله ، و لا يمكن أن أجد مقطوعةً يمكن أن تصبح نشيداً قومياً للموجة الفرنسية الجديدة أكثر من المقطوعة الإفتتاحية للفيلم حيث كاميرا هنري دوكاي في لقطاتٍ بعيدة (تلصصية) لبرج ايفل من أماكن مختلفةٍ من باريس (مسقط هوى أشهر أفلام الموجة) على موسيقى جان كونستانتين تنتهي إلى البرج مع إهداءٍ لأندريه بازان المنظّر والمعلّم الذي رحل بالسل أثناء الأيام الأولى لتصوير هذا الفيلم ، لا أعتقد أنه يمكن تقديم الموجة الفرنسية الجديدة للعالم بأجمل من ذلك.

و بالطبع لا أغفل اعتناء تروفو الدائم بالمشهد و التوازن الذي لا أدري كيف كان يجيده بين قيمة المشهد و قيمة الطريقة التي يقدمه بها و الذي يصنع تراصفاً موزوناً و ثقيلاً جداً على مستوى التقدم الدرامي / البصري للفيلم و العلاقة التي يشكلها مع المشاهد ، أجاد هذا حتى في أقل أفلامه قيمة و من أجله تحديداً أرى تروفو فوق جميع مخرجي الموجة بالرغم من اقراري بعظمة تجربتهم ، يحضرني دائماً مشهد الإستجواب النفسي الذي يجري لأنتوان في المصح و الطريقة التي يقدمه بها تروفو من خلال اللقطة الثابتة مع مونتاجٍ ذوباني دون رؤيتنا وجه المحققة ، و اللقطات التي يلتقط فيها تروفو المكان سواءً في دائرة الشرطة أو في السجن بذات الطريقة التي يعرفنا فيها على كل مكانٍ يأخذنا إليه ، و الطريقة التي يتناول بها نظرات أنتوان نحو الخارج أثناء نقله في سيارة الشرطة ربما بأسلوب تكرر أكثر من مرة في أفلامٍ تلته ، و بالطبع اللقطة الطويلة الساحرة لأنتوان يركض قرب نهاية الفيلم بإتجاه الشاطيء – برمزيةٍ عاليةٍ للحرية و الإنعتاق – ثم يلتفت نحو الكاميرا حيث يمنحنا تروفو ربما أشهر Freezing في تاريخ السينما يوثق من خلاله العلاقة المزدوجة بين أنتوان دوينل و فرانسوا تروفو بفن السينما ، و يختتم واحداً من أعظم و أنقى التجارب السينمائية على الإطلاق .

التقييم من 10 : 10 


0 تعليقات:

إرسال تعليق

free counters